وجدها المفكر العربي الكبیر عبد الإله بلقزیز

ما هدف الترهيب الفكري الذي تقوم به رسمياً الولايات المتحدة والــدوائــر الصھــیونــیة لــكلّ مــن تــسوّل لــه نــفسه الــبحث فــي الــتراث الفلســطیني أو الــقضیة الفلسـطینیة؟

  • عبد الإله بلقزیز والحديث عن فلسطين (أرشيف).
    عبد الإله بلقزیز والحديث عن فلسطين (أرشيف).

لطالما سألني كثیرون وتساءل آخرون لماذا كلّ ھذا الحقد على فلسطین والشعب الفلسطیني، ولماذا كلّ ھذا البطش والقتل والدمار بشعب كلّ ما یبتغیه ھو أن یبقى على أرضه وأرض آبائه وأجداده.

وقد زاد على ھذه الأسئلة في عامي 2025-2023 سؤال آخر لم نجد إجابة عنه وھو كیف یصمت العالم برمّته عن إبادة متعمّدة بحقّ آلاف الأطفال في فلسطین وعشرات الآلاف من النساء وكلّ المشافي والبنى التحتیة ومصادر العیش بذریعة أصبحت واھیة وواضحة أنھا مجرّد شمّاعة لحرب إبادة مخطّط لها ومقصودة ضدّ شعب كامل.

ولكنّ أداء الإبادة والإجرام اشتدّ في العامین الماضیین متلازماً تماماً مع إبادة بدأت منذ سبعین عاماً بدعم غربي غیر محدود وصمت دولي غیر معھود. 

وقد وضع الدكتور بلقزیز في كلمته أمام معرض الكتاب المنعقد بالرباط خلال الفترة الممتدة من 17-27 نيسان/أبریل وبالتحدید في مداخلة بندوة حول "الإبداع الفلسطیني في مواجھة سیاسات المحو" النقاط على الحروف لعدد من المسائل الشائكة التي تعترض أبناء ھذا الجیل، سيما في تفسیر ما تشھده فلسطين من جرائم إبادة غیر مسبوقة. 

- النقطة الأولى ھي أنّ عروبة فلسطین ھي الأساس الصلب لوجودها مشدّداً على أنّ فلسطین ھي "الردّ القوي على المشروع الصھیوني" وھذا یعني أنّ ھذا الاستھداف الشرس لفلسطین ھو استھداف للعروبة الحقّة سواء أأدرك بعض العرب ذلك أم لم یدركوه. 

- النقطة الثانیة التي أضافھا بلقزیز ھي: "إذا كانت السیاسات العربیة قد خانت عروبة فلسطین فإنّ الثقافة العربیة لا تزال متمسّكة بعروبة فلسطین لذلك فلسطین حاضرة في الإنتاج الثقافي العربي بجمیع مكوّناته".

ولذلك توجّه العدو إلى السیاسات العربیة الرسمیة محاولاً تغییر المناھج الدراسیة واجتثاث ما یعبّر عن الحق الفلسطیني في عدد من الدول العربية كما استھدف الشخصیات الثقافیة المقاومة في محاولة لإخماد شمعة فلسطین في الثقافة العربیة على مستوى الوطن العربي.

- وفي النقطة الثالثة یلامس الأستاذ عبد الإله أھمّ سؤال تواجھه النخب والأكثر تعقيداً، المفكّرة الیوم عربیة وغربیة. فقد قال إنه كان یمیّز بین الغرب السیاسي الذي یرتكب الجرائم والغرب الثقافي "الذي یمثّل "فلسفة الأنوار الإنسانیة العقلانیة والدیمقراطیة والحریة" مؤكداً وجود "طلاق حقيقي" بين النخب السیاسیة والثقافیة وبین ھذا الجیل الصاعد.

وھنا بالذات یكمن الصراع الیوم في الغرب فالنخب السیاسیة التي تقودھا سیاسة ترامب تعمل على إلغاء أيّ أثر لإرث دیمقراطي أو عقلاني حرّ في الثقافة الغربیة وتتبّع سیاسة تجفیف الموارد وترھیب أيّ جامعة أو مركز أبحاث أو باحث یمكن أن یطمح إلى ملامسة حقیقة ما یجري على الأرض في أبحاثه بحیث إنّ الجامعات الأميركية ومراكز الأبحاث تعیش أزمة ترھیب حقیقیة بحیث یعمل الباحثون الیوم على تغییر مواضیع بحث قضوا عقوداً في البحث والتبحّر بها كي يحافظوا على وظیفتھم ولقمة عیشھم.

أما الطلاب الذین انتفضوا أو الذین كتبوا ضدّ اختصاصاتھم في الدراسات الثقافیة فیتمّ ترحیلھم أو حتى سجنھم بحیث لا یجرؤ الیوم طالب في الجامعات الأميركیة على أن یتناول أيّ موضوع یخصّ فلسطین بالبحث إلا إذا كان التركیز على "جریمة 7 أكتوبر" التي قام بھا الفلسطینیون بزعمھم. 

وهذا يعني أنّ أحداً لن یجرؤ على تألیف قطعة موسیقیة أو كتابة مسرحیة أو نشر موضوع أو مقال أو كتاب یروي به الجرائم الإسرائیلیة بحقّ الشعب الفلسطیني أو حتى یسجّل ما قد یكون بحوزته من تراث فلسطیني في التاریخ أو المأكل أو الملبس لأنّ ھذا سیعرّضه لكارثة في حیاته الشخصیة أو العائلیة.

وأنا أقرأ عن كلّ ما یجري في الجامعات ومراكز الأبحاث الأميركیة من اعتقالات لباحثین مختصین حصلوا على منح من الجامعة لإجراء ھذه الأبحاث قبل سنتین، أتساءل ما ھو سرّ ھذه الحملة المعادیة وحملات التفتیش ضدّ كلّ من تسوّل له نفسه بذكر كلمة حتى عن عروبة فلسطین أو ثقافة فلسطین أو مستوى التعلیم بین الفلسطینیین.

وفي مراجعة لتاریخ شعوب أخرى تذكّرت أنّ إبادة الأميركيين الأصلیین كانت إبادة ساحقة لھم جسدیاً وتاريخياً وثقافياً ولغوياً.

أتذكّر لدى زیارتي عائلة من أحفاد الأبوریجینز، السكان الأصلیین لأسترالیا، في سیدني، كم أعجبت بعلاقتھم مع الطبیعة والمخلوقات والشمس والقمر والفنون وبامتلاكھم لروح إنسانیة صافیة تتغذّى بالمحبة والتأمّل والعلاقات الجمیلة مع الآخرین من دون أيّ شراھة للمال أو المادة، وشعرت حینھا كم خسرت الإنسانیة من خلال إعدام المستوطنین الغربیین لحضارة إنسانیة كاملة وعریقة لم یسمحوا لنا أن نعرف عنها شيئاً. كما ما نعرفه عن الھنود الحمر ھو ما أنتجته أفلام ھولیود عنھم أي ما سجّله قاتلوھم عنھم. 

والسؤال المقلق جداً اليوم هو ما هدف الترهيب الفكري الذي تقوم به رسمياً الولايات المتحدة والدوائر الصھیونیة لكلّ من تسوّل له نفسه البحث في التراث الفلسطیني أو القضیة الفلسطینیة أو المجازر المرتكبة بحقّھم أو حتى تراثھم وتاریخھم؟ الھدف ھو لیس القضاء على الشعب الفلسطیني فقط وإنما القضاء على وجوده في الفضاءات الثقافیة العربیة والإقلیمیة والدولیة.

وھم یعدّون العدّة لإنتاج أفلام عن 7 أكتوبر بانسلاخ كامل عن تاریخ القضیة والاحتلال والاستیطان والمجازر والتھجیر وتدمیر المنازل ومصادرة الأراضي ومصادرة حقّ شعب كامل في العیش على أرضه؟

سياسة كمّ أفواه الباحثین والمفكّرین والطلاب الغربیین ما ھي إلا مقدّمة لتمھید الطریق أمام كتابة تاریخ مزوّر عن فلسطین وأھل فلسطین ودفن تاریخھم الحقیقي معھم في غزة والضفة الغربیة؟ وھل إلى إیقاف ذلك من سبیل؟