المجاعة ومعاناة الأطباء في غزة: أجساد منهارة وجروح لا تلتئم

تركت المجاعة الراهنة في قطاع غزة أثراً عميقاً على الواقع الطبي، إذ دفعت الأطباء إلى إعادة صياغة قراراتهم الجراحية بشكل جذري، نتيجة التدهور الحادّ في الحالة الصحية للمرضى.

0:00
  • المجاعة تغيّر أسلوب الجراحة في غزة: أجساد متهالكة في
    المجاعة تغيّر أسلوب الجراحة في غزة: أجساد متهالكة في "العمليات"

المجاعة لا تقتل بالجوع فقط بل تهدم الجسد من الداخل، وتُربك مشرط الجرّاح قبل أن يلامس الجلد، حينها تصبح غرفة العمليات مكاناً محفوفاً بالخطر لا بالنجاة، ويفكّر الجراح ألف مرة قبل أن يُمسك بالمشرط. هنا، لا تُقاس المعاناة بعدد السعرات المفقودة، بل بعدد العمليات المؤجّلة، والكسور التي لا تلتئم، والأجساد التي تنهار بصمت تحت وطأة النقص الفادح في الغذاء والدواء معاً. 

في قلب هذه الكارثة الصامتة، يتحدّث الطبيب عز الدين شاهين عن مشهد طبي قاسٍ، قرارات تُتخذ ليس وفق ما يجب، بل وفق ما هو ممكن في ظلّ واقع صحي متهالك، سببه الأول: المجاعة.

يؤكّد عز الدين شاهين، الجرّاح في مستشفى "شهداء الأقصى"، أنّ المجاعة الراهنة تركت أثراً عميقاً على الواقع الطبي، إذ دفعت الأطباء إلى إعادة صياغة قراراتهم الجراحيّة بشكل جذري، نتيجة التدهور الحادّ في الحالة الصحية للمرضى بسبب نقص التغذية، وأوضح أنّ غياب العناصر الأساسية، وعلى رأسها البروتين والكالسيوم، جعل من التئام الجروح والكسور عملية بالغة الصعوبة، بل مستحيلة أحياناً، ما اضطرّ الفرق الطبية إلى تأجيل أو إلغاء العديد من العمليات غير الطارئة.

وأشار شاهين إلى أنّ القرار الجراحي اليوم لم يعد مرتبطاً فقط بتشخيص الحالة، بل بات مرهوناً بمدى قدرة جسم المريض على التعافي، ففي حالات مثل ثقوب الأمعاء، التي تُعالج عادة بالخياطة، يلجأ الجرّاحون حالياً إلى استئصال الجزء المصاب أو إجراء فتحة جانبية في البطن، لعلمهم أنّ التئام الأنسجة لم يعد مضموناً في ظل غياب البروتين اللازم لبناء العضلات وتجديد الخلايا.

ولفت إلى أنّ جراحة العظام لم تسلم هي الأخرى من تأثيرات المجاعة، إذ تغيّرت تقنيات تثبيت الكسور، وغالباً ما تؤجّل العمليات حتى في الحالات الحرجة، خاصة لدى كبار السن، خوفاً من فشل العملية أو دخول المريض في غيبوبة نتيجة النقص الحادّ في البروتين وسائر المغذّيات، وفيما مضى، كان بالإمكان تعويض هذا العجز عبر مكمّلات غذائية أو مستحضرات طبية كـ"الإنشور"، إلّا أنّ هذه البدائل لم تعد متوفّرة حالياً.

المجاعة تفتك بمناعة الغزيين

  • المجاعة تصعب عملية اتخاذ القرار بالنسبة للجراحين في غزة (عملية جراحية في المشفى الكويتي في رفح - أ ف ب)
    المجاعة تصعب عملية اتخاذ القرار بالنسبة للجراحين في غزة (عملية جراحية في المشفى الكويتي في رفح - أ ف ب)

وشدّد شاهين على أنّ المجاعة لا تضعف التئام الجروح فحسب، بل تفتك بجهاز المناعة، وتُضعف بنية الأنسجة، ما يجعل الالتهابات المزمنة أكثر شيوعاً وخطورة. ونتيجة لذلك، تُلغى العديد من العمليات غير الطارئة لعلم الأطباء بأنّ الجرح لن يلتئم، ما يؤدّي إلى تكدّس المرضى في المستشفيات ويضاعف الضغط على الطواقم الطبية المنهكة.

وأضاف أنّ الأطفال هم من أكثر الفئات تضرراً، إذ يعاني معظمهم من فقر دم حادّ بسبب انخفاض نسبة الهيموغلوبين في الدم، فيما تُولد أعداد كبيرة من الرضّع بأوزان منخفضة تجعلهم عرضة لضعف المناعة منذ اللحظة الأولى.

 كما أشار إلى أنّ الكسور التي كانت تلتئم خلال أربعة أشهر في الظروف الطبيعية، باتت اليوم تحتاج إلى وقت أطول بكثير، أو تلتئم بطريقة خاطئة بسبب النقص المزمن في العناصر الغذائية الأساسية.

لكنّ الأشدّ قسوة لا يكمن في معاناة الجسد فقط، بل في المعاناة النفسية التي يعيشها الطبيب نفسه، كما يصفها الطبيب مروان السلطان، مدير المستشفى الإندونيسي في شمال قطاع غزة.

ويوضح السلطان أنّ المجاعة لم تقتصر تأثيراتها على نتائج العمليات الجراحية فقط، بل "كأنها أعادت تشكيل العقل الجراحي"، مؤكداً أنّ الأطباء اليوم باتوا يتخذون قرارات لا ترتكز فقط على ما هو ضروري طبياً، بل على ما يستطيع الجسم المريض تحمّله.

ويوضح أنّ الجرّاح في السابق كان يقاتل من أجل إنقاذ كلّ جزء من جسم المريض، لكن في الوقت الراهن، أصبحت الأولوية تحديد ما يمكن للجسم الجائع أن يتحمّله من دون أن ينهار بالكامل.

وأشار إلى أنّ هذه القرارات، التي قد توصف بأنها "وقائية"، هي في جوهرها قرارات مليئة بالألم والتردّد، بل مبنية على واقع قاسٍ مفاده أنّ الجسد الجائع لا يملك القدرة على الشفاء.

وأضاف أنه في غياب بيئة صحية داعمة، يشعر الجرّاحون بأنهم يقدّمون أقلّ مما هو مطلوب، وهو ما يولّد شعوراً بالحزن المستمرّ بين الطواقم الطبية، وكأنهم لا يقاومون المجاعة في أجساد المرضى فقط، بل يحاولون ألّا تنهار أرواحهم هم أيضاً.

اقرأ أيضاً: أطباء من غزة يروون كيف تم تعذيبهم وإذلالهم في المعتقلات الإسرائيلية

المعركة مع الأمراض في المستشفيات لا تقل قسوة عن معارك الميدان

في مستشفى الإندونيسي، في جناح جراحة العظام شمال غزة، يقف المريض أمجد منصور أمام مصيرٍ يخيّم عليه ظلُّ القلق، إذ أخبره الأطباء بأنّ جسمه الضعيف بفعل الإصابة في الحرب ونقص التغذية الحادّ قد يمنع إجراء عملية تثبيت الكسر بالبلاتين. وفي حال فشلت هذه الجراحة الدقيقة، قد يضطرون إلى بتر قدمه بدلاً من ترك الكسر ينهار أو يستوطنه الالتهاب.

يقول منصور: "عندما سمعت أنّ عملية زرع البلاتين قد لا تنجح إلا بصعوبة، وأنّ الفشل يعني بتر ساقي، شعرت بخوف عميق. كنت آمل أن أنجو من هذه الإصابة بلا مزيد من الألم الجسدي أو النفسي، لكن فكرة فقدان قدمٍ كانت صدمة قاسية".

انتصاب قضبان البلاتين في قدم منصور يمثّل فرصته الأخيرة لتفادي البتر، إلّا أنّ واقع المجاعة والخشية من مضاعفات الالتهاب يُحتّمان على الطاقم الطبي التمهّل في اتخاذ القرار النهائي، تاركين المريض في معركة لا تقلّ قسوةً عن جبهات القتال التي قادته إلى المستشفى في المقام الأول.

وبينما يبذل الأطباء أقصى جهدهم لإنقاذ الأرواح في ظلّ ظروف صعبة، يبقى السؤال الأكبر: كيف يمكن للجسد أن يشفى عندما يفتقد أبسط مقوّمات الحياة؟ إنّ معاناة أمجد منصور وأمثاله هي شهادة على حجم الألم الذي يعصف بسكان غزة، في وقتٍ أضحى فيه الأمل رفيقاً بعيداً لا يتجاوز اللحظة الراهنة.

ويبقى الأطباء في غزة، برغم كلّ الظروف، يقاومون بتفانٍ لا مثيل له، مؤمنين بأنّ كلّ قرار جراحي هو محاولة إنقاذ جديدة، برغم إدراكهم أنّ العلاج لا يتوقّف عند الجسد فحسب، بل يمتدّ ليشمل الروح التي تنهار من جرّاء هذه الإبادة المستمرة.

اقرأ أيضاً: 1500 فلسطيني فقدوا بصرهم بسبب الحرب: مستشفى العيون مهدد بالانهيار

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك