فرح هستيري بتحريرها.. بماذا تدين الخرطوم للسودانيين؟

الأفراح التي عمّت بين السودانيين في الداخل والخارج، تعود إلى أن التحولات الميدانية لمصلحة الجيش ستضع حدّاً لعامين من المآسي من جراء الحصار وما خلّفه من جوع ومرض، ووقف الانتهاكات الواسعة بحقهم، كما تمكنهم من العودة إلى منازلهم في الخرطوم.

0:00
  • فرح هستيري بتحريرها.. بماذا تدين الخرطوم للسودانيين؟
    فرح هستيري بتحريرها.. بماذا تدين الخرطوم للسودانيين؟

"صبرنا ونلنا.. الحمد لله الجيش في الخرطوم"، بهذه الكلمات عبّرت سيّدة سودانية عن فرحتها لحظة دخول جنود القوات المسلحة إلى حيّها السكني في الجريف غرب شرقي العاصمة الخرطوم، قبل أن تنخرط في موجة من البكاء، وهي تذرف دموع الفرح، لتصبح أيقونة تجسد سعادة السودانيين بتمكّن الجيش الرسمي من استعادة السيطرة على العاصمة القومية للبلاد. 

تحدثت هذه السيدة في مقطع مصور بعفوية متناهية، وهي توثق للحظات الأولى لتوغل الجيش السوداني في شرق الخرطوم، وعلى ما يبدو قد عاشت عامين تحت نيران الحرب وانتهاكات واسعة من قبل قوات الدعم السريع التي كانت تسيطر عليها، إذ شهدت منطقتها "الجريف غرب" مقتل أكثر من 35 مواطناً وتشريداً قسرياً لـ1500 أسرة، واغتصاب 8 فتيات بواسطة مقاتلي الدعم السريع خلال الشهرين الأخيرين، وفق ما كشفته مجموعة محامو الطوارئ الحقوقية في السودان، في تقرير لها الأسبوع الماضي.

وتمكن الجيش السوداني في يوم الأربعاء الماضي من استعادة السيطرة على مدينة الخرطوم، بعد إبعاد قوات الدعم السريع التي تخوض حرباً ضده منذ 15 نيسان/ أبريل 2023.

أفراح في الداخل والخارج

تلك الأفراح عمت السودانيين في الداخل والخارج، لكون التحولات الميدانية لمصلحة الجيش ستضع حدّاً لعامين من المآسي من جراء الحصار وما خلّفه من جوع ومرض، ووقف الانتهاكات الواسعة بحقهم، كما تمكنهم من العودة إلى منازلهم في المدينة الأهم في السودان، فالخرطوم ليس كغيرها من البقاع السودانية لمكانتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.

وبعدما وصلت مرحلة متأخرة من اليأس، استيقظت حواء عبد الكريم على أصوات الزغاريد وتكبيرات عالية في حيها السكني بمنطقة جنوب الحزام في الاتجاه الجنوبي من مدينة الخرطوم، حيث خرج المواطنون العالقون هناك للتعبير عن فرحتهم بدخول جنود الجيش السوداني، وكادت لا تصدق هذه اللحظة، وظنت أنها في حالة حلم، وفق ما ترويه إلى الميادين نت.

وتقول: "عشنا عامين في منازلنا تحت الخوف والرعب المستمرة، والجوع والمرض، والنهب وشتى أنواع الانتهاكات، فلم يكن بوسعي المغادرة؛ لأن وضعي المالي لم يسمح لي بذلك، وعندما اندلعت الحرب كنت لا أملك قيمة أجرة الحافلة السفرية، بالإضافة إلى ذلك ليس لي أقارب في الولايات الآمنة للذهاب والإقامة معهم، فلم يكن أمامي خيار غير الصبر".

وتروي هذه السيدة أنها افتقدت على مدار عامين طعم الحياة، فليس هناك طعام كاف، ولا توجد حرية للحركة حتى داخل حيها السكني، فالخروج من المنزل ربما يؤدي إلى الموت بدافع النهب أو الانتقام من قبل قوات الدعم السريع، كما افتقدت زخم الخرطوم وجمالها والمعالم التي كانت تُشكّل متنفساً لها ولعائلتها خلال فترة ما قبل اندلاع الحرب.

الخرطوم تختلف عن غيرها

ولم تعد الخرطوم كغيرها من المدن السودانية، فإلى جانب رمزيتها السيادية كعاصمة تاريخية للبلاد، فإنها تحظى بمكانة خاصة عند السودانيين، فهي مركزاً للحياة وشريان ينبض بالرزق والخير، حيث يهاجر لها السكان من مختلف أنحاء السودان بغرض العمل والكسب المالي الحر، إذ تحتضن المركز التجاري والصناعي، ومختلف القطاعات الاقتصادية الحيوية.

وكانت العاصمة السودانية المعروفة بمدنها الثلاث الخرطوم وبحري وأمدرمان، تأوي أكثر من 9 ملايين مواطن حسب آخر تعداد سكاني، من مختلف أنحاء البلاد؛ مما جعلها تمتاز بتنوعها السكاني وترابطها الاجتماعي، لذلك جرى تسميتها بـ"كرش الفيل" وتعني بطن الفيل نسبة؛ لأنها تحمل مأكولات متنوعة في داخلها.

ولم تتوقف الفرحة بتحرير الخرطوم عند السودانيين العالقين فيها، بل امتدت إلى النازحين في الداخل واللاجئين خارج البلاد، نظراً لأن هذه التحولات العسكرية تُمهد إلى عودتهم إلى منازلهم في العاصمة القومية وما تحمله من إرث جمالي وثقافي واجتماعي واسع، وإنهاء عناء المنفى الذي يعيشونه، وذلك حسب ما عبر به حسن إسحاق، وهو مواطن يقيم في أحد مراكز إيواء النازحين في ولاية كسلا شرقي البلاد.

ويقول إسحاق للميادين نت إنه تلقى نبأ سيطرة الجيش السوداني على الخرطوم ببهجة كبيرة، ولم يستطع السيطرة على دموعه، بعدما بات على موعد مع معانقة منزله في الخرطوم مجدداً، ووضع حداً لمآسي متطاولة دامت عامين، افتقد خلالها الحياة الكريمة وسط نقص مستمر في الطعام والشراب والرعاية الطبية.

ويضيف: "لقد استسلمت للواقع المذري الذي كنت أعيشه فيه بمركز إيواء النازحين، وظننت أن الحرب لن تتوقف مطلقاً، وسأبقى هنا إلى الأبد، لكن إرادة الله غلبت، وبدأ السلام يعم الخرطوم، وسوف أحزم حقائبي قريباً، وسأسافر إلى العاصمة القومية، لنشرع سوياً في إعمار ما دمرته الحرب فيها".

موقع جغرافي متميز

وتمتاز الخرطوم بموقعها الجغرافي المتميز، إذ تحفّها المياه من عدة جوانب، من خلال النيلين الأبيض والأزرق اللذين يلتقيان عندها ليرسمها لوحة جمالية طبيعية تسمى مقرن النيلين، ليشكلا مع بعضهما البعض نهر النيل لكون شريان لحياة ملايين السكان في السودان، وجارته مصر، وهي معالم يتوق السودانيون في المنافي إلى معانقتها مجدداً.

وتتمركز الحياة بكل جوانبها في الخرطوم، حيث توجد المراكز التجارية والمصانع والشركات الكبرى، والدواوين الحكومية المختلفة، والمستشفيات المرجعية، مؤسسات التعليم العالي، والدور الثقافية والمسرح، وغيرها من المعالم التي يصعب فصلها عن وجدان السودانيين الذين يحمل كل واحد فيهم مشاعر خاصة تجاه العاصمة القومية.

الارتباط الوجداني الكبير بالعاصمة القومية، دفع رموز اجتماعية وفنية إلى التمسك بالبقاء فيها طوال فترة الحرب، من بينهم المطربان الكبيران أبو عركي البخيت، والنور الجيلاني، إلى جانب الفنانين الشابين طه سليمان وعاطف السماني، حيث رفضا مغادرتها برغم قدرتهم على السفر والإقامة خارج السودان بعيداً من صخب المدافع.

"خلقت لنعيش في الخرطوم"

تعلق وجداني منع أشخاص كثر من مغادرة العاصمة السودانية، وهي كحالة عاصم آدم الذي ظل طوال الفترة التي أعقبت اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في 15 نيسان/أبريل من العام 2023، باقياً في منزله بضاحية الصحافة جنوبي مدينة الخرطوم، وهو يواجه حياة قاسية مليئة بالانتهاكات ونقص الغذاء ومياه الشرب.

ويقول عاصم للميادين نت: "أنا خلقت لكي أعيش في الخرطوم، مثل الأسماك التي لا يمكنها البقاء على قيد الحياة وهي خارج المياه، وفي سبيل تمسكي بالبقاء في منزلي وعدم مغادرته، فقدت أعزاء لي، وعانيت الجوع والعطش والضرب والتنكيل من قبل قوات الدعم السريع، لكن أشعر بانتصار شخصي الآن، لأنني كتبت لي النجاة حتى نشاهد الخرطوم، وهي تنهض من جديد".

ولم تعد الخرطوم بذات البريق السابق، فقد تغيرت ملامحها بعد ما كست نيران الحرب جدرانها بالسواد، وتحطمت بعض من مبانيها الشاهقة، وفقد صخبها السكاني، وتحولت إلى مدينة أشباح تتعالى فيها أصوات البنادق وأزيز الطائرات الحربية خلال عامين من القتال، لكنها ما تزال تحتفظ بمكانتها في وجدان السودانيين، فهي تدين لهم بعطائها السخي الذي لم يوقفه سوى الصراع.

وبحسب عاصم آدم، فإن كل سوداني كسب رزقاً وعلماً من الخرطوم، وتعالج في مشافيها المرجعية، وقضى أوقات ممتعة في شوارعها ومعالمها ومواقعها الترفيهية، حيث مقرن النيلين وجزيرة توتي وغابة السنط، والمتحف والمسرح، وملاعب كرة القدم، ومراكزها التجارية التاريخية التي تذود بخيراتها للجميع.

وكانت الخرطوم تفيض بخيراتها وجمالها، وهي ترتدي الثوب القومي والوطني، فكل سوداني يشعر بأنها ملك له، مما جعلها تتميز بنسيج اجتماعي مترابط بين سكانها، برغم التنوع الكبير الذي تشهده، فهي تضم مواطنين ينحدرون من مختلف أنحاء السودان، مما جعل الجميع يفرح بشكل هستيري باستعادة الجيش السيطرة عليها لأن ذلك يمهد إلى عودتهم ومعانقتها من جديد.

اخترنا لك