القوة بلا صوت: أزمة الدبلوماسية اللبنانية في زمن ما بعد الحرب
الواقع أنّ لبنان يمتلك اليوم عناصر قوةٍ حقيقية، لكنه يفتقر إلى رؤيةٍ توظفها دبلوماسياً، فالمقاومة فرضت معادلة الردع، بينما الدولة لم تحدد بعد كيف يمكن ترجمة ذلك في علاقاتها الخارجية.
-
علم لبنان عند الجدار الفاصل في الجنوب
بعد حرب 2024 التي استمرت ستةً وستين يوماً، وجد لبنان نفسه أمام اختبارٍ جديد في ممارسة الدبلوماسية كفنٍّ لتثبيت المكاسب وتفادي الانكسارات. توقّف القتال عند حدود التفاهمات الميدانية، لكن المعركة السياسية بدأت في ميدانٍ أكثر تعقيداً: مستقبل سلاح المقاومة ودور الدولة في معادلة الردع الإقليمي.
وكأنّ التاريخ يعيد نفسه، إذ تتحوّل الانتصارات الميدانية إلى منطلقٍ لنقاشٍ داخلي أكثر منه إلى أوراق قوةٍ خارجية. فبدل أن تترجم الدبلوماسية اللبنانية صمود الجنوب إلى مشروع سيادةٍ مستدامة، انزلقت مجدداً إلى دوامة التناقضات بين خطاب "الواقعية السياسية" وخطاب "الالتزام بالمقاومة". هنا، يستحضر القارئ المبدأ التالي: "السياسة ليست صراعاً بين الخير والشر، بل بين الممكن والمستحيل". والممكن في لبنان، كما يبدو، لا يزال غائماً ومتنازعاً حول تعريفه.
إنّ جوهر السياسة هو تحويل القوة إلى فعلٍ منظّم، فهنري كيسنجر في كتابه الدبلوماسية يقول إنّ "نجاح الدولة يُقاس بقدرتها على استثمار القوة، لا بامتلاكها فقط". ومن هذا المنظار، يظهر التناقض الصارخ في التجربة اللبنانية ما بعد حرب 2024: قوة ميدانية أثبتت حضورها في الردع، يقابلها عجز سياسي في إدارة نتائجها.
الملف الأكثر حساسية هو الجدل حول سحب سلاح المقاومة. فبينما تطرح قوى داخلية هذا المطلب بوصفه "ضرورةً لاستعادة سيادة الدولة"، تراه قوى أخرى استجابةً غير مباشرة للضغوط الإسرائيلية والغربية التي فشلت عسكرياً في تحقيقه. هذا الانقسام لم يعد سياسياً فحسب، بل بات دبلوماسياً أيضاً، إذ باتت البعثات اللبنانية في الخارج تواجه السؤال ذاته الذي يتردد في الداخل: من يمثل لبنان في توازن الردع؟ الدولة أم المقاومة؟
وهنا تكمن المفارقة التي تحدّث عنها كيسنجر حين كتب أنّ "الدبلوماسية هي فن إدارة القوة قبل أن تتحوّل إلى صراع". فلبنان، عوضاً عن توظيف القوة لصياغة معادلة ردعٍ جديدة، يعيش صراعاً على تعريفها. ومن هنا يأتي التحذير من "تبدّد الممكن" حين تتصارع الإرادات بدل أن تتكامل. وهذا تماماً ما يحدث: بدلاً من أن يكون سلاح المقاومة ورقة تفاوضٍ في يد الدولة، أصبح موضوعاً للتفاوض عليها.
على الصعيد الإقليمي، تسعى "إسرائيل"، بدعمٍ أميركي وأوروبي، إلى تثبيت معادلةٍ جديدة: لا عودة إلى الحرب مقابل بحثٍ تدريجي في مستقبل سلاح حزب الله. هذه المعادلة تُغلَّف بلغة "الاستقرار"، لكنها عملياً محاولة لفرض تسويةٍ سياسية تُضعف الردع من الداخل. في المقابل، تبدو الدبلوماسية اللبنانية منقسمةً بين من يرى في الحوار فرصةً لتجنّب العقوبات والضغوط، ومن يراه فخاً استراتيجياً لتفكيك عناصر القوة التي حمت لبنان لعقود.
في هذا السياق، يفقد لبنان ما يسميه كيسنجر "مركز التوازن". فالدول الصغيرة، كما يقول، لا تستطيع أن تبقى على الحياد في صراع القوى الكبرى، بل عليها أن تحدد موقعها بدقة. ولبنان اليوم عالقٌ بين خطابين: خطاب الانفتاح الذي لا يمتلك أدوات القوة، وخطاب المقاومة الذي لا يمتلك أدوات الدولة. وبينهما تضيع الدبلوماسية الرسمية في محاولات تدوير الزوايا بدل إعادة رسمها.
أزمة أخرى تُضاف إلى المشهد هي ملف إعادة الإعمار، الذي تحوّل إلى اختبارٍ جديد للسيادة. فالدول المانحة تشترط إصلاحاتٍ سياسية ومالية، بعضها يتصل ضمنياً بملف السلاح ودور المقاومة في القرار الوطني. هذه الشروط تمثّل وجهاً ناعماً للضغط الخارجي، حيث يتحوّل التمويل إلى وسيلةٍ لتقليص نفوذ القوى التي أثبتت حضورها ميدانياً. وهنا يمكن الاستنتاج بأنّ "الاستقلال لا يُقاس بغياب الاحتلال فقط، بل بامتلاك قرار الإرادة".
الواقع أنّ لبنان يمتلك اليوم عناصر قوةٍ حقيقية، لكنه يفتقر إلى رؤيةٍ توظفها دبلوماسياً. فالمقاومة فرضت معادلة الردع، بينما الدولة لم تحدد بعد كيف يمكن ترجمة ذلك في علاقاتها الخارجية. وكأنّ الصمود العسكري تحوّل إلى عبءٍ سياسي بدل أن يكون أداة نفوذ. وهذا ما وصفه كيسنجر بـ"الفراغ بين القوة والإرادة"، وهو فراغٌ قد يتحول مع الوقت إلى نقطة ضعفٍ استراتيجية إن لم يُملأ برؤيةٍ وطنية موحدة.
خاتمة
إنّ الدبلوماسية اللبنانية بعد حرب 2024 تقف عند مفترقٍ حاسم: إمّا أن تكون أداةً لصياغة الممكن الوطني، أو أن تبقى أسيرة الانقسام الداخلي والضغوط الخارجية. ما يحتاجه لبنان ليس "إجماعاً لفظياً"، بل عقيدة دبلوماسية جديدة تقوم على ثلاث ركائز:
1. الاعتراف بأنّ سلاح المقاومة ليس عبئاً بل رصيداً تفاوضياً، شرط أن يُدار بعقل دولة.
2. بناء توافق داخلي حول مفهوم الردع كجزءٍ من السيادة لا بديلاً عنها.
3. صياغة خطاب خارجي واحد يعبّر عن دولةٍ تمتلك رؤية، لا عن أطراف متنازعة على تعريفها.
إنّ فن الممكن يبدأ حين تنتهي المزايدات. وكما قال كيسنجر: "الدبلوماسية الناجحة هي التي تجعل القوة مفهومةً ومُعترَفاً بها، لا موضع شك".
إذا أدرك لبنان هذه المعادلة، فبإمكانه أن يحوّل سلاح المقاومة من موضوع أزمةٍ إلى مرتكز سيادة، وأن يمارس "فن الممكن" من موقع الفاعل لا المفعول به. أمّا إن بقي أسيراً لها، فإنّ انتصارات الميدان ستظل حبيسة الخطابات، لا أوراق قوةٍ على طاولة الأمم.