العنوان: ما بعد طوفان الأقصى: معركة الوعي أخطر من المعركة العسكرية

معركة ما بعد طوفان الأقصى ليست معركة سلاح فقط بل معركة ذاكرة وهوية، تحدّد من خلالها الشعوب شكل المستقبل الذي تريد أن تعيشه: مستقبل الكرامة والسيادة، أم مستقبل الخضوع والنسيان.

  •  معركة الوعي أخطر من المعركة العسكرية (أرشيف).
    معركة الوعي أخطر من المعركة العسكرية (أرشيف).

حين يهدأ صوت الرصاص وتبرد الجبهات، لا يعني ذلك أنّ الحرب انتهت فعلاً، فهنالك معركة أخرى تبدأ – معركة الوعي والذاكرة- وهي الأخطر والأطول.

في محطات مفصلية مثل طوفان الأقصى وما تبعها من حرب الإبادة الواسعة على غزة، لا تظلّ المواجهة محصورة في الميدان العسكري أو التكتيكي، بل تتجاوز ذلك إلى ساحة الوعي الشعبي والإعلامي، وإلى عمق الاحتضان الجماهيري للفكرة والمشروع المقاوم. تتناول هذه السطور خطرين جوهريين: أولهما احتمال تصدّع الحاضنة الإعلامية والاجتماعية تحت وطأة الحرب النفسية والتضليل، وثانيهما أهمية مواصلة الجهد التعبوي والتوعوي لبناء جبهة جماهيرية واسعة ومتجذّرة لا تمحى بتوقيع اتفاق ولا تضعفها تقلّبات السياسة.

إنّ معركة ما بعد طوفان الأقصى ليست معركة سلاح فقط بل معركة ذاكرة وهوية، تحدّد من خلالها الشعوب شكل المستقبل الذي تريد أن تعيشه: مستقبل الكرامة والسيادة، أم مستقبل الخضوع والنسيان.

ما بعد المعركة: قراءة في الدلالات والأبعاد الشاملة

حين تسكت المدافع أو تُعلَّق المواجهات العسكرية، تبدأ مرحلة لا تقلّ أهمية عن القتال ذاته: قراءة ما بعد المعركة. فالتقارير التي ترصد الخسائر والمكاسب التكتيكية ليست مجرّد أرقام، بل مفاتيح لفهم منظومة التخطيط والقيادة والتنفيذ بكلّ ما فيها من ثغرات ومواطن قوة.

إلّا أنّ خصوصية معركة طوفان الأقصى وحرب الإبادة التي شنّها المحتل الصهيوني على قطاع غزة، تجعل هذه القراءة أكثر تعقيداً وشمولاً؛ إذ تتحوّل من تقييم عسكري صرف إلى محاسبة متعدّدة المستويات سياسية وأخلاقية وتعبوية.

في هذا الإطار، لا يقتصر التحليل على سؤال "من انتصر ميدانياً؟"، بل يمتدّ إلى أسباب القرار بالمعركة، وآليات إعدادها، وتوقيت اندلاعها، لأنّ الإجابات عن هذه الأسئلة تتجاوز حدود القيادة الميدانية لتطال الرأي العامّ المحلي والإقليمي والدولي، وتعيد رسم خرائط الموقف الشعبي تجاه أطراف الصراع ومشروعهم السياسي والعسكري.

سرّية القرار وخيارات القيادة: حقائق أم أسرار؟

جزء من طبيعة الحركات المسلّحة يعتمد على سرّية التخطيط لحماية المبادرة والقيادات. لكنّ السرّ الذي يذهب مع الشهداء القادة يخلق فراغاً في الرواية الرسمية يمكن أن يملأه خصومٌ أو مطبّلونَ أو أصواتٌ مشبوهة.

إذا بقيت أسباب بدء المعركة وقراراتها الاستراتيجية غامضة للجماهير، هنا يصبح المجال مفتوحاً للشائعات وتفسير الأحداث بطرق تهزّ الثقة بين الحلفاء. لذلك، رغم حاجة السرّية التشغيلية، هناك ضرورة ملحّة لخطاب تواصل ذكي يشرح الحدّ الأدنى من الأسباب والنتائج للحاضنة، من دون المساس بأمن العمليات.

اتفاقيات وقف النار والتسويات: لماذا تثير خلافات داخل جبهة الحلفاء؟

قبول ورقة وقف الحرب أو التنازل عن بعض المطالب مقابل تهدئة مؤقتة غالباً ما يُفسَّر لدى بعض الشرائح كتراجع أو خيانة. هذا التفسير يزداد شراسة عندما تُطرح الاتفاقية بوساطة طرف دولي مثير للجدل أو باسم شخصية سياسية تحمل تاريخاً معيّناً، وفي حالتنا هنا نتحدّث عن الطرف الأميركي ممثّلاً بالرئيس ترامب وما يملكه من تاريخ بالتلوّن والانحياز لجانب المحتل.

الانتقاد مشروع، لكنّ التحوّل إلى تشويه النوايا وتوزيع تهم الخيانة الجاهزة والمغلّفة بكلام وطني من دون فهم تفاصيل التعديلات والمقايضات يثير شرخاً بداخل البيئة الحاضنة.

هنا دور القيادة يأتي عن طريق شرح مآلات التفاوض وما تمّ كسبه وما فُقِدَ، وإبقاء قنوات الحوار مفتوحة مع الحلفاء على مختلف المستويات الرسمية كانت أم الشعبية، فمن الضروري أن يكون الخطاب واضحاً وشفّافاً ويحمل في طيّاته وعياً عميقاً لدقّة مرحلة ما بعد المعركة.

خطر الأصوات الإعلامية المشبوهة وحروب الذباب الإلكتروني

في زمن وسائل التواصل، حيث يمكن لِمِئات الحسابات أن تُحدث بلبلة خلال دقائق، يتصاعد الخطر عندما تكون بعض هذه الحسابات مدفوعة أو وهمية أو تابعة لأجهزة معادية. الاتهامات السريعة بلا دليل والتحريض على تشويه صورة قيادة خاضت معركة دفع البعض فيها أغلى ما يملك تُضعِف الحاضنة وتفقد القضية أوراق تضامن كسبتها بشقّ الأنفس. لذا يجب تبنّي آليات رقابية واعية، تقوم على التدريب الإعلامي للناشطين، وإنشاء قوائم مرجعية للتحقّق قبل إعادة النشر، وتشجيع الخطاب المدعوم بالأدلة بدل التصفيق العاطفي للانقسام.

لماذا لا يعني انتهاء القتال نهاية الجهد التعبوي؟

الانتصار أو التهدئة المؤقتة في الميدان لا تُترجم تلقائياً إلى مكسب دائم إذا ما تخلّينا عن حرب السردية وتعبئة الرأي العامّ. معركة الوعي أطول وأشدّ تأثيراً، لأنّ مواقع العالم المتضامنة التي انحازت خلال المواجهة تحتاج إلى متابعة وتغذية مستمرة. التضامن الشعبي والرسمي الذي بني خلال التصعيد يجب أن يُحوّل إلى بنية دائمة، عن طريق حملات معلوماتية منظّمة، وشبكات تواصل مع منظّمات المجتمع المدني، وموادّ توعية تستند إلى الحقائق الموثّقة عن العدوان وآثاره.

البناء الاستراتيجي للجبهة الجماهيرية: من مناصرة وقتيّة إلى نواة صلبة دائمة

لا نريد أن نعود في كلّ معركة إلى نقطة الصفر. يجب أن تُبنى الجبهة بذهنية مختلفة، تحوّل التراكم النضالي إلى مؤسسات دعم ذاتية، من خلال ربط تجارب الشعوب المتأثّرة بالعدوان (غزة، لبنان، العراق، اليمن، إيران) في شبكات تضامن متبادلة، وتعزيز دور المثقّفين والناشطين في إنتاج سرد موحّد وموضوعي. هذه الجبهة لا تقوم على خطاب عقائدي فقط، بل على مصالح مشتركة وقيم إنسانية تضغط على السياسات الرسمية الدولية لصالح تحقيق تحوّل عملي في ميزان القوة السياسي والدبلوماسي.

الاستمرار بالوعي والمساءلة المسؤولة

انقسام الحاضنة قد يكون أخطر من خسارة ساحة قتال مؤقتة، لأنه ينهش من الداخل ويُضعف مقدرة الانتقال من لحظة تضامن إلى مشروع استراتيجي طويل النفس.

المطلوب هو تواصل مسؤول من القيادات مع جماهيرها، وتصدٍ واعٍ للأصوات المشبوهة، واستثمار كلّ نصر ميداني أو تضامن شعبي لبناء مؤسسات دعم دائمة. الحرب مع الكيان استمرت عقوداً، وأيّ لحظة هدوء يجب أن تستخدم كفرصة لصياغة رواية متينة ومجتمع مناصر لا يُعاد اختباره في كلّ مرة.

كفاحنا لا يحتاج إلى فرز للولاءات بالتهويل، بل إلى عمل تعبويّ موحّد وذكيّ يحافظ على المكاسب ويُنمِّيها نحو مشروع أكثر قوة وصلابة يكون مستعدّاً دائماً لبذل كلّ ما هو ممكن في أيّ مواجهة مقبلة قد تنشب بأيّ ساحة من ساحات الصراع، وهذا هو لبّ مفهوم وحدة الساحات التي سعى كثيراً المحتل لتدميره على مرّ السنوات.