معاهدة البلاستيك العالمية: هل تنقذ جنيف الكوكب من "السمّ الصامت"؟

وسط تصاعد التلوث البلاستيكي وتحوّله إلى تهديد وجودي، تتجه الأنظار إلى جنيف، حيث تُصاغ معاهدة قد تغيّر مصير الكوكب. في مفاوضات محفوفة بالتجاذبات والمصالح، تُطرح أسئلة حاسمة: هل يمكن كبح سمّ البلاستيك الصامت؟ وهل تنتصر البيئة على نفوذ الشركات و"لوبيات"؟

  • UN News/Laura Quinones
     تتسارع الكارثة على الأرض وفي البحر UN News/Laura Quinones

بدأ في جنيف منذ أيام اجتماع ترعاه الأمم المتحدة ويضم ممثلين عن نحو 180 دولة، سعيا لوضع أول معاهدة عالمية لمكافحة آفة التلوث البلاستيكي الذي يهدد الكوكب بكامله.

وعلى امتداد 10 أيام مصيرية من آب/ أغسطس 2025، تتجه أنظار العالم نحو "مفاوضات مصيرية" لصياغة أول معاهدة عالمية ملزمة قانونياً للحد من التلوث البلاستيكي.

وفي وقتٍ تتسارع فيه الكارثة على الأرض وفي البحر، وفي الهواء وفي الأجساد، تظهر المعاهدة المنشودة كمحاولة إنقاذ أخيرة من كارثة صامتة تتهدد الصحة العامة، البيئة، والاقتصاد العالمي.
لكن خلف الشعارات والبيانات الرسمية، تدور "معركة طاحنة" بين من يريد معاهدة شاملة وجذرية، وبين من يسعى لتقزيمها وإفراغها من مضمونها. وبين هذين الطرفين، يقف الكوكب كلّه على المحك.

أزمة من جزيئات… في كل مكان

ما عاد التلوث البلاستيكي مجرد مشهد بصري مزعج على الشواطئ أو في الشوارع، بل تحوّل إلى تهديد مادي مباشر لجسم الإنسان.

تقول غوى النكت، المديرة التنفيذية لمنظمة "غرينبيس" في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إن "الميكروبلاستيك أصبح الآن داخل أجسامنا، بما في ذلك أدمغتنا وأكبادنا، وفي المياه التي نشربها، والهواء الذي نتنفسه. هذه ليست فقط قضية بيئية، إنها حالة طوارئ صحية عامة".
و وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، تجاوز استهلاك البشرية للبلاستيك في 2024 حاجز 500 مليون طن، وتحوّل منها 399 مليون طن إلى نفايات، مع نسبة ضئيلة لا تتجاوز 10% تخضع لإعادة التدوير. أما الباقي، فيُطمر، أو يُحرق، أو يتسرب إلى المحيطات، أو يتفتت إلى جسيمات متناهية الصغر تدخل في أجسام الأسماك والبشر معاً.

  • UNEP/Cyril Villemain
    UNEP/Cyril Villemain

البلاستيك اليوم ليس مجرد نفايات، إنه جزء من الغذاء، من الهواء، من الأنسجة الحية، بل وحتى من حليب الأطفال. ومع ذلك، لا يزال التوجه إلى معاهدة قوية ملزمة يراوح مكانه منذ انطلاق أولى جولات المفاوضات عام 2022.

معاهدة في مهب جماعات الضغط

رغم التوافق شبه العام على خطورة الأزمة، إلا أن الخلافات الجوهرية تُعرقل الوصول إلى اتفاق ملزم. فقد فشلت الجولة الخامسة في بوسان بكوريا الجنوبية في إحراز تقدم حقيقي، نتيجة ضغوط مارستها دول منتجة للنفط وداعمة لصناعة البلاستيك، سعت إلى تقويض أي محاولة للحد من إنتاج البلاستيك عند المصدر.

تلك الدول -التي تهيمن على سوق النفط والغاز- تقترح التركيز على "إدارة النفايات" بدلاً من تقليص الإنتاج، وهو ما يرفضه العلماء ومنظمات المجتمع المدني جملة وتفصيلاً.

  • afp_tickers
    afp_tickers

وتقول إنغر أندرسن، المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، بوضوح: "لن نخرج من أزمة تلوث البلاستيك عن طريق إعادة التدوير؛ نحن بحاجة إلى تحوّل منهجي لتحقيق الانتقال إلى اقتصاد دائري". بمعنى أن الحل ليس في تدوير القمامة، بل في إعادة صياغة الاقتصاد العالمي ليكفّ عن إنتاج هذه القمامة من الأصل.

الشرق الأوسط: غائب أم مُهمّش؟

ضمن هذا المشهد العالمي، أطلقت منظمة "غرينبيس" الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نداءً موجهاً إلى قادة المنطقة، دعتهم فيه إلى "اتخاذ موقف جريء وموحد من أجل معاهدة قوية وملزمة تحمي مجتمعاتنا وأنظمتنا البيئية واقتصاداتنا".
وتُشير المنظمة إلى أن المنطقة تُعد من أكثر المناطق تضرراً من التلوث البلاستيكي، سواء في سواحلها أو أنظمتها البيئية أو صحتها العامة. ورغم ذلك، لا تزال مواقف الدول العربية -باستثناء بعض المبادرات المحدودة- خجولة أو غير موجودة، ما قد يُفضي إلى تهميش مصالحها في اتفاق له طابع تاريخي.

تشدد غوى النكت على أن "منطقتنا لا يمكنها أن تتحمل تهميشها في هذه المفاوضات المصيرية"، وتطالب بمعاهدة تتضمن 4 ركائز رئيسية: تقليص الإنتاج، حظر المنتجات ذات الاستخدام الواحد، دعم إعادة الاستخدام، وآليات تمويل عادلة للدول النامية.

الاقتصاد في مواجهة البيئة: معركة القرن؟

يُعتبر البلاستيك اليوم واحداً من أكثر الصناعات ربحية، لكنه أيضاً من أكثرها تلويثاً. وفقاً لمركز القانون البيئي الدولي، فإن 99% من البلاستيك مشتق من الوقود الأحفوري، ويتضمن أكثر من 1600 مادة كيميائية خطيرة يتعرض لها الإنسان يومياً. ويُنتج البلاستيك سنويًا ما يقارب 1.8 مليار طن من انبعاثات غازات الدفيئة، أي أكثر من مجمل انبعاثات الطيران والشحن معاً.
هذا يعني أن أي معاهدة تحد من إنتاج البلاستيك ستكون بمثابة ضربة قوية لصناعات كبرى، من البتروكيماويات إلى تجارة البلاستيك العالمية. ولهذا، فإن اللوبيات الصناعية تعمل بلا هوادة لعرقلة الاتفاق أو تمييعه.
وفي المقابل، يُجادل العلماء بأن ما هو على المحك أبعد من الأرباح. فالتلوث البلاستيكي لم يعد مجرد خطر على الطبيعة، بل عامل مباشر في الأمراض، تشوهات الأجنة، العقم، أمراض الجهاز العصبي، وتراجع الخصوبة.

  • معاهدة البلاستيك العالمية: هل تنقذ جنيف الكوكب من
     تتسارع الكارثة على الأرض وفي البحر (الصورة:  Unsplash/Naja Bertolt Jensen موقع الأمم المتحدة)

من باريس إلى جنيف: هل تكون المعاهدة القادمة نقطة تحول؟

يرى العديد من المراقبين أن معاهدة البلاستيك قد تكون المكافئ البيئي لاتفاق باريس للمناخ. أي أنها لحظة مفصلية تحدد اتجاه البشرية لعقود قادمة.

لكنّ الخطر يكمن في أن تتحول المعاهدة من أداة للتغيير إلى وثيقة رمزية بلا أثر حقيقي، إذا تم تفريغها من الزامية الأهداف أو وضوح التمويل أو آليات المراقبة والمساءلة.


وتسعى منظمة الأمم المتحدة لأن تشمل المعاهدة دورة حياة البلاستيك كاملة: من التصميم إلى الإنتاج، ثم الاستخدام، فالتخلص، وذلك ضمن إطار "الاقتصاد الدائري" الذي يمنع تسرب البلاستيك إلى البيئة.

لكن حتى هذه اللحظة، لم يتم الاتفاق على فرض سقف للإنتاج، ولا على آليات حظر المنتجات الأكثر تلويثاً، ولا حتى على تمويل كافٍ لمساعدة دول الجنوب على الانتقال إلى بدائل نظيفة. وقد حذرت منظمة السلام الأخضر من أن "القادة يواجهون قوى مضادة، في شكل جماعات ضغط لا تريد اتفاقاً ملزماً".

نحو مستقبل بلا بلاستيك: هل الحلم ممكن؟

في مواجهة هذا المشهد المأزوم، يُعبّر العلماء والناشطون عن تفاؤل حذر. شيلان سالينغ، من شبكة الشباب ضد البلاستيك، تقول: "يؤثر البلاستيك على كل شيء من المناخ إلى الصحة والخصوبة والعيوب الخلقية… بدون تخفيض الإنتاج، يمكن أن يزداد الوضع سوءًا".
بدورها، شددت الدكتورة كريسيدا بوير من جامعة بورتسموث على أن "نهج حماية الصحة لا يزال معلقاً في المعاهدة، رغم الأدلة العلمية المتزايدة على خطورة البلاستيك على الإنسان".
أما البروفيسورة ماريا إيفانوفا، فذهبت إلى أبعد من ذلك، مؤكدة أن على المعاهدة أن تعالج جذور اقتصاد البلاستيك بالكامل، بما في ذلك التجارة وسلاسل الإنتاج العالمية.

رهانات في جنيف

الرهانات في جنيف عالية للغاية، والمفاوضات أكثر من مجرد حبر على ورق. إنها اختبار لنظام عالمي يقول إنه يريد إنقاذ الكوكب، بينما تديره مصالح لا ترى أبعد من الأرباح السنوية.
سواء نجحت جنيف أو فشلت، فإن الحقيقة المؤلمة باقية: نحن نُغرق في البلاستيك، حرفياً. ومع كل دقيقة تأخير، تُنتج المصانع ملايين الأطنان الجديدة، وتتسلل الجزيئات إلى غذائنا ومائنا وأجسامنا.

اقرأ أيضاً: "غرينبيس" تدعو لمعاهدة عالمية "قوية" للحد من التلوث البلاستيكي

المعاهدة المنتظرة ليست ترفاً سياسياً، بل ضرورة وجودية. ولعل السؤال الحقيقي الذي يجب أن يُطرح ليس: هل نريد معاهدة قوية؟ بل: هل نستحق البقاء دونها؟

اخترنا لك