عامان على الإبادة: قطاع غزة أمام كارثة إنسانية شاملة

بعد مرور عامين على الإبادة في غزة، لا يزال القطاع ينزف تحت نيران الحرب والحصار، فيما يعيش نحو مليوني نازح في ظروف إنسانية كارثية. وبرغم الدمار الهائل والخسائر البشرية التي تجاوزت 67 ألف شهيد و169 ألف جريح، ما زال القطاع ينبض بروح الصمود.

  • عامان على الإبادة: قطاع غزة أمام كارثة إنسانية شاملة
    عامان على الإبادة: قطاع غزة أمام كارثة إنسانية شاملة

منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، تغيّر وجه قطاع غزة والعالم معه؛ لم يعد سكانه يعرفون الليل من النهار، ولا الصمت من القصف، إذ في كل زاوية قصة، وفي كل ركام ذاكرة، وفي كل حياة لم تكتمل تظل غزة مثخنة بالجراح، لكنها ما زالت تنبض بالحياة.

تحل اليوم الذكرى الثانية لعملية "طوفان الأقصى"، وسط استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية على القطاع المحاصر، وقد خلفت هذه الحرب أكثر من 67,000 شهيد بينهم وما يزيد عن 169,000 جريح، معظمهم من الأطفال والنساء. كما ارتقى 460 فلسطينياً من جراء المجاعة، بينهم 154 طفلاً، وتعرّضت عشرات آلاف الأسر للمجازر، بينما لا يزال آلاف آخرون مفقودين تحت الأنقاض أو في مصير مجهول.

وعلى مدار عامين كاملين، تغيّرت معالم غزة وتشوهت بفعل العدوان؛ فقد سويت أبراج بالأرض، وتحولت شوارع إلى أطلال، وأصبحت أحياء كاملة محفورة في الغبار. ومع ذلك، تظل غزة محتفظة بعزيمتها على البقاء برغم الحرب والدمار.

ساعة الصفر: طوفان الأقصى

في صباح 7 أكتوبر 2023، أطلقت كتائب الشهيد عز الدين القسام وفصائل المقاومة الفلسطينية عملية عسكرية واسعة تحت اسم "طوفان الأقصى"، رداً على اعتداءات الاحتلال المستمرة بحق الفلسطينيين.

وشهدت الضربة الأولى إطلاق نحو 5,000 صاروخ على الأراضي المحتلة، وتسلل مقاتلو المقاومة عبر السياج الفاصل باستخدام الدراجات النارية والسيارات الدفع الرباعي، وأحياناً سيراً على الأقدام، كما اخترقت طائرات شراعية تحمل مقاتلين أجواء الأراضي المحتلة، قبل أن يُشن الهجوم البري على المستوطنات، ما أسفر عن مقتل أكثر من 1,200 إسرائيلي وأسر 251.

جبهة إسناد ودعم

في 8 أكتوبر، فتح حزب الله اللبناني جبهة دعم للفلسطينيين، مطلقاً صواريخ باتجاه شمال الأراضي المحتلة، وردّ الاحتلال بقصف جنوب لبنان. وبعد استشهاد الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، إلا أنّ الاحتلال واصل خروقاته العسكرية حتى اليوم.

في 19 تشرين الأول/أكتوبر 2023، انضمت جماعة "أنصار الله" اليمنية إلى المواجهة، فأطلقت صواريخ وطائرات مسيّرة باتجاه "إسرائيل" دعماً لغزة، ثم صعّدت عملياتها باستهداف السفن المرتبطة بالاحتلال في البحر الأحمر، وبحر العرب، والمحيط الهندي، مؤكدة استمرار الهجمات حتى وقف الإبادة في غزة.

أوامر الإخلاء

بعد 7 أكتوبر 2023، شن الاحتلال عمليات برية واسعة على قطاع غزة، بدأت بإصدار أوامر نزوح قسري لسكان الشمال والمدينة نحو الجنوب، بالتزامن مع قصف مكثف وتدمير أحياء سكنية وارتكاب مجازر جماعية.

منذ اللحظات الأولى، اتبع الاحتلال أسلوب إبادة ممنهج، فصارت المجازر اليومية بدون تمييز بين مدني ومقاتل، ما أسفر عن مئات الشهداء والجرحى في كل هجوم. ترافقت عمليات الإخلاء مع هجمات برية مكثفة استهدفت المناطق السكنية بذريعة القضاء على المقاومة واستعادة الأسرى، ما أدى إلى تدمير واسع للبنية التحتية.

واستمرت الهجمات البرية المتفرقة طوال 2024–2025، وصولاً إلى عملية "عربات جدعون 2" المستمرة حتى اليوم، وأسفرت عن نزوح نحو 1.9 مليون شخص، أي حوالى 90% من سكان القطاع.

في الوقت الراهن، يعيش مئات الآلاف من النازحين بلا مأوى في مخيمات مكتظة وأراضٍ مفتوحة ومدارس مدمرة، بجانب مكبات النفايات، وسط نقص حاد في الغذاء والماء وانهيار كامل للخدمات الصحية والصرف الصحي.

حاجز "نتساريم"

في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، أنشأ جيش الاحتلال محور "نتساريم" للفصل بين شمال وجنوب القطاع، قبل أن ينسحب جزئياً في كانون الثاني/يناير 2025، مع الإبقاء على تمركزه شرق شارع صلاح الدين.

إغلاق المعابر

مع بدء الحرب، أغلق جيش الاحتلال جميع المعابر البرية والبحرية، بما في ذلك معبر كرم أبو سالم ومعبر رفح الذي سيطر عليه في أيار/مايو 2024، مشدداً بذلك الحصار الكامل على القطاع.

أدى إغلاق المعابر إلى منع دخول الوقود والغذاء والدواء والمساعدات الإنسانية، ما أدى إلى تدهور حاد في الوضع الإنساني وارتفاع معدلات المجاعة وسوء التغذية.

الشهداء والجرحى

وبحسب وزارة الصحة في غزة، بلغ مجموع الضحايا 76,639 شهيداً ومفقوداً، منهم 67,139 شهيداً وصلوا إلى المستشفيات و9,500 مفقود تحت الأنقاض أو مصيرهم مجهول. ويشمل ذلك أكثر من 20,000 طفل، و12,500 امرأة، و9,000 أم، و22,426 أباً، بالإضافة إلى 1,015 طفلاً دون سنة واحدة و450 رضيعاً استشهدوا خلال الحرب.

أما عدد الجرحى فقد بلغ 169,583 شخصاً، منهم أكثر من 19,000 بحاجة إلى تأهيل طويل الأمد. كما سُجلت 4,800 حالة بتر (18% منهم أطفال)، و1,200 حالة شلل، و1,200 حالة فقدان البصر، ما يعكس حجم الكارثة الإنسانية في القطاع.

سياسة التجويع ومجزرة "الطحين"

بحلول كانون الثاني/يناير 2024، أظهرت تقارير أممية ارتفاع معدلات سوء التغذية بين الأطفال وزيادة الأمراض المرتبطة بنقص الغذاء، بينما أشارت الأمم المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر 2024 إلى أنّ أكثر من 20% من الأسر تعاني نقصاً حاداً في الغذاء، مع دعوات دولية متكررة لفتح ممرات إنسانية.

في 29 شباط/فبراير 2024، وقعت مجزرة "الطحين" قرب دوار النابلسي، إذ فتحت قوات الاحتلال النار على الفلسطينيين المنتظرين مساعدات غذائية، ما أسفر عن استشهاد 112 شخصاً وإصابة 760 آخرين. ووصف الأمين العام للأمم المتحدة الحادثة بأنها "مروّعة وتتطلب تحقيقاً مستقلاً".

ومع استمرار الحصار، وصل الوضع الإنساني بين آب/أغسطس – تشرين الأول/أكتوبر 2025 إلى مستويات كارثية، حيث يعاني أكثر من 514,000 شخص من المجاعة، و30% من الأطفال من سوء تغذية حاد، فيما يُهدّد 650,000 طفل و40,000 رضيع بالموت جوعاً بسبب نقص الغذاء والأدوية.

 اقتحام المستشفيات وتدهور المجال الصحي

شنّ الاحتلال هجمات واقتحامات متكررة على مستشفيات قطاع غزة، شملت مجمع الشفاء، القدس، الإندونيسي، كمال عدوان، وناصر، ما أدى إلى تعطيل المنظومة الصحية بالكامل. 

في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، اقتحم الاحتلال مجمع الشفاء الطبي بعد حصار استمر أياماً، تلاه اقتحام مستشفى القدس بمدينة غزة، ثم الإندونيسي في شمال القطاع.

وخلال عام 2024، توسعت الاعتداءات لتشمل مستشفيات كمال عدوان وناصر والأوروبي، مع اعتقال الطواقم الطبية وتدمير أقسام كاملة.

بحلول عام 2025، كانت أكثر من 80% من مرافق غزة الطبية خارج الخدمة، فيما أعاد الاحتلال اقتحام مجمع الشفاء في تشرين الأول/أكتوبر الجاري، مدمّراً ما تبقّى من البنية الصحية في القطاع.

وعلى صعيد الأضرار البشرية، قتل الاحتلال 1,670 من الطواقم الطبية، وفقد 42% من مرضى الكلى حياتهم بسبب نقص الرعاية، وسُجلت أكثر من 12,000 حالة إجهاض، بينما توفي 17 شخصاً بسبب البرد، بينهم 14 طفلاً.

كما دُمّرت 38 مستشفى و96 مركزاً صحياً، واستُهدفت 197 سيارة إسعاف، ووقعت 788 هجمة على مرافق الرعاية وكوادرها.

 استهداف الصحافيين 

مع بدء الحرب، استهدف الاحتلال الصحافيين بشكل ممنهج، إذ تم اعتقال 48 صحافياً، بينهم مراسلون مستقلون وعاملون في مؤسسات محلية ودولية، كما قُصفت مكاتب وسائل الإعلام والمعدات الإعلامية.

واستشهد 250 صحافياً وأُصيب 433 آخرون أثناء تغطيتهم القصف والمجازر في المستشفيات والمخيمات ومناطق النزوح، ما دفع منظمات دولية لوصف القطاع بأنه "مقبرة للصحافة".

وتركز الاستهداف على توثيق الانتهاكات ونقل الحقيقة، ما أدى إلى شلّ الإعلام الحر في غزة ومنع إيصال المعلومات إلى العالم الخارجي.

 الاعتقالات

مع انطلاق العملية البرية الإسرائيلية، شن الاحتلال حملة اعتقالات واسعة طالت المدنيين في مختلف مناطق قطاع غزة.

حتى الآن، تم اعتقال أكثر من 6,700 مدني، بينهم 362 طبيباً، و48 صحافياً، و26 عنصراً من الدفاع المدني، في استهدافٍ متعمّد للكوادر الإنسانية والإعلامية، ضمن سياسة تهدف إلى شلّ الجهود الإغاثية وإسكات الحقيقة.

انهيار البنية التحتية

تعرّض قطاع غزة لدمار واسع شمل مختلف جوانب الحياة. ووفقاً لبيانات رسمية، تضرّر نحو 193,000 مبنى، فيما دُمّرت 268,000 وحدة سكنية كلياً، واعتُبرت 148,000 وحدة أخرى غير صالحة للسكن، ما أدى إلى تشريد نحو 288,000 أسرة.

كما أدّت سياسة التهجير القسري إلى نزوح ما يقارب مليوني مدني، في حين أُقيمت 135,000 خيمة للنازحين، إلا أنّ أكثر من 125,000 منها أصبحت غير صالحة للإقامة بسبب التعرية والعوامل الجوية. إضافةً إلى ذلك، استُهدف 293 مركزاً للإيواء والنزوح القسري بشكل مباشر من قبل الاحتلال، ما فاقم معاناة المدنيين في واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية التي شهدها القطاع.

 المدارس والتعليم

تضررت 95% من المدارس، ودُمرت 165 مؤسسة تعليمية كلياً، وحُرم أكثر من 785,000 طالب من التعليم، وقتل الاحتلال أكثر من 13,500 طالباً، و830 معلّماً، و193 أكاديمياً.

 منشآت حيوية

ودُمّرت آلاف المنشآت الحيوية: 725 بئر ماء، و5,080 كيلومتراً من شبكات الكهرباء، و700,000 متر طولي من شبكات المياه والصرف الصحي، و3,000,000 متر طولي من الطرق. كما دُمّر أكثر من 94% من الأراضي الزراعية، و665 مزرعة، بينما تقلص إنتاج الخضروات من 405,000 طن إلى 28,000 طن، وتضررت الثروة السمكية بالكامل.

 دور العبادة

تعرّضت دور العبادة والمقابر في قطاع غزة لدمار واسع وانتهاكات غير مسبوقة. فقد دمّر الاحتلال أكثر من 835 مسجداً تدميراً كلياً، وألحق أضراراً جزئية بنحو 180 مسجداً آخر. كما استهدف ثلاث كنائس مراتٍ عدة، في انتهاك صارخ لحرمة الأماكن الدينية.

إلى جانب ذلك، دمّر الاحتلال 40 مقبرة من أصل 60، ونهب أكثر من 2,450 جثماناً من الأموات والشهداء من داخل المقابر. كما أقام سبع مقابر جماعية داخل المستشفيات، حيث عُثر على جثامين 529 شهيداً تم انتشالهم لاحقاً من هذه المقابر الجماعية، في واحدة من أبشع الجرائم بحق الأحياء والأموات على حدّ سواء.

 خسائر بـ70 مليار دولار

تُقدّر الخسائر الأولية المباشرة بنحو 70 مليار دولار، موزعة على القطاعات الحيوية: الصحة، التعليم، الإسكان، الصناعة، التجارة، الزراعة، الإعلام، الكهرباء، النقل، والخدمات العامة.

العزلة الدولية

على الصعيد الدولي، شهدت الجامعات حملات تضامن واسعة، فيما اعترفت 151 دولة بفلسطين بحلول أيار/مايو 2024، بينما واجهت "إسرائيل" عزلة سياسية متزايدة.

ومع حلول أيلول/سبتمبر 2025، بدأ الدعم الغربي التقليدي للاحتلال يتراجع، مع استعداد بعض الدول الأوروبية للاعتراف بدولة فلسطين. واستمرت الضغوط الدولية على "إسرائيل" في تشرين الأول/ أكتوبر 2025، بما في ذلك الدعوات لفتح المعابر الإنسانية وفرض بعض العقوبات الاقتصادية، ما أبرز عزلة "إسرائيل" السياسية والدبلوماسية المتفاقمة.

كسر الحصار

في محاولة لكسر الحصار "الإسرائيلي" على قطاع غزة، أبحرت عدة سفن دولية محمّلة بالمساعدات الإنسانية، أبرزها سفينة "مادلين" وأساطيل الصمود.

انطلقت سفينة "مادلين" في 1 حزيران/يونيو 2025 من صقلية الإيطالية ضمن تحالف "أسطول الحرية"، وعلى متنها ناشطون دوليون، بينهم غريتا تونبري وعضوة البرلمان الأوروبي ريما حسن، إلا أن القوات الإسرائيلية اعترضتها في 9 حزيران/يونيو واحتجزت طاقمها في ميناء أشدود.

وفي أيول/سبتمبر 2025، أبحر "أسطول الصمود العالمي" من عدة موانئ أوروبية محملاً بالمساعدات، لكنه تعرّض لهجمات قرب اليونان وتدمير بعض القوارب، وفي 1 تشرين الأول/أكتوبر 2025 اعترضت "إسرائيل" جميع السفن واختطفت ناشطيها.

أبدت عدة دول ومنظمات دولية دعمها لهذه المبادرات واعتبرت الحصار غير قانوني، بينما دافعت "إسرائيل" عن إجراءاتها باعتبارها جزءاً من حماية أمنها القومي.

 الهدن الإنسانية

شهد القطاع هدنتين إنسانيّتين: الأولى في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 لمدة 8 أيام، والثانية بين كانون الثاني/يناير وآذار/مارس 2025 لمدة 58 يوماً، لكن الاحتلال استأنف عدوانه في 18 آذار/مارس الماضي، محطّماً أي فرصة للتخفيف من المعاناة الإنسانية.

 المشهد الراهن

في الذكرى الثانية لعملية "طوفان الأقصى"، يواصل الشعب الفلسطيني في غزة معاناته القاسية، حيث تعيش مئات العائلات بلا مأوى بجانب مكبات النفايات والوديان ومجاري الصرف الصحي، محرومة من أبسط مقومات الحياة الإنسانية، وتظل تحت تهديد دائم من القصف والقنص، وسط نزوح مئات الآلاف من سكان شمال القطاع.

وفي الوقت نفسه، يترقّب الفلسطينيون مفاوضات "شرم الشيخ" حول خطة ترامب لإنهاء حرب غزة.

اخترنا لك