اقتصاد "التجويع".. ليس مجرد منع دخول مساعدات!

في إدارتها لاقتصاد التجويع الممنهج، عملت حكومة نتنياهو بمؤسساتها السياسية والعسكرية على تنفيذ مجموعة من الإجراءات المباشرة، والتي كان من شأنها زيادة الخناق على سكان القطاع سعياً لتحقيق أهداف محددة.

0:00
  • نهج اقتصاد
    نهج اقتصاد "التجويع" المتبع من قبل حكومة نتنياهو أثمر عن تحقيق نتائج عدة.

دخول معظم سكان غزة في دائرة المجاعة بمستواها الخامس، وهو الأشد فتكاً بالحياة، لم يكن نتيجة لتشديد "إسرائيل" مؤخراً حصارها الاقتصادي على القطاع، ومنعها شاحنات المساعدات الإنسانية من الدخول فحسب، وإنما هو حصيلة منظومة متكاملة من السياسات والإجراءات بدأت "إسرائيل" بتطبيقها منذ اللحظات الأولى لعدوانها المستمر على القطاع، والذي كان قد بدأ قبل نحو عامين.

تلك السياسات والإجراءات هدفت من خلالها حكومة نتنياهو إلى إضعاف المجتمع الفلسطيني في القطاع اقتصادياً ومعيشياً، وصولاً إلى مرحلة تجويعه اليوم بهدف الإخضاع.

ولذلك، فإن أولوية إنقاذ سكان غزة من المجاعة الحاصلة حالياً لا تكمن في السماح بدخول المساعدات الإنسانية من دون قيد أو شرط فقط، وإنما هناك ثلاثة مطالب أساسية أخرى يجب تنفيذها بشكل متزامن مع بعضها البعض. وهذه المطالب هي: وقف العدوان، سحب الاحتلال لجنوده من مدن القطاع ومناطقه كافة، ووقف جميع السياسات والإجراءات المعيقة لحركة اقتصاد القطاع.

لقد عمدت "إسرائيل" منذ السابع من أكتوبر عام 2023 إلى تضييق حصارها المفروض على القطاع منذ عام 2007، بحيث شمل ذلك التضييق كل ما من شأنه أن يتيح لسكان القطاع الحصول على الغذاء. فكان أن تم مثلاً إلى جانب منع دخول شاحنات المساعدات الغذائية الأممية أو التقليل من عددها إلى مرحلة لا تلبّي الحدّ الأدنى من احتياجات السكان، قطع المياه والكهرباء والاتصالات والوقود، منع إيصال رواتب موظفي القطاع والتحويلات الخارجية، محاربة التمويل الخارجي للمساعدات الإغاثية الموجهة لسكان القطاع، تقييد عمل المنظمات الإنسانية الفاعلة لا سيما "الأونروا"، وعزل القطاع كاملاً عن الأراضي العربية المحتلة والضفة الغربية ومصر.

بالتزامن مع تطبيق هذه السياسات والإجراءات، كانت لائحة أهداف "الجيش" الإسرائيلي في عدوانه الجوي والبحري والبري تتضمن تدمير كل المنشآت الإنتاجية في القطاع ومرافقه الخدمية وبناه التحتية. فتم على سبيل المثال تدمير صوامع الحبوب، منشآت المداجن، المخابز، محطات ضخ المياه، شبكات توزيع الكهرباء، المعامل الصناعية والورش الحرفية، تجريف الحقول الزراعية، وكل ما من شأنه أن يسهم في قطع مصادر الحياة عن سكان القطاع وتحويلهم إلى منتظري مساعدات قد يأتي بعضها وغالباً لن يأتي. فكل الأنشطة الاقتصادية في القطاع باتت مدمرة ومتوقفة بالكامل. وهنا، تأتي المرحلة الثالثة من اقتصاد التجويع الذي يبنيه كيان الاحتلال.

سياسياً واقتصادياً وعسكرياً

في إدارتها لاقتصاد التجويع الممنهج، عملت حكومة نتنياهو بمؤسساتها السياسية والعسكرية على تنفيذ مجموعة من الإجراءات المباشرة، والتي كان من شأنها زيادة الخناق على سكان القطاع سعياً لتحقيق أهداف محددة أبرزها: زيادة الضغط على فصائل المقاومة في المفاوضات الجارية بغية فرض الشروط الإسرائيلية، تقليب سكان القطاع على المقاومة عبر محاولة تحميلها المسؤولية عما آلت إليه أوضاعهم المعيشية وإظهار "إسرائيل" كمصدر للغذاء، والأخطر هو دفع السكان تدريجياً إلى تقبّل خيار الهجرة كملاذ أخير للحياة، نتيجة انسداد كل أفق آخر.

ويمكن اختصار تلك الإجراءات المتبعة بالنقاط الآتية:

- تطبيق نظرية التجويع المناطقية بغية تشجيع عملية تهجير سكان القطاع وتجميعهم ضمن حيز جغرافي صغير. إذ يلاحظ أن سياسة التجويع بدأت في شمال القطاع وذلك تزامناً مع عملية عسكرية واسعة، ثم انتقل التجويع إلى الوسط فالجنوب وهكذا يتم إضعاف المجتمع وخلخلة بنيته وتماسكه بحقوقه المشروعة.

- الدعم المباشر وغير المباشر لمجموعات محلية بحجة "حماية شاحنات المساعدات وتوزيعها"، لكنها عملياً هي مجموعات خارجة عن القانون مهمتها الأساسية تقوم على نهب هذه المساعدات، وبيعها في السوق السوداء أو تهريبها إلى داخل الأراضي العربية المحتلة، فالمهم ألا تصل إلى المستحقين لها من سكان القطاع.

- تأسيس مؤسسة غزة الإنسانية بغية إدارة "اقتصاد التجويع" تحت مظلة دولية، فهذه المؤسسة وحسب تقارير المنظمات الأممية والدولية تسبب عملها في استشهاد المئات من منتظري المساعدات، وعموماً هناك توافق دولي واسع من الأمم المتحدة، منظمات حقوق الإنسان، وحتى من جهات طبية مثل "أطباء بلا حدود"، على فشل "مؤسسة غزة الإنسانية" في العمل الإنساني الصحيح، سواء على مستوى المبادئ أو السلامة أو الشفافية. الأجواء تحوّلت من مجرد شكوك إلى تحركات فعلية لوقف عملها، وفحص مصادر تمويلها، وإعادة توزيع المسؤولية عبر آليات الأمم المتحدة المعتمدة.

- خلق فوضى "منظمة" من خلال السماح بدخول عدد قليل جداً من الشاحنات، ومن ثم إجبار هذه الشاحنات على السير ضمن محاور معينة مكتظة بشرياً، وذلك بغية إما اصطياد منتظري المساعدات من قبل جنود الاحتلال بحجة وجود تهديدات جراء الفوضى الحاصلة، أو تعريض الشاحنات للخطر، وبالتالي زيادة مخاوف سائقي الشاحنات من التوجه إلى القطاع مجدداً.

ليست خافية على أحد

وفي ضوء التواطؤ الأميركي الداعم للسياسات الإسرائيلية، وعجز الدول العربية والغربية عن اتخاذ إجراءات عملية لوقف مذبحة التجويع، فإن نهج اقتصاد "التجويع" المتبع من قبل حكومة نتنياهو أثمر عن تحقيق نتائج عدة من أبرزها ما يلي:

- حدوث مجاعة رسمية في القطاع تشمل نحو 2.2 مليون شخص، وهو واقع موثق يومياً بموجب التقارير الصادرة عن المنظمات الأممية والدولية. والتقديرات الدولية تشير إلى أكثر من نصف سكان القطاع باتوا في المرحلة الخامسة من مراحل الجوع، وهي المرحلة المؤدية للأسف إلى الموت جوعاً.

- انهيار المنظومة الصحية والتعليمية والمرافق الخدمية الأساسية من شبكات المياه والصرف الصحي وغيرها. فالمستشفيات باتت عاجزة عن تقديم الحد الأدنى من الخدمات الصحية، ومعظم الأسر تحصل على مياه شرب ملوثة أو غير نظيفة بنسبة كبيرة.

- ارتفاع معدلات الوفاة بسبب الجوع أو أمراض مرتبطة به، لا سيما بين الأطفال والأمهات وكبار السن، والصور المؤلمة الواردة من القطاع يومياً باتت تهز مشاعر العالم أجمع، وهو ما دفع بعض الحكومات الغربية إلى رفع الصوت ومطالبة "إسرائيل" بوقف الحرب والسماح بدخول المساعدات من دون أي شروط.

- تعمق حالة الفقر في القطاع، وانزلاق أكثر من 85% من السكان إلى خانة الفقر المدقع، وهذا يعني أن آثار اقتصاد التجويع لن تزول بمجرد إدخال المساعدات الغذائية وتوفير مستلزمات الرعاية الصحية وغيرها، بل هي تحتاج إلى تفكيك شامل للمنظومة التي أنتجتها.