بين الخراب والذاكرة.. إلى أين يعود الناجون في غزة بعد الإبادة؟
عامان على الإبادة وما زال الركام شاهداً على الحكاية التي لم تنتهِ. بين خيام النزوح وخرائب المدن الممحوة، يعيش الناجون في غزة اختبار البقاء الأصعب.
-
بين الخراب والذاكرة.. إلى أين يعود الناجون في غزة بعد الإبادة؟
غزّة، أحياءٌ معلّقة بين الركام والذاكرة، تنبض بما تبقّى من حياةٍ في جسدٍ أنهكته الإبادة. مدنٌ تغيّرت تضاريسها كما تغيّرت ملامح ساكنيها، تختنق بأنين البيوت المهدّمة والطرقات التي لم تعد تعرف أين تؤدي.
عامان مضيا، وما زال الناجون يجرّون أقدامهم فوق رماد أحلامهم، يبحثون عن بيتٍ لا سقف له، وعن أمانٍ لا ظلّ له. المكان لم يعد مكاناً، بل شاهداً صامتاً على من رحلوا، وندبةً مفتوحة على من بقوا.
وفي الداخل، دمارٌ آخر لا يُرمَّم؛ أرواحٌ تحاول إعادة ترتيب نفسها بعد أن تفككت، وذاكرةٌ تتأرجح بين الرغبة في النسيان والخوف من الخيانة.
تحت هذا الركام المادّي والنفسي، يبرز السؤال الأكبر: إلى أين يعود الناجون بعد الإبادة؟
حربٌ ثانية بدأت بعد الإبادة
رنا رضوان، نازحة من شمال غزة وتقيم حالياً في الزوايدة، تصف حالها وحال من تبقّى من الناجين بأنهم يعيشون "مرحلة انتقالية بين الحياة واللاشيء"، كما تقول. وتؤكد أن الصدمة ما زالت حاضرة في تفاصيلهم اليومية، مضيفةً أن الجميع يشعر بالتشتّت وعدم الاستقرار، "كأننا معلّقون بين قرار الرحيل وهاجس البقاء، لا نعرف أين نرسو ولا كيف نبدأ من جديد".
في حديثها للميادين نت، توضح رضوان أنّ العيش في المخيمات "ليس حياة، بل تأقلمٌ قسري مع واقع فُرض علينا". وتبيّن أن شمال غزة بات مدمّراً بالكامل، "لا ماء فيه ولا حياة تُشجّع على العودة"، مشيرةً إلى أن خيارات النازحين اليوم محدودة وقاسية، "إما البقاء في الخيام بين غرباء في مناطق لا نعرفها، أو العودة إلى الشمال بخيمٍ أخرى ولكن بين أهلنا، حيث لا مقوّمات للحياة، أو الرحيل عن الوطن كلّياً". وتضيف بأسى: "نعيش حالة من التشتّت الفكري، حرب ثانية بدأت بعد نهاية حرب الإبادة".
تشدد رضوان على أن ما يعيشه الناجون الآن لا يُسمّى حياة بل "تعايش اضطراري"، موضحةً أنهم يحاولون التكيّف مع واقع انعدمت فيه كل مقوّمات العيش الكريم. "كنّا نملك بيوتاً، وندرس في الجامعات، ونزاول أعمالاً متعدّدة، وكان الله مكرّمنا ورازقنا، أما اليوم، فبعد عامين من الإبادة عدنا إلى نقطة الصفر".
تقول بحسرة: "نفقد أبسط الأساسيات: الماء، الكهرباء، النظافة، حتى دخول الحمّام أصبح معاناة، والخيمة ليست مأوى، بل قطعة قماش لا تقي من برد ولا حر، فضلاً عن انعدام الخصوصية وتراكم الأوساخ".
وتختم رضوان حديثها بالتأكيد على أنهم، برغم كل ما فقدوه، "يحاولون التأقلم لأن لا خيار آخر".
المهندس عاصم النبيه، المتحدث باسم بلدية غزة، في تصريحات صحافية، يصف المشهد بكلماتٍ تقف عند حدود الكارثة، مؤكداً أن ما شهدته المدينة خلال العامين الماضيين من عدوان "يفوق كل ما يمكن تخيّله". ويضيف أن حجم الدمار "هائل وغير مسبوق"، مشدّداً على أن ما جرى "ليس تدميراً جزئياً أو محدوداً، بل محوٌ كامل لمعالم مدينة كانت تنبض بالحياة".
يقول النبيه بأسى إنّ العدوان لم يترك زاوية من المدينة إلا ومرّ عليها الخراب، موضحاً أن الأضرار طالت المنازل والمرافق العامة والبنى التحتية على حدّ سواء. "آبار المياه دُمّرت، محطات الصرف الصحي خرجت عن الخدمة، الحدائق والمكتبات والمراكز الثقافية تحوّلت إلى ركام، وحتى المباني الأثرية التي تحمل ذاكرة المدينة لم تسلم من القصف".
ويضيف أنّ آثار الدمار لم تقتصر على المنشآت الثابتة، بل امتدّت لتصيب الآليات والمعدّات الثقيلة التابعة للبلديات، "التي كانت تُشكّل عماد العمل الخدمي والإنساني"، لافتاً إلى أنّ ما أصاب غزة خلال العامين الماضيين "أعادها عقوداً إلى الوراء في كل قطاع من قطاعاتها الحياتية".
الخيام مؤقتة... والعودة حتمية
من مخيم جباليا شمال غزة، يتحدث المواطن أنور أبو زايدة بصوتٍ يملؤه الإصرار على البقاء والانتماء، مؤكداً أن حياة النزوح في الخيام "لن تدوم إلى الأبد"، مشدداً على أنّ العودة إلى المخيم "مسألة وقت لا أكثر". ويضيف بثقة: "مهما طال الزمن، لا يمكن أن ننسى المعسكر، هذا أمر مستحيل، صحيح أننا فقدنا منازلنا وكل ما نملك، لكنّ قلوبنا ما زالت معلّقة به، نشأنا فيه منذ الطفولة، وإسرائيل بكل ما دمّرت، لن تقدر أن تمحو حبّنا له".
في حديثه للميادين نت، يوضح أبو زايدة أن المخيم بالنسبة له ليس مجرد مكان، بل ذاكرة ممتدة وقطعة من الروح، مضيفاً: "بيوتنا التي تهدّمت ما زالت حيّة فينا، في ذكرياتنا وتفاصيلنا اليومية". ويتابع بحرقة: "عشت في بيتي ستاً وعشرين سنة، كيف أنساه؟ حتى وإن صار حُطاماً، تبقى جدرانه محفورة في القلب، بكل ما فيها من فرحٍ وحزنٍ ودفءٍ لا يُنسى".
وكان الاحتلال الإسرائيلي قد شنّ عملية برية واسعة على مخيم جباليا في الخامس من تشرين الأول/أكتوبر عام 2024، استمرت قرابة ثلاثة أشهر متواصلة، خلّفت دماراً شاملاً طال كل زاوية في المخيم، وحوّلته إلى أطلالٍ صامتة بعد أن سُوّيت منازله بالأرض.
العودة التي لا طريق إليها إلا الذاكرة
بين أطلال المدن الممحوّة وخرائب الذاكرة، يعيش الناجون في غزة معركة البقاء الثانية؛ معركة لا تُخاض بالسلاح، بل بالصبر والإصرار على استعادة المعنى من بين الركام. المكان الذي كان يوماً حضناً للحياة صار شاهداً على الفقد، والرّوح التي خرجت من تحت الردم تحاول أن تبني وطناً من جديد.
بعد عامين من الإبادة، تتقاطع الحكايات بين خيمةٍ تبحث عن جدار، وقلوبٍ تبحث عن بيت، وأرواحٍ ترفض أن تُهزم، ومع كل محاولة تنفّس في هذا الركام الكبير، يظلّ السؤال معلّقاً في سماء غزة: هل يعود الناجون فعلاً إلى المكان، أم أن العودة الحقيقية تبدأ حين تستعيد الروح قدرتها على الحلم؟