ما بعد الحرب: هل أُصيب مجتمع المقاومة بصدمة جماعية؟

نحن أمام لحظة مفصلية يُؤسَّس عليها مجالٌ آخر لفضاء هذا المجتمع المقاوم وهذه المقاومة، في ظل التغيرات والتبدلات التي تعصف بالمنطقة.

  • الصدمة الجماعية من منظور علم النفس الاجتماعي (أ{شيف).
    الصدمة الجماعية من منظور علم النفس الاجتماعي (أرشيف).

"إن انتصار الشعب الصيني في حرب مقاومة العدوان الياباني هو انتصار للأمة الصينية جمعاء. فهو لم يُحبط فقط بشكلٍ تام مخططَ العسكرية اليابانية لاستعمار الصين واستعبادها، بل ألغى أيضًا المعاهدات غير المتكافئة التي جرى توقيعها مع القوى العظمى منذ العصور الحديثة، ما مكّن الصين من غسل عار قرن الإهانة".

الرئيس الصيني شي جين بينغ، 2015.

كثيرًا ما ذُكر ويُذكر "قرن الإهانة" في الأدبيات الصينية للإشارة إلى ما حصل تجاه الصين في القرنين الماضيين. فمن الخطاب الرسمي إلى المناهج التعليمية، إلى المتاحف ووسائل الإعلام، كلُّ ذلك كان من ضمن سياسة تحويل ما تعرضت له الصين من إهانة وإذلال - بحسب تعبيرهم - إلى شعور قومي ووعي تاريخي لهويتهم.

هذه الحادثة وغيرها من الوقائع التاريخية تُقارب وفقًا لمفهوم "الصدمة الجماعية"، وكما استثمرت الصين في تلك الأحداث التي شكّلت قرن الإهانة، فإن لبنان يواجه سؤالًا مشابهًا: "ما هو واقع جمهور المقاومة مع الأحداث التي حصلت؟ وهل يمكن تسميتها بالصدمة الجماعية؟"، و"كيف يتعامل جمهور المقاومة مع هذه الأحداث؟"

الصدمة الجماعية من منظور علم النفس الاجتماعي

في مقاربة الصدمة الجماعية، ثمّة تفرقة ما بين الحدث الصدمي والصدمة الجماعية؛ الأول هو نفس الحدث الذي يُنتج صدمة، أي الردود النفسية والاجتماعية التي تصيب جماعة أو مجتمعًا ما.
ولكي نستطيع التمييز بين الصدمة الفردية والجماعية، فإن النقطة الأولى التي يجب تمييزها هي: "ماذا يصيب هذا الحدث؟"

إضافةً إلى الخصائص العامة المُشتركة بين الصدمة الفردية والجماعية، من حدثٍ كبيرٍ وجللٍ مادي أو معنوي، غير متوقّع أو مخالف للتصورات، يترك حالة انفعالية شديدة، تترك آثارًا نفسية وجسدية؛ فإن المائز الأساسي هو أن الحدث الصدمي يصيب ما يمكن وصفه بـ "مركز ثقل اجتماعي نفسي ومعنوي".
هذا المركز قد يكون فردًا أو جهةً، أو أن يكون الحدث الصدمي قد حصل في زمان أو مناسبةٍ معينة لها رمزيتها عند جماعة.
ومن هنا يمكن القول بوضوح إن الصدمة الجماعية ليست مجموع صدمات فردية، بل هي ظاهرة نظامية تؤثر على النسيج الاجتماعي بأكمله.

على ماذا تؤثر هذه الصدمة؟

يذهب إريكسون، عالم الاجتماع الأميركي، إلى أن "الصدمة الجماعية تضرب الأنسجة الأساسية للحياة الاجتماعية، ما يلحق الضرر بالروابط التي تصل الناس بعضهم ببعض، وتفسد الشعور المجتمعي السائد".

وعليه، فإن الصدمة الاجتماعية تطال النظم الاجتماعية، والمعايير التي تشكّل الواقع النفسي والاجتماعي للجماعة أو المجتمع، والهوية الجماعية، والمشروع الخاص بالجماعة.

هل تنتقل عبر الأجيال؟

استنادًا إلى مفاهيم علم النفس الاجتماعي، فإن العقل الجمعي، الذي يختزن الشعور المشترك لجماعةٍ ما والمعرفة والخبرات، عابرٌ للأجيال.

وعليه، فإن الصدمة الجماعية من الأمور التي تنتقل من جيلٍ إلى جيل، كما يمكن ملاحظة ذلك في قرن الإهانة الصينية، أو الأرمن، أو الكرد.

الحرب القائمة بين الصدمة الجماعية والنهوض

في سردٍ سريع لأحداثٍ حصلت في أقل من سنة على المقاومة وجمهورها في لبنان، يمكن تعداد ما يلي:

تفجير البيجيرات واللاسلكي، اغتيال قادة المقاومة، اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله وخليفته، الأسبوعان القاسيان على التنظيم وتضعضع منظومة القيادة والسيطرة، سقوط سوريا مباشرة بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي، العدوان الأميركي الإسرائيلي على الجمهورية الإسلامية في إيران.

هذه الأحداث كلها أنتجت لدى جمهور ومجتمع المقاومة "صدمة جماعية"؛ أولًا لأن طبيعة الضربات التي حصلت إنما طالت مركزًا حيويًا وثقلاً نفسيًا في بنية المجتمع، فالسيد حسن نصر الله ليس شخصًا وفردًا فقط، بل هو تكثيف لهوية الجماعة التي يقودها وتاريخها[1]، وتفجير البيجيرات طال فئةً من المجتمع فيها ارتباط عاطفي ووجداني قوي، وهي تُشكّل عنصر أمان لهذا المجتمع، كذلك بقية الأحداث.

وعليه، فإن قراءة الأحداث التي حصلت لا بد وأن تُفهم في سياقها الأوسع المرتبط بمراكز ثقل المجتمع وشعوره بالأمان والتكتل، الأمر الذي يقودنا - بناءً على مراكمة هذه المؤشرات - إلى القول بحدوث صدمة جماعية لجمهور وبيئة المقاومة.

كيف يمكن ملاحظة ذلك؟

في تحديد المؤشرات التي من خلالها تُقاس حدّة الصدمة أو أثرها، يمكن القول ما يلي على مستوى المؤشرات:

زيادة المبادرات الاجتماعية على مستوى لبنان، تلبيةً للاحتياجات النفسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وذلك في سياق الاستجابة العاطفية الطبيعية لما حصل.

الخطاب المنطلق من الشعور بالتهديد، سواء على مستوى النخب أم عموم الناس، وكما صرّح الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم: "إننا نعيش تهديدًا وجوديًا". وهذا يأتي في سياق تجلّي الميكانيزميات الدفاعية لأي بيئة أو مجتمع يشعر بالتهديد.

إشكالية المعايير والمعنى التي تجلّت في تعريف الكثير من المفاهيم، أبرزها كان مفهوم النصر والهزيمة، والذي عمل الشيخ نعيم قاسم على تأكيده وتوضيحه في أكثر من خطاب.

كيف يتعامل الإسرائيلي والأميركي في هذا السياق؟

يحاول الإسرائيلي - بشكلٍ أساسي - ومن خلفه الأميركي، وحتى بعض الأصوات الداخلية في لبنان، استكمال الحرب عليه عبر استهداف الإدراك الجماعي.

بمعنى آخر، تهدف الحرب الإدراكية إلى تحطيم قدرة مجتمع المقاومة على تفسير الواقع، واستنزاف مناعته النفسية، وتحويل بعض آثار ونتائج الصدمة الجماعية من حالة مؤقتة يمكن البناء عليها إلى هوية دائمة وراسخة في هذا الجمهور.

التحديات في مسار نهضة الأمم

في دراساته المعمقة للحضارات، يذهب أرنولد توينبي، الباحث البريطاني في فلسفة التاريخ، إلى نظرية "التحدي والاستجابة"، موضحًا أن تدهور وسقوط الحضارات إنما يكون بسبب تخلف "الأقلية المبدعة" عن التكيّف والاستجابة للتحديات التي تظهر.
ويصرّح توينبي بقوله: "الحضارات تنهار عندما تكفّ عن مواجهة التحديات الجديدة، لأن القيادة فقدت روح الإبداع وتحولت إلى نخبة جامدة".

ويمكن، بملاحظة أولية لما حدث ويحدث بعد انتهاء العدوان العسكري الشامل، أن ننظر إلى مجموعة عناصر أساسية، بنيوية وثقافية، جرت مراكمتها على مدى أربعة عقود من الصراع، في هذا المجتمع، وهي:

-التماسك الهوياتي المستند إلى نقطتين:

• الذاكرة الجمعية الحيّة، والتي تُشكّل مرجعية أساسية في تفسير الأحداث وربطها بالسياق الأوسع للجماعة.
• وجود مشروع جماعي طويل الأمد، لا يُقاس بظروف اللحظة، بل يتصل بسردية ممتدة من الماضي إلى المستقبل. وهذا المشروع هو ما يمنح المجتمعات القدرة على امتصاص الضربات وإعادة تموضعها كجزء من مسار أكبر لا يزال فاعلًا.

-المرونة المجتمعية وتماسك الشبكات الاجتماعية، التي ظهرت خلال الحرب وبعدها. هذه المرونة، يصفها أحد الباحثين - إضافة إلى الاستجابة الإبداعية للتحديات - بأنها هي التي حوّلت انطلاقة مجموعة في بداية الثمانينات إلى جماعة، ثم إلى تنظيم، ثم إلى قيادة مجتمع، وهو في مسار تصاعدي.

- وجود "مجال عام حيّ" لهذا المجتمع، يتعزز فيه الفعل الجماعي الواعي، ويسعى من خلاله إلى إعادة تعريف التهديد، وإدخاله في مشروع تقدم ونهضة لهذا المجتمع. وهي مسؤولية تقع على عاتق النخب والفاعلين والمثقفين في هذا المجتمع.

في المحصلة:

يمكن القول إننا أمام لحظة مفصلية يُؤسَّس عليها مجالٌ آخر لفضاء هذا المجتمع المقاوم وهذه المقاومة، في ظل التغيرات والتبدلات التي تعصف بالمنطقة.

الأساس فيه هو أن يُدرك هذا المجتمع الواقع والتحديات المطروحة، خصوصًا أننا نصوغ ذاكرة الأجيال اللاحقة التي ستحمل هذا المشروع وتكمله، فالإنكار يقتل القدرة على التجدد والتقدم – توينبي.