"تبة النويري" في غزة.. من بوابة النزوح القسري إلى عتبة العودة
بينما يترقب آلاف النازحين في "تبة النويري" انسحاب قوات الاحتلال بعد اتفاق وقف إطلاق النار، تبقى المنطقة شاهدةً على مأساة النزوح القسري التي عاشها الفلسطينيون بعد عامين من الحرب.
-
"تبة النويري" في غزة.. من بوابة النزوح القسري إلى عتبة العودة
برغم الإعلان عن التوصل إلى اتفاق بين "إسرائيل" وحركة حماس في شرم الشيخ فجر الخميس، والذي يتضمن انسحاب الاحتلال، ودخول المساعدات، وتبادل الأسرى، ما يزال المواطنون في جنوب ووسط قطاع غزة، وتحديداً عند "تبة النويري"، ينتظرون انسحاب قوات الاحتلال الموجودة هناك، حتى يتمكنوا من التحرك نحو الشمال والعودة إلى منازلهم ومناطقهم المدمرة.
في المدخل الغربي لمخيم النصيرات وسط القطاع، ترتفع "التبة" كرمز صامت لمعاناة الفلسطينيين، شاهدةً على مأساة النزوح القسري التي أجبرت آلاف المدنيين على مغادرة منازلهم. وتقع التبة على الطريق الساحلي المؤدي إلى محور "نتساريم"، الحاجز الذي يفصل شمال القطاع عن وسطه وجنوبه، ما يجعلها ممراً حيوياً محفوفاً بالمخاطر.
منذ أسابيع، شهدت مدينة غزة موجات نزوح واسعة نحو الوسط والجنوب، وتحولت "التبة" إلى نقطة تجمع رئيسية للنازحين الذين نصبوا خيامهم هناك مطلع كانون الثاني/يناير 2025 بعد وقف إطلاق النار. وبرغم الهدوء النسبي، بقيت المنطقة بوابةً دمويةً، حيث يرصد الاحتلال كل حركة فيها ويطلق النار بلا تمييز، ما حوّل الطريق إلى ساحة رعب بين الحياة والموت.
ومؤخراً، أعلن وزير حرب الاحتلال يسرائيل كاتس إعادة السيطرة على محور "نتساريم" وشارع الرشيد، ومنع الحركة من الجنوب إلى الشمال، بنيّة إعادة بناء الحواجز، ويأتي القرار ضمن سياسة الاحتلال التي اعتبرت كل من تبقّى في غزة "عنصراً في المقاومة" أو "مؤيداً لها"، ما يجعل استهدافهم مشروعاً وفق تصريحاته.
خلال العدوان، توقفت جموع النازحين عند التبة بعد رحلة شاقة سيراً على الأقدام أو في شاحنات مكتظة، واضطر السائقون لعبورها كالشريان الوحيد نحو الجنوب، قبل أن تتحول إلى "قناة للموت" خلال مجزرة حزيران/يونيو 2024 التي أودت بحياة أكثر من 200 فلسطينياً.
يقف الفلسطيني عبد الرحمن شريتح، من حي الشجاعية شرق غزة، اليوم على "تبة النويري"، مثل آلاف المواطنين النازحين الذين ينتظرون اللحظة التي يتمكنون فيها من العودة إلى بيوتهم ومناطقهم المدمرة.
يقول شريتح في حديثه إلى الميادين نت: "في الوقت الراهن، أنتظر انسحاب قوات الاحتلال من محيط النويري حتى أتمكن من العودة إلى منطقتي ومعرفة مصير بيتي، هل ما زال واقفاً أم دمره القصف بالكامل، شأني شأن مئات آلاف الفلسطينيين الذين يعيشون على أمل العودة واكتشاف ما تبقّى من منازلهم وذكرياتهم".
ويضيف: "أنظر نحو الشمال بعين القلق والأمل، مترقباً انسحاب قوات الاحتلال ليتحقق حلم بسيط لكنه عظيم بالنسبة لي: العودة إلى أرضي، وتفقّد بيتي، والاطمئنان على جيراني وأحبائي"، مشيراً إلى أنّ هذا الانتظار الطويل أرهق الجميع نفسياً وجسدياً، لكنه ما زال يتمسك بالأمل بأن يكون اتفاق وقف إطلاق النار بدايةً حقيقيةً للحياة بعد عامين من الموت والنزوح.
ويبين شريتح أنّ عبور "تبة النويري" كان محفوفاً بالخطر بسبب الدبابات والقصف والطائرات المسيّرة، ما جعل الرحلة مزيجاً من الرعب والإرهاق، وأن التبة تحولت إلى رمز لمعاناة الفلسطينيين في طريقهم إلى النجاة.
أما الشاب قصي حميد، فيصف المشهد الإنساني المؤلم على "تبة النويري"، قائلاً: "النازحون ينتظرون تحت الشمس الحارقة حاملين أطفالهم وما تبقى من أمتعتهم، والأطفال مرهقون، الأمهات يكافحن لحمايتهم، والشيوخ يتحركون بحذر"، مضيفاً أنّ "التبة ليست مجرد محطة مؤقتة، بل شاهد حي على الألم اليومي".
ويلفت حميد للميادين نت، إلى أنّه ينتظر دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، حتى يتمكن من العودة إلى خيمته القديمة ومكانه الأول بين جيرانه وأحبّته، ولزيارة قبور الشهداء الذين فقدهم خلال العدوان، على أمل أن تكون هذه المرة آخر فصول النزوح والألم.
ويبين أنّ "أهالي شمال ومدينة غزة اضطرّ معظمهم للنزوح أكثر من 15 مرة، وسط نقص حاد في وسائل النقل والمال، ما أجبر بعضهم على نصب خيامهم في منطقة النويري رغم الخطر الشديد، نظراً لمعاناة المناطق الجنوبية من نقص حاد في أماكن الإيواء".
ويوضح حميد أنّه نزح في الأسابيع الأخيرة بعدما فقد كل ما يملك، ولم يجد مأوى سوى خيمة بسيطة في المنطقة، مشيراً إلى أنّ الحياة في الجنوب بائسة للغاية، فالماء نادر، والغذاء شحيح، والازدحام يفاقم المعاناة اليومية.
بدوره، يؤكد المواطن إبراهيم المغربي أنّ الاتفاق الأخير مثّل بصيص أمل في وجه الإبادة والدمار، وفتح نافذة رجاء لحياة أكثر استقراراً، لكن "التبة" لا تزال مكاناً خطيراً لا يمكن الاقتراب منه حتى ينسحب الاحتلال تماماً، لتعود المنطقة آمنة ويستطيع الناس عبورها نحو منازلهم وأراضيهم وذكرياتهم.
ويقول المغربي في حديثه إلى الميادين نت، إنّ "تبة النويري" كانت شاهدة على جميع مراحل العدوان، من موجات النزوح الأولى إلى محاولات العودة، قبل أن تتحول مجدداً إلى ممر قسري، وصولاً إلى ساعات الخوف والرعب التي عاشها النازحون من جراء تمركز قوات الاحتلال بالقرب من التلة، قبل أي إعادة انتشار بعد اتفاق وقف إطلاق النار.
ويضيف المغربي، أنّ "التبة" تحوّلت إلى نقطة فاصلة حاسمة بين بيوت الأهالي المهجّرة وواقع النزوح القاسي، حيث يعاني النازحون في المناطق الجنوبية من نقص شديد في الخيام والمأوى والطعام والمياه والوقود، إلى جانب قلة المراحيض وغياب وسائل النقل، ما يجعل حياتهم اليومية مأساوية وصعبة للغاية.
وتنتشر مخيمات النازحين قرب "تبة النويري"، حيث يعيش السكان في ظروف صعبة وسط رعب دائم من الدبابات والطائرات الحربية.
يبيّن الغزاوي فرج زعيتر للميادين نت أنّه يعيش مع أسرته على بعد 600 متر من محور نتساريم، ويقول: "أخطر ما يهددنا هي الدبابات والرصاص العشوائي، وبعد السادسة مساءً يُفرض حظر التجول داخل الخيام، والخوف لا يفارقنا".
ويؤكد أنّ اتفاق وقف إطلاق النار يشكل طوق نجاة من نيران الاحتلال، ويعد بارقة أمل في المستقبل، لافتاً إلى أنّه وبالنسبة للنازحين في غزة، يمثل هذا الاتفاق فرصة للعودة إلى منازلهم ومناطقهم المدمرة بعد أشهر طويلة من القلق والخوف المستمرين.
ويضيف زعيتر أنّ الاتفاق يحمل الأمل في استعادة حياة طبيعية ولو تدريجياً، وإعادة الإعمار، وتخفيف المعاناة اليومية التي عاشها السكان منذ اندلاع العدوان، ليصبح نقطة تحول نحو الاستقرار والأمان في المستقبل القريب.
ويشير زعيتر إلى أنّه برغم طوق الأمان النسبي، يظل الواقع صعباً للغاية، حيث المكان مكتظ بالشاحنات والسيارات لنقل الممتلكات، بينما تضطر بعض العائلات للسير على الأقدام بسبب نقص الوقود وارتفاع الأسعار، وسط ازدحام مستمر وخطر دائم.
من جهته، يشير أستاذ الجغرافيا محمد صالحة إلى أنّ "تبة النويري" أصبحت رمزاً لمعاناة الفلسطينيين، تجسّد لحظات الانهيار النفسي والجسدي في ظل التهجير القسري وانعدام المأوى والأمان.
ويقول صالحة في حديثه إلى الميادين نت إنّ ارتفاع "تبة النويري" يمنحها إطلالة على مناطق مثل المغراقة والزهراء، وتقع قرب حاجز "نتساريم" العسكري، ما يجعلها محطة محورية للنازحين قبل التوجه إلى الوسط والجنوب أو العودة للشمال عبر المحور ذاته.
ويبين صالحة أنّ "تبة التويري منذ بداية العدوان كانت شاهداً على نزوح سكان غزة، وتعرضت لهجمات أودت بحياة العديد وأدت إلى إصابات، فيما يواجه النازحون هناك معاناة يومية تشمل الإهمال الإنساني، ما يجعلها موقعاً شديد الخطورة يهدد حياتهم".
وبحسب وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، فإنّ تكلفة نزوح كل عائلة من شمال غزة إلى الجنوب تصل إلى 3,180 دولاراً، في ظل شح الوقود وغياب الملاجئ والاكتظاظ وغياب المداخيل بعد عامين من الحرب.
وفي الإطار ذاته، يؤكد المتحدث باسم الدفاع المدني في غزة، محمود بصل، أنّ مناطق مثل "تبة النويري" أصبحت محورية في عمليات النزوح، حيث يواجه السكان ازدحاماً شديداً وخطراً دائماً من القصف والطائرات المسيّرة، فيما يتنقل آخرون سيراً على الأقدام أو بشاحنات متهالكة.
ويقول بصل للميادين نت: "المنطقة التي ادّعى الاحتلال أنّها آمنة وإنسانية ويطالب السكان بالنزوح إليها لا تتجاوز 12% من مساحة القطاع، ما يجبرهم على العيش في مساحة ضيقة تفتقر لأدنى مقومات الحياة"، مؤكداً أنّ ذلك يحدث وسط فقدان المأوى والخدمات الأساسية، وتدمير واسع للبنى التحتية، وخروج عشرات المستشفيات عن الخدمة.
من جانبه، يؤكد مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إسماعيل الثوابتة، للميادين نت، أنّ أكثر من نصف مليون فلسطيني كانوا لا يزالون صامدين في مدينة غزة وشمالها برغم القصف والإغلاق.
ويلفت الثوابتة، إلى أنّ "إغلاق شارع الرشيد الساحلي جزء من سياسة الحصار والإبادة الجماعية، والادعاء بالسماح بالنزوح جنوباً ذرائع كاذبة"، مضيفاً أنّ الاحتلال سعى لحشر أكثر من 1.7 مليون نسمة في 12% من مساحة القطاع ضمن سياسة تهجير قسري ممنهجة.