"مملكة فلسطين" الاقتصادية.. كيف تضررت نابلس بحرب الإبادة والإغلاقات؟

تُعرف نابلس بـ"مملكة فلسطين غير المتوجة" لثقلها الاقتصادي والصناعي، حيث تضم مئات المصانع وآلاف المستثمرين، لكن حرب الإبادة والاغلاقات الإسرائيلية خنقت أسواقها. وبرغم الحصار والاقتحامات، تواصل المدينة وأهلها حماية صناعاتهم الوطنية وترسيخ حضورهم الاقتصادي.

0:00
  • "مملكة فلسطين" الاقتصادية.. كيف تضررت نابلس بحرب الإبادة والإغلاقات؟

على مساحة تقارب 600 كيلومتر مربع، يعيش أكثر من 400 ألف نسمة في 61 مدينة وقرية وتجمعاً سكانياً بمحافظة نابلس. 

تتميز المحافظة بنشاط اقتصادي واسع يقوم على أكثر من 1200 مصنع في مجالات الصناعات الغذائية والمنظفات، إضافة إلى المحاجر والكسارات والمناشير ومصانع الطوب والباطون ومشاغل الخياطة. كما تضم المحافظة أعلى نسبة من عدد التجار المسجلين في فلسطين بنسبة بلغت 39% لعام 2024، وتحتل المرتبة الثانية في عدد المصانع الجديدة للعام نفسه، فيما يُعدّ سكانها الأكثر استثماراً في البورصة.

لهذا، تُعرف نابلس بأنها "مملكة فلسطين غير المتوجة"، لأن الأفضلية الرمزية تبقى لمدينة القدس. لكن الاحتلال الإسرائيلي، خاصة بعد حرب الإبادة، ضيّق الخناق على اقتصاد المدينة وخنق حركتها التجارية. 

 الطرق إلى نابلس.. بين الحواجز والسواتر

تغيّرت الطريق إلى نابلس جذرياً منذ حرب الإبادة، إذ أغلق الاحتلال أكبر منافذها عبر بلدة حوارة بالسواتر الاسمنتية. فاضطر الفلسطينيون إلى سلوك طرق بديلة أطول زمناً وأكثر مشقة.

برغم ذلك، يعيش الزائر داخل نابلس بين مدنها وقراها والبلدة القديمة أجواء مختلفة تزخر بالتجارة والأسواق. وبين أزقة البلدة القديمة يستشعر تاريخ المدينة واسمها القديم "دمشق الصغرى"، حيث كانت ترتبط بعلاقات تجارية وثيقة مع دمشق. الأسواق متشابهة بين المدينتين، لكن نابلس اليوم تئن تحت الاحتلال.

 نابلس وجهة الزوار قبل الحصار

تقول أم أحمد من نابلس: "كانت المدينة تكتظ بالزوار خاصة في أيام العطل الأسبوعية، إذ يأتينا أهلنا من أراضي فلسطين المحتلة عام 1948 أيام السبت والأحد، وزوار الضفة أيضاً، عدا عن رحلات الجمعة في منطقة الباذان والرحلات المدرسية. لكن كل هذا توقف بسبب إغلاق حاجز حوارة وإقامة السواتر الترابية عند اللبن الشرقية وتعزيز الحواجز في بيتا وبرقة وزعترة، إضافة إلى الاقتحامات اليومية. هذه الإجراءات جعلت الكثيرين يترددون أو يفضلون عدم زيارة نابلس، ما انعكس مباشرة على السوق والتجارة".

 سلة الزائر المكتملة

يدرك الفلسطينيون في الضفة وأبناء الداخل المحتل أن نابلس هي الوجهة الأنسب لقضاء يوم متكامل: طعام شهي، حلويات مشهورة، أماكن تاريخية، أسواق شعبية، ومنتجات متنوعة.

يؤكد المهندس فهد بني عودة، مدير مديرية الاقتصاد الوطني في نابلس، أن ما يميز اقتصاد المحافظة هو وجود شركات كبرى وعريقة: شركات جملة، شركات استيراد متعددة الأصناف من السلع الاستهلاكية والأولية، شركات اتصالات وأدوية وبورصة ومستحضرات تجميل. كما تضم المدينة مصانع ألمنيوم حاصلة على شهادات جودة محلية ودولية.

تتركز أيضاً الصناعات الوطنية في نابلس: الحلاوة والطحينة، العصائر، اللحوم المعلبة، الألبان، والصابون النابلسي المعروف عربياً ودولياً، الذي يعتمد على زيت الزيتون الصافي.

 الحجر والنساء في اقتصاد نابلس

تشير المؤشرات الإحصائية إلى أن نابلس تحتل المرتبة الثالثة من حيث عدد رخص المحاجر لعام 2024. ويعود ذلك إلى تضاريسها الغنية بأجود أنواع الحجر الفلسطيني الذي يُصدّر عربياً وتعود عليه عوائد اقتصادية كبيرة.

يضيف بني عودة أن للنساء دوراً بارزاً في الاقتصاد النابلسي، من خلال مشاغل الخياطة المتخصصة في صناعة الملابس للتصدير، إلى جانب الصناعات الجلدية القديمة مثل الأحذية والحقائب. كما افتتحت نساء مشاريع غذائية تصدَّر للخارج، فضلاً عن انتشار شركات الأثاث التي تعتمد على مناجر محلية عالية الجودة تنافس المستورد.

 أثر حرب الإبادة على اقتصاد نابلس

يرى التاجر والمخلّص الجمركي طارق سقف الحيط أن حرب الإبادة في غزة تركت أثراً بالغاً على نابلس: "المدينة مغلقة ليس فقط منذ الحرب، بل منذ الانتفاضة الثانية. الزائر لا يعرف إن كانت الطريق إلى نابلس مفتوحة أم مغلقة، وقد يستغرق الوصول ثلاث ساعات بدلاً من أربعين دقيقة. هذا أثّر على الحركة الشرائية وعلى تكامل نابلس مع بقية المحافظات. نحن المحافظة الوحيدة المغلقة بالكامل، نشعر أننا محاصرون اقتصادياً".

وتشير تقارير وزارة الاقتصاد الفلسطينية إلى انخفاض رخص الاستيراد بنسبة 85%، وتراجع قيمتها. قطاعات انهارت، وأخرى انكمشت، وبعضها نما مثل استيراد السلع الغذائية والصحية. كما تأثر التجار الذين يعتمدون البيع بالشيكات بعد تزايد حالات عدم السداد.

 قيود إسرائيلية وخنق الموانئ

يفرض الاحتلال قيوداً على استيراد سلع يعتبرها ذات "بعد أمني"، ويحجب بعض الرخص، إضافة إلى بطء في الموانئ حيث تعطى الأولوية لبواخره، ما يؤخر وصول البضائع الفلسطينية إلى 40–60 يوماً بدلاً من 20 يوماً.
البلدة القديمة من أكثر المناطق تضرراً بسبب الاقتحامات المتكررة، ما أدى إلى إغلاق متاجر ومصانع. الصناعات التقليدية مثل الصابون تواجه صعوبات كبيرة، لكن أصحابها يصرون على مواصلة العمل ولو بأرباح قليلة حفاظاً على المهنة المتوارثة.

بورصة فلسطين في قلب نابلس

استقرت في نابلس العديد من المؤسسات الوطنية الكبرى، وأبرزها بورصة فلسطين التي تأسست عام 1997 لتكون البوابة الاستثمارية الأولى.

يقول أحمد صافي، مسؤول العلاقات العامة في البورصة، إن القيمة السوقية للشركات المدرجة بلغت مع نهاية 2024 نحو 4.1 مليار دولار، موزعة على 48 شركة في قطاعات البنوك والخدمات المالية، والخدمات، والصناعة، والاستثمار، والتأمين. ويعمل في البورصة 10 شركات وساطة مالية و3 بنوك للحفظ الأمين، وتعتبر من أوائل الأسواق العربية المؤتمتة بالكامل.

يبلغ عدد المساهمين من نابلس حوالى 16 ألفاً، أي ما يعادل 23% من إجمالي المساهمين، ما يجعلها المحافظة الأكبر استثماراً.

لكن العدوان على غزة والضفة أدى إلى انخفاض مؤشر القدس بنسبة 15% عام 2024، وتراجع معدل التداول اليومي بنسبة 50%. ومع ذلك، حافظت البورصة على عملها وتجاوزت أثر إغلاق المدينة.

 صمود نابلس.. إرث يتحدى الاحتلال

برغم الحصار، الاقتحامات، والإغلاقات اليومية، يواصل التجار والعمال والنساء في نابلس تمسكهم بصناعات الأجداد ومشاريعهم الوطنية. نابلس اليوم ليست مجرد مدينة اقتصادية، بل رمز لصمود الشعب الفلسطيني في مواجهة حرب الإبادة والاحتلال، حيث يحاول أهلها أن يحافظوا على روح مدينتهم بوصفها "مملكة فلسطين غير المتوجة".

اخترنا لك