بين العقل والحرب: إلى أين يقودنا الذكاء الاصطناعي؟

بالرغم من أن التقدّم العلمي ساعد البشرية في تحقيق إنجازات هائلة، إلا أن الوجه الآخر لهذا التطور قد يكون مدمّراً. فالعقل الذي ابتكر التكنولوجيا الحديثة، من ذكاء اصصطناعي وطائرات مسيّرة، قد يتحوّل إلى أداة تهدد السلام العالمي وتغذّي الحروب.

  • بين العقل والحرب: إلى أين يقودنا الذكاء الاصطناعي؟
    لم تعد الحرب مسألة جيوش ومدافع بل أصبحت حرب خوارزميات ومعلومات

شهدت البشرية، على مر العصور، تقدّماً ملحوظاً في مختلف المجالات العلمية والتكنولوجية، وهو تقدّم حمل وجهين متناقضين: الأول مكّن الإنسان من السيطرة على محيطه وتطوير أدوات عيشه، والثاني كشف عن قدرة العقل ذاته على إحداث دمار شامل، إما بفعل الطمع في الهيمنة أو بسوء استخدام مكتسبات الحضارة.

هذا التناقض الجذري يطرح سؤالاً ملحاً: هل يمكن للعقل البشري، رغم تطوره، أن يكون سبباً في فناء البشرية؟

العقل البشري بين الإبداع والتدمير

لقد أثبت العقل البشري عبر التاريخ أنه أداة مزدوجة: من جهة هو باعث على الابتكار في الطب، المواصلات، الاتصالات، والبحث العلمي، ومن جهة أخرى، هو نفسه من يقف وراء ابتكار أسلحة الدمار الشامل: من القنابل الذرية إلى الأسلحة البيولوجية. وهذا ما دفع بعض الفلاسفة إلى الحديث عن "الحداثة القاتلة"، حين تصبح أدوات التقدم سبباَ في انتكاس الحضارة.
يقول أولريش بيك في كتابه "مجتمع المخاطر":"لقد دخلنا مرحلة من الحداثة حيث المخاطر لم تعد قابلة للسيطرة، بل أصبحت هي نفسها نتيجة العقلانية الحداثية".


الهيمنة والصراع على الموارد

لا يمكن فهم الحروب المعاصرة بمعزل عن منطق القوة والسيطرة. فالدول الكبرى تُسخّر العلم والتكنولوجيا  ليس فقط لبناء مجتمعاتها، بل أيضاً لبسط نفوذها على مناطق أخرى، خاصة تلك الغنية بالموارد أو ذات الموقع الجيو استراتيجي. ويُوظَّف التطور العلمي لخدمة أهداف غير إنسانية: تدمير البنى التحتية، تشريد السكان، فرض الأمر الواقع، وخلق أنظمة تبعية.

من الغاز والنفط، إلى الأمن الغذائي والمجال الحيوي، تبدو التكنولوجيا في قلب المعركة، لا كوسيلة للحل، بل كأداة للتخريب أحياناً، والتضليل الإعلامي في أحيان أخرى، خاصة مع صعود ما يُعرف بـ"الحروب السيبرانية" و"الحروب النفسية" عبر منصات التواصل الاجتماعي.

التكنولوجيا كأداة للهيمنة وصناعة الحروب

اليوم، لم تعد الحرب مسألة جيوش ومدافع فقط، بل أصبحت حرب خوارزميات ومعلومات، تقودها الذكاء الاصطناعي والطائرات المسيّرة وأنظمة التشفير، ما جعل ساحات القتال أشبه بمختبرات للبرمجيات والروبوتات.
وتُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي حالياً في:
· تحليل البيانات الضخمة لفهم الأنماط والقرارات الاستراتيجية.
· قيادة الطائرات المسيّرة والصواريخ الذكية عن بعد.
· تحديد الأهداف وتصنيف الأعداء من خلال خوارزميات تعتمد على الصور والبيانات.
· مراقبة شبكات التواصل الاجتماعي ورصد المزاج الشعبي، وتوجيه الرأي العام.
ولعلّ أبرز الأمثلة على هذا الاستخدام المعقّد، ما نشهده في الحرب الروسية الأوكرانية، أو في العدوان على غزة، حيث يُستخدم الذكاء الاصطناعي لتحديد الأهداف وتنفيذ الضربات بسرعة تفوق قدرة الإنسان على اتخاذ القرار.
لكن هذا التقدم يحمل في طياته خطراً هائلاً: ما مدى دقة هذه الخوارزميات؟ وماذا لو ارتكبت "آلات الحرب" خطأً قاتلاً؟ وهل يظل الإنسان مسؤولاً عن قرارات لم يتخذها هو بنفسه؟


التكنولوجيا كوسيلة للسلام

من جهة أخرى، يمكن للتكنولوجيا أن تلعب دوراً إيجابياً في تقليل الصراعات، من خلال:
· أنظمة الإنذار المبكر التي تعتمد على رسائل نصية لرصد النزاعات قبل اشتعالها.
· تحليل الصور الجوية والبيانات البيئية لتفادي الكوارث والنزوح الجماعي.
· إدارة النزوح واللاجئين بفعالية أكبر.
· توظيف الذكاء الاصطناعي في عمليات المصالحة وإعادة الإعمار.
 
ولكن رغم هذه الإمكانيات، فإن معظم مشاريع التكنولوجيا المخصصة للسلم تواجه عقبة أساسية: غياب الإرادة السياسية، وتضارب المصالح بين القوى الكبرى، التي غالباً ما تفضّل استثمار التكنولوجيا في الهيمنة وليس في التهدئة.

هل نحن أمام حداثة قاتلة؟

يتحوّل السؤال الفلسفي من "ما الذي يمكن للعقل البشري أن يصنعه؟" إلى "ما الذي لا يجب أن يصنعه؟"
في مجتمع يسوده وهم امتلاك الحقيقة، ويتسم بـ هيمنة الصوت الواحد على تعددية الآراء، يُختزل الإنسان إلى بيانات، ويُستخدم العقل لتغذية أنظمة لا تقبل النقاش، وتفرض سرديات جاهزة تحت غطاء "الواقعية التكنولوجية".
هذه هي أزمة الحداثة التي حذّر منها بيك وغيره من فلاسفة "مجتمع ما بعد الحداثة":
إننا نعيش اليوم في عالم يتقدّم نحو المجهول، وتزداد فيه المخاطر بازدياد حجم المعرفة. فالخطر ليس في الجهل، بل في استخدام المعرفة بلا وازع أخلاقي.

التكنولوجيا وتأثيرها على الإنسان ككائن نفسي ووجداني

تشير دراسات حديثة إلى أن استخدام التكنولوجيا اليومية، لاسيما الشاشات، يؤثر على تركيبة الإنسان الحسية والإدراكية. نحن نعيش حالة من الاعتماد المفرط على الحواس الرقمية (البصر والسمع)، على حساب اللمس، الرائحة، والحدس، ما يغيّر من طبيعة إدراكنا للواقع والعلاقات الاجتماعية.
هويتنا أصبحت رقميّة، وعواطفنا مُفلترة، ومفاهيمنا للزمن والوجود أعيد تشكيلها حسب إيقاع الميديا والآلة.


في النهاية: إن العقل البشري هو أعظم ما أنتجته الطبيعة، لكنه في الوقت نفسه قد يكون أقوى سلاح دمار شامل عرفته البشرية.

فكل إنجاز علمي يحمل في طيّاته القدرة على البناء أو الهدم. وإذا استمرينا في استخدام التكنولوجيا بمعزل عن الضمير الإنساني، فإن "الذكاء الاصطناعي" قد يتحوّل إلى غباء جماعي قاتل يقودنا إلى الهلاك، بدلًا من النجاة.

اقرأ أيضاً: من مراقبة الهواتف إلى تحديد الأهداف: الذكاء الاصطناعي يغيّر قواعد القتل

 ما نحتاجه اليوم ليس المزيد من "الاختراعات"، بل المزيد من الأسئلة الأخلاقية والسياسية حول الغاية من هذا التقدم، ومن يملكه، ولأجل من يُستخدم. لأننا إن لم نطرح هذه الأسئلة، فربما لن يتبقى من العقل إلا ذكراه في رماد الحضارة.

 

 

اخترنا لك