"مدينة إنسانية" في رفح: واجهة لمخطط تهجير إسرائيلي جديد

ما بين المخطط غير المعلن، والواقع الميداني الخانق، تقف رفح اليوم على حافة مشروع أكبر من خيام أو إغاثة.. مشروع يسعى لإعادة صياغة الوجود الفلسطيني نفسه، عبر "احتواء سكاني" طويل الأمد، يُمارَس تحت ضغط الحرب، ويُسوّق عبر مفردات العمل الإنساني.

0:00
  • "مدينة إنسانية" في رفح: واجهة لمخطط تهجير إسرائيلي جديد

منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، تحوّلت مدينة رفح، في أقصى جنوب القطاع، إلى ملاذ مؤقت لأكثر من مليون نازح من شمال غزة. لكن هذا "الملاذ" كان قد طاله القصف والتهجير والتدمير أيضًا، بل وأكثر، إذ بدأت "إسرائيل" تروّج – سياسيًا وعسكريًا – لفكرة إنشاء "مدينة إنسانية" على أنقاض رفح، تستوعب نحو 600 ألف فلسطيني، تحت رقابة أمنية صارمة، وفق ما كشفه وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت ووزير الخارجية إسرائيل كاتس، في أكثر من مناسبة منذ شباط/فبراير 2024. 

وبرغم أن المشروع لم يُنفّذ حتى اليوم، إلا أن التمهيد الإعلامي والسياسي له بات مكشوفًا، فيما تصفه صحف إسرائيلية ودوائر حقوقية بأنه "نموذج تهجير قسري بمظهر إنساني"، أو حتى "معسكر اعتقال مغلّف بالمساعدات". 

خطة "المدينة الإنسانية".. واجهة لسياسة الحشر السكّاني 

تقوم الفكرة – وفق التصريحات الإسرائيلية – على إقامة مدينة خيام في رفح، يُنقل إليها المدنيون الفلسطينيون بعد إخضاعهم لفحص أمني دقيق، على أن يُمنعوا لاحقًا من المغادرة. وقد كشفت صحيفة هآرتس، في افتتاحيتها بتاريخ 10 تموز/يوليو 2024، أن هذا المشروع لا يهدف إلى حماية المدنيين، بل يمثل "ترانسفيرًا إجراميًا يجري الترويج له بعبارات منمّقة"، مؤكدة أن ما يُبنى في رفح "ليس مدينة إنسانية، بل معسكر اعتقال لا يخرج منه أحد إلا إذا قرر الهجرة".

وفي تصريح لافت، قالت وكالة الأونروا، عبر المفوض العام فيليب لازاريني، إن المخطط "يحوّل غزة من أكبر سجن مفتوح في العالم إلى السجن الأكثر اكتظاظًا ورقابة". أما المتحدثة باسم الوكالة، تمارا الرفاعي، فأكدت أن المشروع "لا يمت للإنسانية بصلة"، بل يُهدد بتجميع جميع سكان غزة في مساحة لا تتجاوز 55 كلم² على حدود مصر.

العزل الجغرافي وممر "موراج"

لا تنفصل خطة رفح عن مشروع آخر يُعرف بـ"محور موراج" – وهو ممر أمني إسرائيلي يمتد شرق رفح ويهدف إلى فصل المدينة عن خان يونس. وقد أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أن إنشاء هذا المحور يمثل "خطوة استراتيجية" للقضاء على حماس. لكن تحليلات أمنية، نُشرت في مركز مدكان الإسرائيلي، تشير إلى أن الهدف الأعمق هو فصل الجنوب الفلسطيني جغرافيًا، وتحويل رفح إلى جيب مغلق يمكن التحكم فيه أمنيًا، وعزله عن بقية القطاع.

وما يدعم هذه التوجهات خرائط عملياتية نشرها جيش الاحتلال، عبر صحيفة "معاريف" في شباط/فبراير 2024، تُظهر تقسيم غزة إلى مناطق ملونة بحسب الكثافة السكانية، مع توصيات بإفراغ الشمال والوسط تدريجيًا، وإبقاء الكتلة السكانية في الجنوب – تحديدًا ما بين رفح وخان يونس.

"الهجرة الطوعية": الوجه الناعم للترحيل

الترويج لفكرة "الهجرة الطوعية" بات جزءًا من الخطاب السياسي الإسرائيلي. وزير المالية بتسلئيل سموتريتش قال في الكنيست في تشرين الثاني/نوفمبر 2023: "يجب تهيئة الظروف لتشجيع الفلسطينيين على الهجرة، فهذا ليس حلًا أمنيًا فقط بل ديموغرافي".

كذلك، دعا وزير الاقتصاد نير بركات في مقابلة مع قناة "I24 NEWS" في كانون الأول/ديسمبر 2023 إلى تشكيل تحالف دولي لاستقبال الغزّيين "الذين يستحقون فرصة لحياة أفضل". هذه الدعوات، وإن بدت نظرية، ترتبط عمليًا بمشاريع الضغط على السكان عبر النزوح، قطع الخدمات، الحصار الغذائي، وانعدام الأفق، ما يجعل "الخروج" خيارًا مفروضًا لا طوعيًا.

وفي هذا السياق، أكدت "هيومن رايتس ووتش" في تقرير نشرته بتاريخ 28 أيار/مايو 2024 أن "استخدام الظروف الإنسانية الكارثية كأداة لدفع السكان على النزوح يرقى إلى التهجير القسري، ويعد خرقًا واضحًا للقانون الدولي".

القانون الدولي: عناصر جريمة تتحقق

وفق المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، يُحظر "النقل القسري الجماعي أو الفردي للسكان من الأراضي المحتلة"، ويُعد ذلك جريمة حرب ما لم يكن لضرورة أمنية مباشرة أو لحماية السكان أنفسهم. في الحالة الغزّية، لا يوجد إعلان رسمي بترحيل، لكن النتائج الفعلية – التجميع القسري، الحرب الممنهجة، تقييد الحركة، الضغط الإنساني، والخطط الإعلامية – تُظهر تحقّق العناصر القانونية للجريمة، حتى دون تنفيذها علنًا.

وتحذّر لجنة الأمم المتحدة للتحقيق في الأراضي الفلسطينية من أن "الهجرة تحت التهديد أو انعدام الكرامة لا تُعد طوعية"، وتوصي بوقف أي مشاريع لإعادة توطين قسري أو تغيير ديموغرافي في غزة.

السيناريوهات المقبلة: رفح... إلى أين؟

برغم أن سكان رفح أنفسهم نازحون اليوم ولم تبدأ أي عملية تنظيم لإعادتهم، إلا أن المخططات المطروحة تجعل من المدينة مركز الثقل في سيناريوهات مقلقة. صحيفة هآرتس بتاريخ 26 أيار/مايو 2024 نقلت عن مصادر في الكابينت الإسرائيلي نيّتهم إقامة منطقة مغلقة على حدود رفح - سيناء، تمهيدًا لإدارة الكتلة السكانية بحراسة أمنية مشددة. كما اقترح النائب داني دانون، في مقال مع إيلي كوهين نُشر في جريدة "وول ستريت جورنال" في كانون الثاني/يناير 2024، نقل سكان غزة إلى دول أخرى، بينها مصر.

من جهتها، أكدت القاهرة رفضها رسميًا هذه الطروحات أكثر من مرة، لكن الأزمة الإنسانية الضاغطة، وغياب مسار سياسي فلسطيني قادر على صد هذه التصورات، يجعلان من سيناريو الترحيل القسري خطرًا قائمًا، حتى وإن لم يُنفّذ اليوم.

حين تُبنى "المدينة الإنسانية" على أنقاض الحياة

ما بين المخطط غير المعلن، والواقع الميداني الخانق، تقف رفح اليوم على حافة مشروع أكبر من خيام أو إغاثة... مشروع يسعى لإعادة صياغة الوجود الفلسطيني نفسه، عبر "احتواء سكاني" طويل الأمد، يُمارَس تحت ضغط الحرب، ويُسوّق عبر مفردات العمل الإنساني.

وإذا لم تُقابل هذه الخطط بخطاب فلسطيني موحّد، وضغط دولي فعّال، فإن ما يُراد له أن يكون "حلًا مؤقتًا" قد يتحول إلى بوابة نكبة جديدة، تُنفّذ بهدوء، ولكن على مرأى الجميع.

اخترنا لك