جرمانا وأشرفية صحنايا أمام نار الفتنة: السوريون يدفعون ثمن التحريض الطائفي

في "أشرفية صحنايا" و"جرمانا"، مدنٌ عُرفت بتنوّعها وتآخيها، حوصر المدنيون بالخوف، والتحريض الطائفي. التقرير ينقل شهادات حيّة من الأهالي الذين عاشوا لحظات الخوف، الرفض، والتمسّك بالأمل في بلد أنهكه الخطاب الفتنوي، ولا يزال يبحث عن سلمٍ أهلي مستقر.

  • جرمانا وأشرفية صحنايا أمام نار الفتنة: السوريون يدفعون ثمن التحريض الطائفي
    جرمانا وأشرفية صحنايا أمام نار الفتنة: السوريون يدفعون ثمن التحريض الطائفي

"طوال الليل لم أتمكّن من الوصول إلى منزلي بسبب الاشتباكات العنيفة، وبقيت زوجتي وبناتي الثلاث لوحدهن وسط المعارك"، بهذه الكلمات بدأ سائق التاكسي صالح عبد الله حديثه للميادين نت، شارحاً ما جرى معه في بداية الأحداث التي شهدتها مدينة "أشرفية صحنايا" في ريف العاصمة السورية دمشق. 

عبد الله كان في طريق العودة إلى "الأشرفية"، مساء الاثنين الماضي، بعد نهاية عمله على سيارة الأجرة التي يملكها؛ لكن لدى وصوله إلى أطراف المدينة اندلعت اشتباكات عنيفة بين مجموعات مسلحة والفصائل الدرزية الموجودة داخل "أشرفية صحنايا".

يقول عبد الله: "لقد كانت ساعات مرعبة بكلّ ما للكلمة من المعنى؛ الاشتباكات كانت قريبة من منزلي الذي لا يوجد داخله إلا النساء، وأنا كنت على أطراف المدينة أترقّب انتهاء المعارك للوصول إلى عائلتي، التي عاشت حالة من الخوف والعجز في آنٍ واحد".

ويتابع: "بعد هدوء المعارك صباح الثلاثاء، تمكّنتُ من الوصول إلى المنزل؛ حينها شاهدت زوجتي وبناتي الثلاث يحتضنّ بعضهنّ في إحدى زوايا المنزل، خوفاً من دخول أيّ مسلح وقتلهنّ"؛ وتساءل عبد الله: "أيّ ذنب ارتكبه أهالي أشرفية صحنايا حتى يواجهوا هذا الرعب؟".

كيف بدأت القصة؟

يوم الاثنين، في الثامن والعشرين من نيسان/أبريل، شهدت المدينة الجامعية "السكن الطالبي" داخل مدينة حمص توتراً أمنياً كبيراً، بعد خروج تظاهرات تحمل شعارات طائفية تطالب بالهجوم على أماكن وجود الطلاب الدروز في "السكن" وقتلهم، بناءً على تسجيل صوتي -لم تثبت صحّته- نُسب إلى أحد أبناء طائفة المسلمين الموحّدين الدروز، وتتمّ فيه الإساءة إلى مقام النبي محمد.

التظاهرات تطوّرت إلى صدام بين المتظاهرين وبعض المسلحين من جهة، والطلاب من أبناء الطائفة الدرزية في السكن الجامعي من جهة ثانية، وتمّ الاعتداء على الطلاب "الدروز" وأماكن إقامتهم، قبل أن تنجح الوساطات الأهلية بنقلهم إلى مدينة السويداء في الجنوب السوري.

وبرغم خروج الشاب الذي نُسِبَ إليه التسجيل الصوتي في مقطع فيديو مصوّر ينفي فيه صحة التسجيل، وبرغم إعلان وزارة الداخلية السورية في بيان لها أنّ التحقيقات الأولية أشارت إلى أنّ الشخص الذي وُجّهت إليه أصابع الاتهام لم تثبت علاقته بالتسجيل الصوتي، وأنّ العمل جارٍ للوصول إلى صاحب التسجيل، وتقديمه للعدالة لينال العقوبة المناسبة، إلا أنّ كلّ ذلك لم يمنع من استمرار التظاهرات وتمدّدها لتتجاوز المدينة الجامعية إلى باقي أحياء حمص، ثم إلى بعض أحياء دمشق وحماة وإدلب، وسط دعوات للانتقام من الطائفة الدرزية بأكملها، كما حملت بعض التظاهرات هجوماً لفظياً على أبناء الطائفة العلوية في سوريا أيضاً.

ترافقت التظاهرات في بعض المناطق السورية، مع حملة تحريض مكثّفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي ضد أبناء الطائفة الدرزية، كما تناقل ناشطون مقاطع تظهر حمل بعض المتظاهرين خلال إحدى التظاهرات "سكاكين" داعين إلى "ذبح الدروز"، ما أعاد إلى الأذهان ما حصل يوم "الجمعة السوداء" في الساحل السوري، عندما ارتكبت فصائل متطرفة مجازر وجرائم تطهير عرقي بحق أبناء الطائفة العلوية خلال آذار/مارس الماضي.

هذه المخاوف سرعان ما تحوّلت إلى أمر واقع بعد أن حشدت فصائل متطرفة عناصرها على أطراف مدينتي "جرمانا" في دمشق و"أشرفية صحنايا" بريف دمشق، واللتين تقطنهما عائلات من الطائفة الدرزية.

جرمانا تحت النار

بمزيج اجتماعي قلّ نظيره، تقع مدينة "جرمانا" في الجنوب الشرقي من دمشق، على بُعد نحو خمسة كيلومترات فقط من مركز العاصمة، وتُعدّ منطقة سكنية مكتظّة، تتميّز بتنوّعها الطائفي والمجتمعي، ويعيش فيها أكثر من مليون نسمة، ينتمون إلى مختلف الطوائف السورية، ضمن نمط تقليدي اجتماعي من التعايش السلمي داخل سوريا.

هذا المجتمع المتنوّع كان مؤخّراً عرضة لحملات التحريض الطائفي، بعد الأحداث التي شهدتها مدينة حمص، فما كان من الفصائل المتشدّدة إلا أن شنّت هجوماً على أحياء "جرمانا" السكنية، ودارت اشتباكات عنيفة بين الفصائل المهاجمة وعناصر الحماية الدرزية الموجودة في المدينة، ما أدى إلى وقوع عدد من الضحايا، في حين تضرّرت منازل سكنية نتيجة قذائف الهاون التي تم إطلاقها بكثافة على المدينة.

"ساعات مرّت، وصور مجازر الساحل السوري لا تفارق مخيّلتي"؛ يتحدّث أحمد فارس من سكان "جرمانا" للميادين نت عما عاشته المدينة خلال هجمات الفصائل المسلحة عليها؛ يقول: "كنا نراقب التطورات والتظاهرات وحملات التحريض المستعرة على مواقع التواصل الاجتماعي، قبل أن تبدأ الأمور بالانزلاق نحو الأسوأ، عندما بدأت فصائل مسلحة بالهجوم على جرمانا من جهة بلدة المليحة، بالتوازي مع سماع أصوات قذائف تتساقط عشوائياً في المدينة".

ويضيف فارس: "استمرت الاشتباكات العنيفة لساعات والأهالي لا يفارقون منازلهم، وسط مخاوف من حملات تطهير عرقي، من الممكن أن تنفّذها فصائل متطرفة، أطلقت تهديدات علنية باستهداف أبناء الطائفة الدرزية على مواقع التواصل، من دون أيّ رادع أخلاقي أو قانوني، وكل ذلك كان مبنيّاً على تسجيل صوتي لم يتمّ التأكّد منه أصلاً".

مع ساعات الصباح، هدأت وتيرة الاشتباكات في "جرمانا"، وتمّ عقد اجتماعات مكثّفة بين الجهات الأمنية السورية ووجهاء الطائفة الدرزية، حيث تمّ الاتفاق على التهدئة ووقف التصعيد، وضمان إعادة الحقوق وجبر الضرر لذوي الضحايا، الذين سقطوا في المدينة نتيجة الأحداث الأخيرة، بالإضافة إلى التعهّد بالعمل على محاسبة المتورّطين في الهجوم الأخير وتقديمهم إلى القضاء العادل.

كما نصّ الاتفاق على ضرورة توضيح حقيقة ما جرى إعلامياً والحدّ من التجييش الطائفي والمناطقي، والعمل على تأمين حركة السير بين محافظتي دمشق والسويداء أمام المدنيين.

مناشدات شعبية

لم تمضِ ساعات على انتهاء المعارك في "أشرفية صحنايا" وتوقيع الاتفاق في "جرمانا"، حتى عادت الأمور إلى نقطة الصفر مجدّداً، بعد تجدّد الاشتباكات العنيفة في "الأشرفية"، التي تماثل "جرمانا" في تنوّعها الاجتماعي، فهي ليست حكراً على أبناء طائفة الموحّدين الدروز، وإنما تضمّ مختلف مكوّنات المجتمع السوري، حتى أنّ بعض الإحصائيات تؤكد أنّ أكثر من 60% من سكان "أشرفية صحنايا" ينتمون إلى الطائفة السنية، الأمر الذي طرح تساؤلات عديدة حول سبب الهجوم على البلدة.

تضاربت الروايات لاحقاً حول أسباب تجدّد الاشتباكات في "أشرفية صحنايا"؛ فبين الرواية الحكومية الرسمية التي قالت إن قواتها تعرّضت لهجوم من مجموعات خارجة عن القانون داخل المدينة، وبين المصادر المحلية التي أكدت وجود عناصر متطرفة على أطراف البلدة منذ أيام وتنتظر الفرصة للهجوم على أبناء الطائفة الدرزية؛ إلا أنّ الأكيد كان وصول الاشتباكات إلى الأبنية السكنية في قلب "أشرفية صحنايا"، وتصاعد نداءات الاستغاثة من أهالي المدينة لحمايتهم.

أشرف الصافي (46 عاماً) من أبناء "الأشرفية" قال للميادين نت: "نعيش هنا منذ قرابة 20 عاماً، ولم نعترف يوماً بطوائف ومكوّنات، أو أكثريّة وأقليّة، بل كانت صحنايا مزيجاً فريداً من التآخي بين أهلها، ولم نشهد مثل هذا الخوف والرعب الذي نعيشه اليوم، حيث حافظت المدينة طوال السنوات الماضية على خصوصيتها المجتمعية، وهذا ما حماها من نيران المعارك خلال الحرب، لكن هذا الأمان تبدّد حالياً بالكامل".

وبرغم إعلان الأمن العامّ في سوريا انتهاء المعارك في "أشرفية صحنايا" مساء الأربعاء، إلا أن حالة القلق لم تفارق الأهالي، وسط مخاوف من تجدّد الاشتباكات في أيّ لحظة؛ يقول الصافي: "لا يزال الوضع الأمني في المنطقة هشّاً للغاية، ولا يمكن تأكيد عدم إمكانية تجدّد الاشتباكات أو الهجوم على أشرفية صحنايا في المستقبل، وهذه الحالة تحتاج إلى إجراءات حكومية عاجلة لطمأنة الأهالي وتهدئتهم".

من المؤكد أنّ الوضع الأمني في سوريا خلال الوقت الراهن لا يزال بحاجة إلى الكثير من العمل والجهد من مختلف الأطراف الحكومية والأهلية، بهدف تلافي الانزلاق وراء أيّ مشروع فتنوي يخدم جهات خارجية، إلا أن أكثر ما تحتاجه البلاد اليوم هو خطاب إعلامي وإنساني جامع لمختلف مكوّنات النسيج السوري، ووضع حدّ للخطاب الطائفي التحريضي الإقصائي، إضافة إلى ضرورة تعزيز الجهود الحكومية لترسيخ السلم الأهلي، وتمكين الروابط الاجتماعية بين مختلف فئات المجتمع، في سبيل تجاوز المرحلة الحسّاسة التي تمرّ بها سوريا.

اخترنا لك