مصريّون بين البطالة وسماسرة الموت.. غرق مهاجرين قبالة سواحل ليبيا
تواجه قرى صعيد مصر مأساة متجددة بعد غرق قارب يقل عشرات المهاجرين قبالة السواحل الليبية، لتُفجع عائلات بأبنائها بين ضحايا ومفقودين. وتكشف الحادثة حجم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تدفع الشباب إلى ركوب "قوارب الموت".
-
مصريّون بين البطالة وسماسرة الموت.. غرق مهاجرين قبالة سواحل ليبيا
وسط الزرع والنهر في صعيد مصر، تتهادى من بعيد قرية "السنطة البيضاء"، إحدى القرى المصنفة الأكثر احتياجاً على مستوى الوطن. بعيدة ومنسية، يكسو الفقر ملامح ساكنيها مثل بيوتهم التي تنضح بالعوز والحاجة. ولم تكتفِ بذلك، بل اكتست بالسواد والحزن لفقدان عشرات الشباب في مياه البحر المتوسط قبالة السواحل الليبية.
في محافظة أسيوط، التي يشطرها نهر النيل على بعد حوالي 375 كيلومتراً جنوب القاهرة، تقع هذه القرية التي يبلغ تعدادها عشرات الآلاف من البشر، بينهم مئات الشباب الذين يحلمون بالفرار من حياة البؤس والشقاء إلى رغد العيش، حتى لو كان الثمن الغرق في مركب متهالك على يد تجار البشر خلال رحلة مجهولة المصير من ليبيا إلى إيطاليا أو اليونان.
انتابت هذه المأساة الإنسانية أسراً مصرية، خصوصاً في محافظات أسيوط، لا سيما مركز البداري، والمنيا والشرقية والدقهلية. تعود تفاصيلها إلى 24 تموز/يوليو 2025، حين ابتلع "بحر الموت" قارباً يحمل 81 مهاجراً قبالة طبرق الليبية، منهم 79 مصرياً، بحسب مكتب عمليات البحث والإنقاذ في طبرق.
وتم إنقاذ 10 أشخاص فقط، منهم 8 مصريين تم ترحيلهم إلى مصر، وانتشال 18 جثة والتعرف على 6 منها فقط ونقلها إلى مصر عبر الحدود، فيما لا يزال 50 شخصاً في عداد المفقودين. إذ يُعتقد أن كثيرين منهم لقوا حتفهم ولم يُعثر على جثامينهم، أو لا يزالون يتشبثون ببقايا القارب تتقاذفهم الأمواج المتلاطمة في "بحر الروم"، كما سماه العرب قديماً، أو "بحر الحداد"، كما يُلقبه البعض حديثاً، لأنه أصبح حوتاً يبتلع بؤساء العالم ممن أسكنتهم أوطانهم بيوت الفقر.
أحلام يقتلها "بحر الموت"
بصوت متحشرج كأنه صدى من زمن غابر، يحمل في نبرته ألمًا وأسى، قالت صباح محفوظ إنها تريد تشييع نجلها محمد حسين، وإلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه، مؤكدة أنها لا تزال تتشبث بالأمل في إعادة جثمانه. نجلها، الذي كان يعمل في مجال البناء، غادر قريته الصغيرة حاملاً أحلاماً كبيرة لأسرته البسيطة، وفق حديث الأم لـلميادين نت. لكن ليبيا لم تكف لتحقيق حلمه، فحاول الفرار من انتهاكات أصحاب العمل إلى أوروبا، غير أنّ الحياة لم تسعفه لتحقيق حلمه.
بحسب الأم المكلومة، فإن الأسرة لم تكن تعرف شيئاً عن محاولة نجلها الهجرة إلى اليونان. وتضيف بصوت يملؤه البكاء: "كان ابني سندي وأملي الوحيد لأسرتنا ووالده المريض وإخوته الصغار. سافر إلى ليبيا لتخفيف أعباء الحياة عن كاهلنا، فعاد إلينا في تابوت".
أربع وعشرون عائلة مصرية خاطبت السلطات للكشف عن مصير ذويها، بينما وثقت المنظمة الدولية للهجرة أكثر من 32 ألف حالة وفاة في المتوسط منذ عام 2014، ويمثل المصريون حوالى 19% من المهاجرين غير النظاميين المتخذين من ليبيا ممرًا إلى إيطاليا.
البطالة وفخ "سماسرة الموت"
قرية السنطة، التي تعيش أغلب عائلاتها على أقل من 50 دولاراً أسبوعياً بينما تكلفة المعيشة والخدمات الأساسية باهظة، هي إحدى قرى صعيد مصر التي تعاني من تدهور الأوضاع الاقتصادية. يتجاوز معدل البطالة نحو 12% في المنيا وأسيوط، مما يجعل تكاليف الحياة مرتفعة بشكل لا يطاق، وهما من أكثر المحافظات تصديراً للهجرة.
أمير الصديق، أحد الناجين في الحادث، يقول لـلميادين نت إنه اضطر للسباحة ساعات طويلة حتى وصل إلى شاطئ مدينة طبرق الليبية، مؤكدًا أن العديد من المهاجرين غرقوا أمام عينيه. ويضيف، وهو من مركز البداري بأسيوط: "كنا حوالي 95 شخصاً، القارب كان متهالكاً يملكه أحد المهربين. وبعد الاتفاق معه ودفع كل مهاجر مبلغاً يصل إلى حوالى 1500 دولار، سافرت برفقة بعض الشباب صوب اليونان عبر التسلل من ساحل مدينة الزاوية. غرق المركب، فلجأنا إلى قارب ثانٍ، لكنه لم يتحمل فغرق".
يشعر "الصديق"، الذي تم ترحيله من ليبيا إلى مصر، بالندم لمجرد التفكير في الهجرة غير النظامية عبر بحر الموت وفخ سماسرة البشر. لكنه يرجع الأمر إلى "القدر والنصيب"، ويستطرد: "لو كنا نعلم، ما سلكنا هذا الطريق. هذه مافيا كبيرة وعصابات تتاجر بالمهاجرين عبر مراكب متهالكة. رأيت الموت بعيني، وتعلمت الدرس".
بينما يقول ناصر محمود، عم مصطفى أحد المفقودين، إن أكثر من 30 شاباً من مركز البداري بأسيوط كانوا على متن القارب، بينهم نجل شقيقه مصطفى وأربعة آخرون يعرفهم. وحتى الآن مصيرهم مجهول. وخلال حديثه لـلميادين نت، طالب ناصر السلطات المصرية بتكثيف الجهود لكشف مصير هؤلاء الشباب، مشيراً إلى أنهم وعائلات أخرى تقدموا ببلاغات إلى الخارجية المصرية لمعرفة مصير ذويهم. وأضاف أن البطالة وقلة فرص العمل في بلدهم دفعتهم إلى السفر عن طريق التهريب إلى ليبيا، كما أن انتهاكات بعض أصحاب العمل هناك وإغراءات سماسرة الهجرة ترمي بالشباب المصري في طريق الهلاك.
وشيّعت محافظة أسيوط جثامين ثلاثة ضحايا، بينما تنتظر باقي أسر المفقودين عودة ذويهم. كما أفرجت ليبيا عن ثمانية ناجين، بينهم أربعة من أسيوط، وشخص من المنيا، وشخصان من الشرقية، والأخير من القليوبية.
حزن عميق يمتد إلى الشمال
امتد الحزن من أسيوط إلى المنيا، حيث خيّم السواد على قرية دمشير الفقيرة كأغلب قرى مصر. يعيش معظم أهلها على الزراعة وأعمال تجارية عشوائية، بينما يهاجر أغلب شبابها إلى المدن. فقدت عائلاتها في مركب ليبيا مجموعة من أبنائها لا يُعرف مصيرهم.
لكن أحد أبنائها، عبد الرحمن رضوان، أحد الناجين، يقول لـلميادين نت إن الفقر والبطالة وغياب التنمية عوامل تدفع الشباب إلى الهجرة. في ليبيا، تستغل شبكات التهريب حالة اليأس لدى الشباب وأملهم في الوصول إلى أوروبا مقابل مبالغ مالية قد تصل إلى ألف دولار للشخص. وأشار إلى أن المهاجرين ينتظرهم الموت في البحر، أو النجاة وهي "قدر جميل من الله"، أو سرقة الأعضاء، أو السجن في ليبيا.
رضوان، الذي يعمل في مجال صناعة الرخام والجرانيت، يستطرد: "ضاق بي الحال في ليبيا نظراً لطوفان المهاجرين، ما تسبب في قلة فرص العمل، فقررت المغامرة والسفر إلى اليونان عبر البحر للبحث عن مستقبل أفضل".
جريمة منظمة تستوجب العقاب
بعد كارثة "مركب رشيد" عام 2016، التي أودت بحياة 204 أشخاص، أطلقت مصر استراتيجية وطنية لمكافحة الهجرة غير النظامية، وأصدرت القانون رقم 82 لمعاقبة تهريب المهاجرين، وأنشأت لجنة تنسيقية للتصدي للهجرة غير النظامية والاتجار بالبشر.
وبرغم ذلك، يرى حزب التحالف الشعبي الاشتراكي أن الحكومة تتحمل مسؤولية تفاقم الظاهرة، حيث احتلت مصر المرتبة الثانية عالميًا عام 2024، مع تسجيل 22 ألف مهاجر غير نظامي إلى أوروبا عام 2023.
وفي عام 2024، قدم الاتحاد الأوروبي 9 ملايين يورو لدعم اللاجئين في مصر، و20 مليون يورو لاستقبال نازحي حرب السودان. لكن نور خليل، المدير التنفيذي لمنصة اللاجئين، يؤكد لـلميادين نت أن الإجراءات الأمنية منذ عام 2016 لم تقضِ على الظاهرة لعدم معالجة أسبابها الجوهرية، كالفقر وعدم العدالة الاجتماعية. وتشير بيانات دولية إلى وصول 21 ألف مهاجر مصري إلى أوروبا عام 2022، و13 ألفاً عام 2023، مع تحول ليبيا إلى نقطة انطلاق رئيسية.
في المقابل، ترى السفيرة نائلة جبر أن الهجرة غير النظامية جريمة منظمة وليست ظاهرة مجتمعية. وتضيف لـلميادين نت، أن السواحل المصرية مؤمَّنة، وتتم الهجرة عبر دول أخرى مثل ليبيا وتركيا، مدفوعة بـ"أحلام وردية زائفة للشباب".