خيارات غزة الصعبة!

قطاع غزة مُقبل على تطورات مهمة وبالغة التعقيد، كما هي حال كل ساحات المقاومة في الإقليم، ويمكن أن ينتج عن هذه التطورات تداعيات دراماتيكية وحاسمة قد تغيّر كثيراً من صورة المشهد القائم حالياً.

  • الاحتلال ليس وحده الذي يعاني من نفاد الخيارات أو قرب نفاها.
    الاحتلال ليس وحده الذي يعاني من نفاد الخيارات أو قرب نفاها.

كتبنا قبل أيام عن قرب نفاد خيارات الاحتلال في مواجهة الشعب الفلسطيني البطل في قطاع غزة، وأشرنا بالتفصيل إلى جملة من الخيارات التي قد يلجأ إليها لتحقيق ما يسمّيه بالنصر الحاسم، والذي يشكّك في إمكانية تحقيقه معظم الخبراء والمحلّلين في "إسرائيل"، إلى جانب رؤساء سابقين للوزراء والأجهزة الأمنية في "الدولة" العبرية.

وفي حقيقة الأمر، فإن تمكّن "دولة" الاحتلال بكل ما تملكه من وسائل عسكرية هائلة، ومن دعم سياسي وقانوني وإعلامي غير مسبوق توفره لها دول محور الشر في المنطقة والعالم، بالإضافة إلى حالة العجز التي تسيطر على كل الدول والأنظمة القريبة والبعيدة، وفي ظل غياب واضح وفاضح للدول العربية والإسلامية إلا من رحم الله، في ضوء كل ما سبق، فإن تمكّن "دولة" الاحتلال من الوصول إلى أهدافها المعلنة والتي رفعتها منذ بداية الحرب قبل اثنين وعشرين شهراً تقريباً، وما زالت تردّدها حتى الآن لا تبدو واقعية، ولا يظهر في الأفق القريب على أقل تقدير أنها يمكن أن تصل إلى الجزء الأكبر منها، على الرغم من اختلال موازين القوى لصالحها، وتفاوت القدرات والإمكانيات بينها وبين فصائل المقاومة في غزة.

ولكن، حتى نكون منصفين وواقعيين، فإن الاحتلال ليس وحده الذي يعاني من نفاد الخيارات أو قرب نفاها، إذ إن الطرف الثاني في هذه الحرب القاسية والصعبة يواجه هو الآخر محدودية في الخيارات، ربما تكون أكثر تعقيداً من تلك التي يواجهها الاحتلال، لا سيّما أن هذا الطرف وهو المقاومة الفلسطينية في القطاع المُحاصر والمنكوب يفتقر إلى أدنى المقوّمات التي تمكّنه من مواجهة هذا السيل الجارف من العمليات العدوانية، والتي تترافق مع مروحة واسعة من الأزمات المعيشية والحياتية التي خلّفها العدوان، والتي أنهكت سكّان القطاع كما لم تفعل أي أزمة سابقة، بل ويمكن أن تدفع الكثيرين منهم في مرحلة قادمة إلى التفكير في مغادرة أرضهم إلى أي جهة قد تُفرض عليهم، بحثاً عن الأمان لهم ولعوائلهم من جهة، وللحصول على قوت عيالهم الذي بات أمنية صعبة المنال بفعل الحصار الإسرائيلي من جهة أخرى.

في غزة وبعد هذا الوقت الطويل من الصمود والثبات منقطعَي النظير، وبعد تضحيات بشرية ومادية هائلة قلّ نظيرها، وفي ظل اعتماد حكومة العدو خطة احتلال قطاع غزة بالكامل، وتوسيع ما تُسمّيه بـ"المناورة البرية" ،والتي حسب متابعتنا عن قرب فإنها تُنفّذ بالفعل على أرض الواقع منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، مستهدفة في الأساس مدينة غزة أكبر مدن القطاع وأكثرها سكّاناً، والتي تم تدمير المناطق الشرقية فيها بشكل كامل، وبدأت خلال الأيام الأخيرة آلة الحرب والتدمير الإسرائيلية بالاتجاه نحو مناطقها الغربية كما هي الحال في منطقة التفاح، شمال شرق المدينة، وهو الأمر المرشّح للانتقال إلى حي الزيتون العريق، والذي شهد دماراً هائلاً كما هي حال حي الشجاعية المجاور في الأسابيع الأخيرة، في ظل هذه التطورات التي يراها البعض بالغة الخطورة، والتي يمكن أن ينتج عنها مزيد من الدمار والخراب الهائلين، تبدو خيارات المقاومة الفلسطينية ومعها كل سكان القطاع محدودة للغاية، بل تكاد تكون معدومة، خصوصاً في ظل تعنّت الاحتلال، ورفضه أي حلول أو مقترحات قد تؤدي إلى وقف الحرب، وإلى حدوث انفراجة تخفّف من وطأة عدوانه على المواطنين في غزة.

كنت أتحدّث بالأمس مع صديق مطّلع على سير مفاوضات التهدئة التي جرت مؤخّراً في الدوحة، والتي كان الجميع يعتقد أنها ستُفضي إلى وقف لإطلاق النار حتى لو كان بشكل مؤقت، وفي حقيقة الأمر، هذا ما كانت تشير إليه معظم التقارير الواردة من هناك، حتى بات الناس في غزة حينذاك يتهيؤون لليوم التالي للحرب، التي اعتقدوا أنها أصبحت جزءاً من الماضي، وأن مرحلة إعادة البناء واستعادة حياتهم الطبيعية قد أضحت على الأبواب، إلا أن الاحتلال وحليفة الأميركي كما هي العادة قد انقلبا على كل ما تم التوصّل إليه من توافقات.

أخبرني صديقي هذا أن الأمور كانت بالفعل قريبة جداً من حدوث اتفاق، وأن الرتوش الأخيرة والصغيرة قد تم الانتهاء منها، وباتت المسألة بحاجة إلى ساعات قليلة للإعلان عن التفاصيل، والتي كانت ستعالج بنسبة كبيرة جزءاً واسعاً من الأزمات التي يواجهها السكان في القطاع، إلى جانب وجود إمكانية حقيقية للتوصّل إلى وقف نهائي للحرب في مرحلة لاحقة ،على الرغم من عدم وجود نوايا لدى رئيس وزراء الاحتلال وحكومته اليمينية المتطرّفة بالذهاب نحو هذا الخيار، إلا أن هذا الاحتمال كان وارداً ومتاحاً نتيجة الكثير من المتغيّرات، خصوصاً ما يتعلّق منها بالوضع الإسرائيلي الداخلي، والأزمات التي يواجهها نتنياهو وائتلافه الحكومي.        

الآن، وقد وصلت الأمور إلى هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الحرب على غزة، وبعد حالة الاستنزاف الكبير التي ضربت كل مناحي الحياة في القطاع الصغير والفقير، وفي ظل هذا الهوان الذي بات يسيطر على مواقف جميع الدول والأنظمة في المنطقة والعالم، والذي انسحب على الشعوب أيضا، وبعد ترك غزة تواجه مصيرها وحدها كما تبدو عليه الحال في هذه الأيام الصعاب، تبدو المقاومة الفلسطينية لا سيّما حركة حماس في موقف لا تُحسد عليه، وتبدو خياراتها ومعها الكل الوطني الفلسطيني بفصائله ومؤسساته إلى جانب السكان المدنيين محدودة للغاية، ولا تكاد تتجاوز خيارين اثنين كلاهما مر، وسيكون لأيٍ منهما تداعيات خطيرة ليس على قطاع غزة فقط، بل على القضية الفلسطينية برمّتها.

الخيار الأول هو تقديم تنازلات واضحة وملموسة، والقبول بالإملاءات الإسرائيلية-الأميركية، والتي عبّر عنها بوضوح مقترح المبعوث الأميركي الأخير، والذي كانت حماس والمقاومة قد أدخلت عليه بعض التعديلات التي رأت أنها ضرورية، لا سيّما في ما يتعلّق بإدخال المواد الإنسانية والإغاثية، وضرورة وجود ضمانات تُلزم العدو بتنفيذ كل بنود الاتفاق بشكل كامل، وعدم التنصّل منه كما فعل إبّان اتفاق التاسع عشر من كانون الثاني/يناير الماضي، إلى جانب بنود خاصة بمفاتيح الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.

في حال تم هذا الأمر وهو مستبعد حتى الآن على أقل تقدير، فهو يعرّض حماس تحديداً إلى إحراج كبير، وسيحمّلها مسؤولية سقوط مئات الشهداء في الفترة التي تلت انهيار المفاوضات، والتي شهدت تصعيداً إسرائيليا ًكبيراً ،نتج عنه مآسٍ وكوارث إنسانية هائلة، خصوصاً بعد أن استشرت المجاعة في صفوف الفلسطينيين، الذين وجدوا أنفسهم بين فكي الحرب من جهة ،والجوع والإفقار من جهة أخرى.

الخيار الثاني وهو الذي نعتقد أن حماس والمقاومة ستلجأ إليه هو مواصلة القتال مهما كانت التداعيات، ورفض كل عمليات الضغط والابتزاز التي تُمارس عليها، من خلال توسيع عمليات القتل ضد المدنيين العزّل، إلى جانب تعميق حالة الدمار والخراب التي تهدّد بتحويل قطاع غزة بكامله إلى منطقة مدمّرة، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من عمليات تهجير قسري كان البعض يعتقد باستحالة حدوثها.

اللجوء إلى هذا الخيار يعني تعريض مئات آلاف المواطنين في مدينة غزة تحديداً، وفي باقي مناطق القطاع عموماً، لمجازر ومذابح قد تفوق في بشاعتها كل ما سبق، وقد تؤدي إلى سقوط عشرات آلاف الشهداء والجرحى، لا سيّما إذا ما عرفنا أن الفئة الأخيرة والتي بلغت أكثر من مائة وثلاثين ألف جريح  ومصاب لا تكاد تجد علاجاً مناسباً لها، أو مركزاً طبياً متخصصاً تتلقى فيه العلاج المطلوب، بل إن معظم هؤلاء الجرحى يُعالجون في طرقات وممرات وحتى أبواب ومداخل ما تبقّى من مستشفيات ،هذا في حال جاز لنا أن نطلق مسمّى مستشفى على بعض المراكز الطبية المتهالكة، والتي تفتقد إلى أدنى المقومات والإمكانيات  المطلوبة في هذا المجال.

إلى جانب الخسائر البشرية المُتوقعة نتيجة لتوسيع العمليات العدوانية ضد مدينة غزة على وجه الخصوص، يطل شبح إخلاء المدينة وتهجير أهلها برأسه كما لم يفعل في أي وقت سابق، ومع أن عشرات الآلاف من سكان كبرى مدن القطاع قد غادروها في الأشهر الأولى من العدوان، إلا أن بقاء عشرات الآلاف الآخرين في ذلك الوقت، قد أفشل خطة التهجير الإسرائيلية، وقضى عليها في مهدها كما كانت الحال بعد تنفيذ "خطة الجنرالات" ضد سكّان جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون في مطلع العام الحالي، والتي سقطت هي الأخرى بفعل صمود وثبات أهالي محافظة الشمال البواسل.

في هذه الأيام، قد تبدو الأمور أكثر صعوبة وتعقيداً، إذ إن حجم الدمار الكبير الذي أصاب هذه المدينة، وأدّى إلى خراب غير مسبوق فيها، إلى جانب حجم عمليات القصف والقتل التي ارتفعت وتيرتها بشكل ملحوظ، قد تؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، خصوصاً في ظل قيام العدو بحملة ترهيب واسعة ضد السكان المدنيين، والذين سئموا الحرب بكل تفاصيلها، وبات همّهم الأكبر البحث عن كسرة خبز وشربة ماء لأطفالهم الجوعى والعطشى.

على كل حال، وبغض النظر عن الخيار الذي ستلجأ إليه المقاومة في غزة، وبعيداً عن إمكانية حدوث انفراجة مفاجئة لا يتوقّعها معظم المتابعين والمحللين، فإن قطاع غزة مُقبل على تطورات مهمة وبالغة التعقيد، كما هي حال كل ساحات المقاومة في الإقليم، ويمكن أن ينتج عن هذه التطورات تداعيات دراماتيكية وحاسمة قد تغيّر كثيراً من صورة المشهد القائم حالياً.

الأيام القادمة ستكشف من دون أدنى شك عن صورة هذه التداعيات، وستميط اللثام عن شكل وتفاصيل تلك التطورات، وهي دون أدنى شك ستكون بحاجة إلى مواقف متقدّمة للتعامل معها، وإلى تفكير خارج الصندوق لتجاوز ما قد ينتج عنها من متغيّرات، قد تكون لا سمح الله في صالح قوى الشر في المنطقة والعالم، والتي تحاول بكل ما أوتيت من قوة وإمكانيات تحقيق نصر حاسم وناجز كانت تحلم به منذ سنوات طوال.