ممداني: غزة، الصين، وأزمة النظام الرأسمالي
صَدَع ظهر للمرة الأولى في التاريخ الحديث، نجم عن تفاعلات الأزمة الرأسمالية الداخلية، من جهة، وصعود قوى كبيرة عالمية من جهة ثانية، فتأتي مجازر غزة كالصاعق الذي فجّر قنبلة الاحتقان العالمي.
-
تتعدد النظرات والرؤى لظاهرة ممداني.. ماذا يعني هذا الفوز؟
بقدر ما هي مفاجئة ظاهرة بروز زهران ممداني كعمدة لمدينة نيويورك، بقدر ما هي إشكالية تكتنز الكثير من المعاني والأبعاد.
في عالمنا العربي والإسلامي، غلبت النظرة إلى ممداني كفوز وتقدم لحالة إسلامية في بلد أكثر ما أساء للإسلام ببعدين: العداء والصداقة في آن، عداؤه للإسلام الرافض له بطبيعة جوهر الإسلام كأيديولوجيا مناصرة للعدالة، وحقوق الإنسان، ورفض الاعتداء، كإسلام إيران، وقوى المقاومة للعدو الصهيوني، من جهة، وصداقته المسيئة للمسلمين بعلاقته مع دول إسلامية كانت صداقته معها عملية ابتزاز، ونهب ثروات، واستغلال سياسي كما مع مصر، والمملكة العربية السعودية وبقية دول الخليج العربي، ناهيك باستيلاده منظمات بمسمّى إسلامي، وضعت تحت خانة الإرهاب.
وإن كان من جدل حول إسلام ممداني، فهو لكونه مسلماً كان يفترض محاربته أكثر، ومنعه من الوصول على هذه الخلفية بقوة أكبر، وليس العكس كما رغب كثيرون تفسيره.
تتعدد النظرات والرؤى لظاهرة ممداني، وهي ظاهرة جديدة، لم تأخذ الوقت الكافي لدراسة أبعادها وخلفياتها، وهل هي تطوّر لواقع محلي-أميركي بحت، أم لتطورات إقليمية أو دولية، أم مزيج من الأمرين معاً؟ وسيستغرق تفسير هذه الظاهرة وقتاً طويلاً لمعرفة معانيها، ذلك لأنها ليست ظاهرة بسيطة وعابرة، بل ظاهرة كبيرة ومتعددة المعاني، طاعنة في قلب أعتى قوة دولية.
من ضمن ما يمكن رؤيته حول الظاهرة أنها نتاج تفاعل بين تطورات خارجة عن المجتمع الأميركي، مضافةً إلى تفاعلات أميركية داخلية، تحمل في طياتها انعكاسات التطورات الدولية المتبلورة رويداً رويداً منذ سنوات قليلة، وما خلفته وتخلفه بصورة متنامية على الواقع الأميركي.
بمعنى آخر، إن ظاهرة ممداني هي تفاعل جدلي بين نهوض عالمي بدأ يترك آثاراً عميقة في حياة العالم، وما ارتفاع أسعار الذهب والفضة وبقية المعادن النفيسة إلّا إرهاصات ذلك النهوض،وبين تفاعلات الأزمة الرأسمالية العالمية في قلبها الأميركي، وما خلّفه النظام الليبرالي من اختلال كبير في العدالة، حيث استفادت بضع عائلات منه، وتضرر مئات الملايين، كقدر حتمي نظراً لاستيلاء الشركات الخاصة على مقدرات الدول، والحلول محلها، تاركة الجمهور يعاني من الخلل في ظل غياب دولة الرعاية.
في ظل هذا التناقض، وتفاعلاته البديهية من الداخل، تطل "طوفان الأقصى"، وصولاً إلى حملة المجازر الكبيرة التي لا يتحملها عقل في غزة، وانعكاس هذه المجازر على الرأي العام العالمي، والنهضة الشعبية في مختلف الدول الغربية، الأوروبية والأميركية، الرافضة للممارسات الصهيونية، ما كشف زيف الادعاءات التي حمت قيام الحالة الصهيونية في فلسطين، مثل معاداة السامية، و "هولوكوست"، وسواها من شعارات زائفة وُضِعت خصيصاً لنجاح قيام "الدولة" العبرية في فلسطين.
وبين صعود دول كبرى كالصين، وروسيا، وتحالف "البريكس"، وتفاعلات النظام الليبرالي، وتآكله الداخلي، تحلّ قضية غزة لتتحول إلى حالة عالمية لم يعد الغرب قادراً على تحمّلها، وفي وعيه أنه هو سبب هذه الحالة التي تسببت بهذه المجازر، وبهذا المنحى، يمكن وصف الموقف الغربي على المستوى الشعبي بعملية غسل ضمير، وتطهّر مما ارتكبت يداه في مأساة فلسطين.
وفي سياق التحركات العالمية، وغالبها أوروبي-أميركي، طُرِحت إشكاليات لم يعد الإعلام الغربي قادراً على طمس حقيقتها، وبدأت تروج مقولات كانت تشكل نوعاً من التحريم (Taboo) في مرحلة من مراحل الصراع، منها على سبيل المثال: لماذا ندفع ضرائبنا لكي تحولها الإدارة الأميركية إلى "إسرائيل"، وذلك يعني أن أموالنا هي التي تقف وراء المجازر الصهيوينة في غزة؟ ومعاداة السامية لا تعني معاداة الصهيونية، إشارة إلى وضوح دور القوى الخفية العالمية الأساسي إن في تطورات الولايات المتحدة الأميركية، أم على مستوى عالمي.
صَدَع ظهر للمرة الأولى في التاريخ الحديث، نجم عن تفاعلات الأزمة الرأسمالية الداخلية، من جهة، وصعود قوى كبيرة عالمية من جهة ثانية، فتأتي مجازر غزة كالصاعق الذي فجّر قنبلة الاحتقان العالمي.
فمنذ صعود الرأسمالية الهائل نحو العولمة المتصهينة في شكلها الليبرالي، برز الصدع لأول مرة، في الحديقة الليبرالية الخلفية- أوروبا، ومجتمعاتها، أساساً، وفي المجتمع الأميركي الذي بدأت تظهر فيه فضائح التفاوت بين واقع الجمهور الاجتماعي المزري، والنهب لصالح فئة قليلة من العائلات والقوى الخفية التي بدأ تداولها على مستويات عامة تحت عنوان "الدولة العميقة".
تفاعلات غزة، مع أزمات الداخل الرأسمالي، وصعود قوى عالمية تنافسها، أضعفت القبضة الصهيونية على المجتمع الأميركي. لم يعد العداء للحالة الإسرائيلية مُحرّماً في الولايات المتحدة، وسقطت مقولة معاداة السامية تحت وقع هول المجازر في غزة، وانهيار الأوضاع الإنسانية والاجتماعية للمواطن الأميركي. ظواهر انقلاب ثوري عالمي ظهرت في دول الغرب، وخصوصاً في الولايات المتحدة، ما أضعف قبضة اللوبيات الخفية، وحليفاتها من سلطات، عاثت فساداً، ولا تزال، في الغرب عامة، والولايات المتحدة الأميركية خاصة.
في ظل هذا الصدع، أمكن للجمهور النيويوركي أن يقول كلمته، مفجّراً غضبه، ونقمته على الأوليغارشية الصهيوأميركية، فتتضافر قوى الرفض، واليسار الأميركي الذي مثّله بيرني ساندرز، وقوى محلية أخرى يطمس الإعلام الأميركي المتصهين حقيقة وجودها، وانتشارها، لتنتخب ممداني، المعادي علانية لممارسات رئيس البلاد، والقوى الحاضنة له، وقوى أخرى مماثلة، الكامنة في السلطة والمجتمع الأميركي، ورغم الأموال الطائلة التي دفعت لمنع وصوله، إلّا أن حالة النضوج الأميركية الناجمة عن تفاعلات عدة: غزة، صعود قوى عالمية، وأزمات داخلية، أظهرت ممداني مُنقذاً، أقله في المدى المباشر.