صبر المقاتلين لا الضحايا: الحروب وتعويم المفهوم الثوري للصبر
يقدّم السيد علي خامنئي الصبر كمشروع مقاوم طويل الأمد، لا كحالة انتظار سلبي. صبرٌ يُخطّط ويُنتج ويصوغ المعادلات لا يُبرّر الاستسلام أو الجمود.
-
صبر المقاتلين لا الضحايا: الحروب وتعويم المفهوم الثوري للصبر
مؤخراً، وبسبب تكاثف مشكلات وحروب المنطقة، تزداد الحاجة إلى استعادة المفاهيم التي جُيّرت تاريخياً لمصلحة الاستسلام، وعلى رأسها مصطلح "الصبر".
في خطبه، يُقدّم قائد الثورة والجمهورية الإسلامية في إيران السيّد علي خامنئي رؤية مختلفة، طارحاً مفهوماً مغايراً للصبر. فهو يتعدّى وصفه حالة سلبية من الانتظار أو التحمّل، بل أداة استراتيجية لصناعة النصر، وإحداث التحوّل التاريخي.
في الفكر التقليدي، يُفهم الصبر غالباً على أنه تحمّل البلاء من دون اعتراض، وانتظار الفرج كقضاء إلهي محتوم. فيُطلب من شعب يعاني المشكلات والفقر أن يصبر على أوضاعه، وكأنّ ذلك فضيلة، بل ويتمّ تسويق هذا الصبر على أنه طاعة لله وثواب في الآخرة.
هذا الفهم السلبي للصبر يؤدّي إلى تجميد روح النضال في المجتمعات المظلومة، ويرسّخ قبول الظلم والاستسلام له. كما ويحوّل هذا المفهوم الدين إلى أفيون للشعوب. بالإضافة الى أنّ تعريف الصبر على أنه أداة تسكين فقط يخلق ردّة فعل سلبية من بعض الناس تجاه الدين، فيعتبرونه نوعاً من الوعظ والتسكيت على المشكلات الاجتماعية وآثار الحرب.
في هذا المضمار، يقدّم السيد خامنئي تعريفاً واضحاً للصبر قائلاً إنّ "الصبر هو مقاومة السالك لطريق التكامل في مقابل الدوافع الباعثة على الشرّ والفساد والانحطاط." أي أنه ليس مجرّد تحمُّل للمصاعب، بل هو قوة داخلية تُساعد الإنسان على الاستمرار في طريق الخير والرقيّ، رغم كلّ ما يحاول جرّه إلى الوراء أو إفساده. بعبارة أخرى، هو نوع من "الشدّ الداخلي"، للتمسّك بالهدف رغم التعب والضغوط والمغريات.
الصبر الاستراتيجي
يضع السيد خامنئي الصبر في موضع الآلية المركزية لأيّ مشروع تغييري طويل الأمد. فالثورات، والعدالة الاجتماعية، وبناء الأمة، كلّها مشاريع تستوجب نفساً طويلاً، واستعداداً للمواجهة والاستنزاف. هنا لا يعود الصبر مجرّد احتمال، بل شرط وجود، وشرط انتصار.
الصبر هو وسيلة استراتيجية في فكر السيد خامنئي، لأنه نوع من الوعي الزمني والتخطيط المعنوي. فهو ليس صبراً على الألم فقط، بل صبر على الطريق، وعلى تقلّبات المرحلة، وعلى الإحباطات المؤقتة. يشير قائدة الثورة في إيران في إحدى محاضراته إلى مثال تجربة متسلّق الجبال: "هذا الإنسان لا يصبر على الحرّ أو التعب فقط، بل يملك إرادة متصلة بالغاية، ويستمر برغم التعب، لأنه يرى القمة أمامه. الصبر هنا وظيفي، مرتبط بهدف، وليس تعبيراً عن الهزيمة".
إيران، ومنذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، كانت هدفاً لعقوبات، واغتيالات، وحروب نفسية وإعلامية، بل ومحاولات عسكرية مباشرة. وبرغم ذلك، لم تستسلم، بل حوّلت الحصار إلى اكتفاء ذاتي، والعزلة إلى استقلال سياسي. وبدلاً من الانكفاء، قرّرت أن يكون الصبر وقوداً للثورة، لا غطاءً للجمود.
في كلّ مرة تصعّد فيها واشنطن، كانت طهران تردّ بالصبر المتماسك: لا تهور، ولا انفعال، بل عمل دؤوب، وتخطيط طويل الأمد. هذا الصبر أنتج قدرات نووية سلمية تحت النار، وتطوّراً في الصناعات الدفاعية تحت الحصار، واستقلالاً في الغذاء والدواء برغم الخنق المصرفي. كان الصبر هنا منهجاً لتثبيت السيادة لا مجرّد وسيلة للصمود.
قدّمت إيران نموذجاً في الصبر الاستراتيجي، لم يكن فقط على صعيد تحمّل الضغوط، بل إدارة ذكية للزمن، وقدرة على تحويل كلّ أزمة إلى فرصة إنتاج وبناء. ومع الوقت، تغيّر المشهد: لم تعد إيران دولة تحت الضغط، بل لاعباً يفرض شروطه.
هذا هو الصبر كما يعرّفه السيد خامنئي: صبر يبني، يوجّه، ويخطّط، لا صبر ينتظر. صبر يُنجز، حتى لو لم يُصفّق له أحد.
الصبر يبني الأمم
يقسّم السيد خامنئي مصائب المرء الى قسمين:
1. مصائب قهرية غير اختيارية: كالفقر أو المرض أو الموت، والصبر عليها مطلوب، لكنه لا يبني الأمم وحده.
2. مصائب اختيارية ناتجة عن النضال: كالملاحقة الأمنية، أو الحصار، أو الإبعاد، وهذه ليست مصائب يُبتلى بها الإنسان، بل يتقدّم نحوها بإرادته من أجل الحقّ.
الصبر عند هذا النوع الثاني هو اللبنة الأساسية في بناء الأمة الرسالية. إنه ليس تحمّلاً لما لا حيلة فيه، بل اختيار لما فيه كلفة وأذى، لأنّ فيه علوّاً وكرامة. فيقول: "أن تصبر على المصيبة التي جاءت نتيجة نضالك في سبيل الحقّ، هو أعلى مراتب الصبر، بل هو تعريف الصبر الحقيقي".
بالتالي، فإنّ الصبر في فكر السيد خامنئي ليس فضيلة فردية فحسب، بل هو مشروع أمة. مشروع مقاوم، متماسك، طويل النفس، قادر على تحويل آلام الواقع إلى وقود للانتصار، وهزيمة الخصم في ميدان الوعي قبل ميدان المواجهة كما وهو أعلى مرتبة لارتقاء الأمة.
في اليمن مثلاً، الصبر لا يشبه الخنوع أو الانتظار السلبي، بل هو صبر فاعل ينبع من الإصرار على الصمود والمقاومة. منذ أكثر من 11 سنة، يعيش اليمن تحت حصار خانق وقصف متواصل وانهيار شبه كامل في البنى التحتية، من المستشفيات إلى الماء والكهرباء. ومع ذلك، لم يتراجع اليمنيون، ولم يرفعوا راية الاستسلام، بل جعلوا من صبرهم قراراً سيادياً واستراتيجية مواجهة شاملة.
هذا الصبر تجلّى كنضوج في الوعي منتجاً صياغة لمعادلات ردع شعبية – عسكرية جديدة. ما يجري هناك هو التطبيق العملي لتعريف السيد خامنئي للصبر: "صبر المقاتلين لا الضحايا، صبر الذين يصوغون تاريخهم بأيديهم برغم الجراح، بحيث يُنتج الصبر هنا قوة وفاعلية، ويغيّر موازين القوى في المنطقة. مع الزمن، بات يفرض قواعد الاشتباك في البحر الأحمر ويربط أمن الممرات الدولية بمصير غزة. اليوم هو الشعب اليمني، الذي كابد سنوات من القصف والتجويع، يمدّ يده إلى غزة، لا بالدعاء فقط، بل بالفعل. يشارك في معركة فلسطين من موقع المقاتل، لا من موقع المتفرّج، ويجعل من صبره الممتد جغرافيا أوسع من حدوده.
وأيضاً في لبنان، لطالما يتجلّى الصبر المقاوم في نموذج حزب الله. من اجتياح عام 1982، إلى حرب تموز 2006، ثم مواجهة المشروع الأميركي – الإسرائيلي المستمر، والحرب الأخيرة التي شهد العالم صبر الناس فيها، لم يكن الخيار هو الانكسار، بل الصمود الطويل. وكان الانتصار هو النتيجة الحتمية لصبر مبنيّ على فهم دقيق للزمن، واستثمار الإرادة الشعبية.
وفي هذه الأيام، تتجلّى ملامح الصبر الثوري بشكل صارخ في الضاحية الجنوبية لبيروت. فبرغم التهديدات المستمرة، والقصف الذي طال الأحياء السكنية، والدمار الذي لا يزال واضحاً في الشوارع والمباني، لا شيء من ذلك أوقف الناس عن إحياء عاشوراء، بل زادهم تعلّقاً بها. تحت أنقاض القصف، وفي ظلّ هدنة هشّة قد تنهار في أيّ لحظة، تنتشر الخيم والمضائف الحسينية كما في كلّ عام، وتتحوّل الأزقّة والساحات إلى مجالس تعبق بالحزن والعطاء في آنٍ معاً.
المضائف هنا ليست مجرّد فعل ديني تقليدي، بل هي شكل من أشكال التعبير الشعبي عن الثبات، عن رفض الانكسار، عن استكمال المعركة بمعنويات لا يمكن للاحتلال قياسها بصواريخه. العائلات التي فقدت أبناءها، والأحياء التي هُجّرت قسراً، هي ذاتها التي تطهو الطعام للمارة، وتعلّق رايات الحسين على جدرانٍ لم تُرمّم بعد.
هذا المشهد الحسيني في قلب الضاحية الجريحة، لا يمكن فصله عن تعريف السيد خامنئي للصبر: "ليس انتظاراً سلبياً ولا تعايشاً مع الألم، بل فعلٌ عنيد ومستمر، يُحوّل المعاناة إلى قوة، والخسارة إلى وعي، والدموع إلى تجديد للعهد". ما يجري في الضاحية هو تجسيد حيّ لهذا الفهم، حيث باتت مراسم عاشوراء نفسها جزءاً من معادلة الردع: طقوس تُقام على حافة الحرب، وفي قلب المعركة الإدراكية، في تحدٍ صريح لـ"إسرائيل" التي أرادت إسكات الصوت، فإذا بها تسمع: "هيهات منّا الذلة".
في فكر السيّد خامنئي، الصبر ليس فضيلة شخصية فحسب، بل هو مشروع تحرّر جماعي، تتشارك فيه الأمة، وتبنيه القوى المقاومة، وتستثمره الأجيال القادمة. في زمن بات فيه الكثيرون يُفتّشون عن حلول آنية، يُعيد لنا هذا الفكر وهذا التعريف معنى الانتظار الواعي، والفعل الثابت، والتضحيات التي تصنع المستقبل.
وفي ظلّ التحالف الأميركي – الإسرائيلي، الذي يسعى إلى تكريس الهزيمة كقدر لشعوبنا، وتُروّج فيه ثقافة الاستسلام، يجب أن يصبح الحديث عن الصبر دعوة إلى رفض المعادلات المفروضة. الصبر، في هذا السياق، لم يعد حالة روحية فقط، بل رؤية سياسية تقول: الزمن لمصلحة الشعوب إن صبرت وتوكّلت وفهمت أعداءها. إنه إيمان بأنّ النصر ليس في الغلبة المؤقتة، بل في الثبات على الحقّ، مهما طال الطريق.
وإذا كان الأعداء يعوّلون على التعب، فإنّ المؤمنين يعوّلون على الوعد الإلهي: إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" (سورة البقرة، الآية 153).