خطط اقتصادية وتكريس مفاهيم مدنية.. سوريا أمام استحقاق إعادة البناء
منذ تسلّمها زمام الأمور في سوريا، أصدرت القيادة العامة سلسلة من القرارات الاقتصادية التي انعكست بشكلٍ مباشر على الوضع المعيشي للسوريين.
عادت شوارع دمشق وأزقتها إلى روتين الحياة مجدداً، بعد مخاض عسكري وسياسي انتهى يوم الثامن من كانون الأول/ديسمبر بسقوط نظام بشار الأسد وسيطرة المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام على الحكم في البلاد، وما تخلله من توتر وفلتان أمني وإغلاق للمؤسسات العامة والخاصّة، قبل أن تبدأ الأمور بالعودة إلى طبيعتها تدريجياً في القطاعات كافة.
مع إعلان السيطرة على العاصمة السورية، شهدت دمشق تسجيل مئات حوادث السرقة والسلب والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصّة في المدينة، ما جعل الرعب يتسلل إلى قلوب الدمشقيين، خاصّة أن رحيل نظام الأسد ترافق مع تفكيك المنظمة الأمنية وأقسام الشرطة في عموم البلاد، لكن هذا الخوف تبدد يوماً بعد آخر مع إحكام القيادة الجديدة سيطرتها على زمام الأمور، وإصدارها سلسلة من القرارات التي ساهمت إلى درجة كبيرة في وضع حدٍ للفلتان الأمني؛ مثل: ضبط السلاح وحصره، وفرض حظر للتجوال أكثر من مرة، إضافة إلى نشر وحدات من الأمن العام في شوارع المدن الرئيسية، وتخصيص أرقام للطوارئ من أجل الإبلاغ عن أيّ حادث، لكن رغم ذلك تم تسجيل بعض الخروقات في أكثر من مكان.
شوارع مكتظة وأفكار متضاربة
في منطقة المهاجرين بدمشق، يحمل ماجد الشيخ (63 عاماً) 3 ربطات من الخبز وبعض الخضار والفواكه لعائلته؛ يقول للميادين نت: "هذا الخبز كان قبل أشهر حلماً للكثيرين، لكنه اليوم بات متوفراً بكميات كبيرة في مختلف الأفران ومن دون الحاجة إلى بطاقات إلكترونية أو الوقوف في طوابير طويلة، وبرغم ذلك فإن السعر الذي تم تحديده بأربعة آلاف ليرة للربطة الواحدة بحاجة إلى إعادة نظر، بسبب الأوضاع المعيشية الصعبة التي نعاني منها جميعاً".
في دمشق، وبرغم قلّة عدد سيارات شرطة المرور وإغلاق أقسام الشرطة منذ الثامن من كانون الأول الجاري، إلا أن ذلك لم يمنع الاكتظاظ المروري في الشوارع، وكأن الناس قد تأقلمت على العيش بنظام محدد من دون الحاجة أصلاً إلى وجود الشرطة، وكل ما يحدث يؤكد أن السوريين يسعون للعودة إلى حياتهم الطبيعية سريعاً، بعيداً عن التطورات السياسية المتلاحقة.
وفي هذا الاتجاه، تم التوجيه من القيادة العامة الجديدة في سوريا والوزارات المعنية ومراكز المحافظات المختلفة بإعادة فتح المؤسسات الحكومية والمدارس والمشافي ومراكز خدمة المواطن، مع دعوة الموظفين والمعلمين والأطباء للعودة إلى أعمالهم وإعادة الوضع إلى طبيعته، كما تم استئناف عمل مطاري دمشق وحلب الدوليين أمام الرحلات الداخلية.
ولسدّ حالة الفراغ التي خلّفها حلّ الأجهزة الأمنية وأقسام الشرطة في المحافظات، أعلنت وزارة الداخلية في الحكومة المؤقتة عن فتح باب الانتساب إلى الشرطة والأمن العام، عبر الالتحاق بدورات أفراد في كليات الشرطة ضمن المحافظات، كما تم الإعلان عن فتح مراكز تسوية للجنود والضباط السابقين في الجيش السوري لمنع ملاحقتهم في المستقبل.
قرارات تنعش الوضع المعيشي
منذ تسلّمها زمام الأمور في سوريا، أصدرت القيادة العامة سلسلة من القرارات الاقتصادية التي انعكست بشكلٍ مباشر على الوضع المعيشي للسوريين، حيث ألغت وزارة الاتصالات رسوم جمركة الهواتف المحمولة، والتي كانت تتجاوز في بعض الأحيان 300 بالمئة، وهذا القرار أدى إلى حدوث انخفاض كبير على الأسعار، وبالمثل أيضاً تم إلغاء جمركة السيارات، ولاحقاً تم حلّ الرابطة الجمركية بالكامل ليُصار إلى إعادة تشكيلها من جديد.
وأعلنت الحكومة المؤقتة نيتها رفع أجور العاملين في الدولة بنسبة تصل إلى 400%، كما تم إصدار قرارات بإلغاء البطاقة الإلكترونية المتعامل بها سابقاً لشراء الخبز والمازوت والبنزين، مع توفّر هذه المواد في الأفران ومحطات الوقود بكميات كبيرة، كما تم إلغاء تصريف 100 دولار إلى الليرة السورية عبر المنافذ الحدودية، والتي كانت الحكومة السابقة فرضتها على السوريين العائدين إلى بلدهم، في كلّ مرة يدخلون فيها عبر المعابر الرسمية الحدودية أو عبر المطارات.
وعن تأثير هذه القرارات على السوريين، يقول عدنان السيّد (44 عاماً) للميادين نت: "إن الأيام الماضية شهدت انخفاضاً ملحوظاً في أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية، إضافة إلى أسعار الموبايلات والسيارات، لكن بالمقابل ارتفعت أجور المواصلات في وسائل النقل العامّة وأسعار الدواء بشكل كبير نتيجة غياب الرقابة، وهذا ما يتطلب تدخلاً سريعاً لمعالجة المشكلة، حيث يستغل البعض الوضع العام لتحقيق أرباح كبيرة".
ومن القرارت التي أعلنتها القيادة العامة إلغاء الخدمة الإلزامية العسكرية، وتحويل الجيش النظامي إلى "جيش تطوعي"، ما يعني وتمهيد الطريق لعودة عشرات الآلاف من السوريين في الخارج.
أخطاء فردية
بشكلٍ مفاجئ، أعلن الدفاع المدني السوري "الخوذ البيضاء" السيطرة على مركز "فوج إطفاء دمشق" وأنه بات الجهة المخوّلة بمتابعة المهام اليومية في العاصمة، ما تسبب بفقدان عشرات العاملين من "فوج الإطفاء" لعملهم، الأمر الذي دفعهم لتنفيذ اعتصام في دمشق للمطالبة بإعادتهم إلى مواقعهم كونهم يتبعون لجهة مدنية وليس لجهة عسكرية.
إلا أن مدير منظمة الدفاع المدني رائد الصالح نفى إحالة أيّ من العاملين المدنيين إلى منازلهم، وأوضح أن اللباس المموّه العسكري هو الوحيد الممنوع، وأن بدلات الدفاع المدني متوفرة ويمكن ارتداؤها، وأكد أن "الخوذ البيضاء" تعمل داخل الفوج بشكل مؤقت من دون نية للاستحواذ عليه أو إقصاء العاملين في الفوج.
وفي مدينة حماة وسط سوريا، أقدم مسلحون مجهولون على استهداف مطرانية حماة وتوابعها للروم الأرثوذكس عبر الاعتداء على الصليب وتكسير بعض الممتلكات الأثرية ثم إطلاق الرصاص على جدران الكنيسة، ما أثار موجة غضب كبيرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي. شرطة حماة أكدت لاحقاً إلقاء القبض على الفاعلين، وجرى حوار توضيحي مع المطرانية وتم تأمينها بالكامل لمنع تكرار مثل هذه الأفعال.
وفي سياق متصل وثَّقت مؤسسات حقوقية سورية سلسلة من الانتهاكات في حماة وحلب ودمشق والساحل السوري شملت: القتل خارج نطاق القانون، وتدمير المنازل، والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصّة، إضافة إلى الخطاب التحريضي والطائفي، والتهديد، إلا أن القيادة العامة الجديدة في سوريا أكدت أن معظم تلك الحالات لا تتعدى كونها أخطاء فردية، أو عمليات نفذها خارجون عن القانون استغلّوا الوضع غير المستقر في البلاد، وتم التعامل مع جميع الحالات بشكل سريع وحاسم من جانب جهاز الأمن العام.
التجاوزات الأخيرة شكّلت مصدر قلق لكثير من السوريين، خاصّة أنها تزامنت مع تصريحات تلفزيونية أطلقها القيادي عبيدة أرناؤوط عن "كينونة المرأة ودورها في المستقبل السياسي السوري"، وهو ما فسّره البعض على أنه توجه للحد من دور النساء في الحياة السياسية و"أسلمة الدولة".
هذه المواقف تسببت بحالة من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أطلق مجموعة من الشباب حملة تحت اسم "تجمع الشباب المدني السوري" لتأكيد رغبتهم في بناء دولة مدنية حرّة تعتمد على نسائها كما تعتمد على رجالها. ولاحقاً أصدر التجمع دعوة للحوار والمشاركة الفاعلة وعدم الإقصاء، وطرح مجموعة من الأهداف تتمثل بتنظيم مؤتمر وطني لتشكيل لجنة من الكفاءات السورية لإعداد دستور ديموقراطي مؤسساتي يضمن حقوق المواطن ويعزز دور المواطنة في بناء سوريا المستقبل، والمساهمة في تعزيز الوعي بضرورة استناد الدستور إلى شرعة حقوق الإنسان، والوصول إلى دولة قانون تحمي حقوق المواطنين كأفراد بناء على المواطنة دون تفرقة مبنيّة على الجنس أو العرق أو الدين أو الطائفة.
تكريس المفاهيم المدنية
وعن أهداف "تجمع الشباب المدني السوري" تؤكد الناشطة فرح خير الله للميادين نت أنه يسعى إلى تكريس المفاهيم المدنية في سوريا الجديدة، وتعزيز الممارسات الديمقراطية في مفاصل الدولة كافة، مع التأكيد على سيادة القانون ضمن المجتمع، إضافة إلى الدفاع عن الحقوق والحريّات العامة لمختلف المكونات السورية.
وتقول خير الله: "تم إطلاق مناسبة عبر فيسبوك لعقد لقاء شبابي في دار الأوبرا وسط دمشق، إلا أن الأعداد الكبيرة التي حضرت من الشباب السوري دفعت المنظمين لإقامة التجمع في ساحة الأمويين، على أن يتم لاحقاً عقد مؤتمر وطني وتشكيل لجنة متخصصة من الكفاءات"، وتضيف أن مشهد الشباب السوري الذي اندفع بكل عفوية للمشاركة في التجمع يؤكد الرغبة في بناء سوريا الجديدة القائمة على التحرر والمشاركة في صنع المستقبل، وهذا الدور يقع على عاتق الشباب بالدرجة الأولى".
ولم تكن هذه المبادرة الوحيدة التي تم إطلاقها خلال الأيام الماضية، حيث أطلق شبان سوريون مبادرات إنسانية عديدة للمساهمة في حماية مجتمعهم وتمكين دورهم في بناء سوريا الجديدة، ولعلّ أبرز تلك المبادرات كانت إطلاق فريق "مؤثرون سوريون" حملة للتبرع بالدم في المراكز الحكومية المختصّة، بعد ورود أنباء عن وجود نقص في كميات الدم ضمن البنوك ذات الصلة، وسبق هذه الحملة قيام المجموعة بعمليات تنظيف لشوارع العاصمة السورية بعد الأحداث التي شهدتها دمشق، كما أطلق متطوعون سوريون حملة لمساعدة شرطة المرور في تنظيم حركة السير داخل العاصمة.
وبرغم أن سوريا تمرّ اليوم بمرحلة انتقالية يتخللها حالة من الفوضى والأخطاء الإدارية، إلا أن السوريين يعوّلون على التغيير السياسي الحاصل لخلق مساحة "حرّة" يمكن من خلالها للشباب التعبير عن آرائهم وتنفيذ أفكارهم وصنع مستقبلهم بأيديهم، وهو ما لم يكن بمقدورهم فعله طوال السنوات الماضية، لكنهم بالمقابل يعلمون تماماً أن سوريا تمرّ حالياً بمرحلة انتقالية وتحتاج إلى فترة زمنية حتى تستقر الأوضاع مجدداً.