جغرافية فلسطين في مهب الريح

الجغرافيا هي المحور الرئيسي في الصراع العربي الفلسطيني والإسرائيلي، و"إسرائيل" ومنذ نشأتها عام 1948 وحتى اليوم وهي تبذل قصارى جهدها لتغيير الجغرافيا الفلسطينية.

  • الجغرافيا هي المحور الرئيسي في الصراع العربي الفلسطيني والإسرائيلي (أرشيف).
    الجغرافيا هي المحور الرئيسي في الصراع العربي الفلسطيني والإسرائيلي (أرشيف).

منذ سبعينيات القرن الماضي أدرك الجغرافيون الفلسطينيون السياسات الصهيونية الممنهجة تجاه الجغرافيا الفلسطينية وما تنفّذه سلطات الاحتلال الاسرائيلي منذ عام 1967 من إجراءات وممارسات وعمليات استيلاء وتفريغ وتشييد مستعمرات صهيونية على الأراضي الفلسطينية ومصادرة الموارد الطبيعية كافة وإطلاق تسميات عبرية على المواقع الجغرافية الفلسطينية؛ لخلق رواية صهيونية جديدة، بهدف طمس ومحو الرواية الفلسطينية الأصيلة، بل وخلق واقع جغرافي جديد ليس له صلة بالجغرافيا الفلسطينية.

إنّ هذا الإدراك المبكر لهذه السياسات الصهيونية الممنهجة دفع الجغرافيين الفلسطينيين الى تأسيس أقسام الجغرافيا في الجامعات الفلسطينية، حيث بادر الدكتور كمال عبد الفتاح بتأسيس أوّل دائرة لتدريس الجغرافيا في جامعة بيرزيت، ومن ثم بدأت الجامعات الفلسطينية الأخرى بالضفة العربية وقطاع غزة تحذو خطوات جامعة بيرزيت بإنشاء أقسام للجغرافيا والتي أخذت تستقطب أعداداً كبيرة من الطلبة الفلسطينيين، وقد قامت هذه الدوائر والأقسام بتخريج أفواج عديدة من الجغرافيين الفلسطينيين بعضهم أخذ فرصته للعمل في المؤسسات الفلسطينية، والبعض الآخر حصل على عقود عمل في بعض الدول العربية، إلّا أنه في العقدين الأخيرين ومنذ حرب الخليج أخذت فرص العمل بالتراجع في الدول العربية، وفي الوقت نفسه أصبح هناك إشباع كبير في سوق العمل وتحديداً في المؤسسات التعليمية في الضفة الغربية وقطاع غزة. الأمر الذي حدا بعدد كبير من الخريجين للانخراط في سوق العمل الإسرائيلي سواء في الورش أو أعمال البناء.

انعكس هذا التراجع في سوق العمل على ضعف إقبال الطلبة على أقسام ودوائر الجغرافيا في الجامعات الفلسطينية، حتى أنه في بعض الجامعات الفلسطينية باتت أعداد المدرّسين في أقسام الجغرافيا تفوق أعداد الطلبة. وهذا التراجع في أعداد الدارسين للعلوم الجغرافية يعني التراجع أيضاً في أعداد الدارسين لمساق جغرافية فلسطين الذي أصلاً لم يدرّس في الجامعات الفلسطينية كمادة إجبارية وإنما كمتطلّب اختياري غير موحّد منهجاً وموضوعاً.

وهذا بالتالي ينعكس على ضعف الرواية الفلسطينية ويجعلها مشوّهة أمام الرواية التي يصنعها الاحتلال وجغرافيّوه الإسرائيليون يومياً والذين أسهموا بشكل كبير في تحديد مسار جدار الفصل العنصري وعيّنوا مواقع المستعمرات اليهودية وأطلقوا الأسماء الجغرافية عليها في الضفة الغربية، وهم أنفسهم الذين قسّموا الضفة الغربية في اتفاقيات أوسلو الى مناطق A , B, C، وهم أنفسهم أيضاً - وفي غفلة عن المفاوض الفلسطيني - قد رسموا حدود المنطقة C والتي تشكّل ثلثي أراضي الضفة الغربية بحيث أنها تشتمل على أقلّ عدد من السكان لا يتجاوز 14% من الفلسطينيين بل وراعت في تحديدها للمنطقة C، أنها تضمّ جميع مصادر المياه الجوفية والأحواض المائية الثلاثة في الضفة الغربية، وكذلك فإنّ الجغرافيين الإسرائيليين قد رسموا حدود مناطق اصطياد مياه الأمطار من على قمم الجبال في الضفة الغربية من شمالها إلى جنوبها. ولا ننسى أنّ لجنة الأسماء الجغرافية الإسرائيليّة التي تطلق الأسماء العبرية على المستعمرات والوديان والجبال والأحواض قد تشكّلت منذ بداية تأسيسها مع مطلع القرن الماضي وقبل قيام "دولة" الكيان من الجغرافيّين الإسرائيليّين. 

يعلم القاصي والداني أنّ الجغرافيا هي المحور الرئيسي في الصراع العربي الفلسطيني والإسرائيلي، وأنّ "إسرائيل" ومنذ نشأتها عام 1948 وحتى اليوم وهي تبذل قصارى جهدها لتغيير الجغرافيا الفلسطينية من أجل تهويدها سواء من خلال القوانين العسكرية العنصرية أو من خلال فرض سياسة الأمر الواقع بالمصادرة للموارد الطبيعية وبناء المستعمرات وتجفيف البحيرات كالحولة والبحر الميت، أو من خلال عمليات الطمس والإمحاء الممنهجة والتأصيل لمن ليس له أصل في المكان المتمثّلة بالتسميات الجغرافية العبرية بدل العربية الكنعانية على الشوارع والمستعمرات اليهودية والأودية والأحواض والينابيع والتلال والجبال.

ركّزت الحركة الصهيونية وقبل قيام "دولة إسرائيل" بعقود طويلة، وبشكل هادف ومخطّط له وممنهج ومقصود على العناصر الرئيسية التي تضمن نجاح مشروعها الاستعماري في فلسطين، وهذه العناصر هي الهوية والأرض والمياه والسكان. وبداية استهلّت عملياتها الاستيطانية الاستعمارية بإنشاء المستعمرات الزراعية إبان الحكم العثماني على فلسطين، وكانت الحركة الصهيونية ترمي من وراء ذلك إلى ربط المهاجر اليهودي بالأرض وتحويله من خياط في لوبلين في بولندا إلى فلاح يزرع الأرض في فلسطين، وكان بن غوريون مؤسس الكيان الصهيوني وفي أكثر من مناسبة يُذَكِّرُ أنّ فلّاحي روما هم الذين هزموا هنيبعل. الاستيلاء على الأرض - عنصر القوة الأساس – استدعى السيطرة وتغيير الهوية.  

منذ عشرينيات القرن الماضي وقبل قيام الكيان الصهيوني وتزامناً مع التسهيلات التي قدّمتها بريطانيا للحركة الصهيونية في السيطرة على الأرض أنشأت الحركة الصهيونية لجنةً للأسماء الجغرافية اتبعت مفتاح تسمية استعمارياً بامتياز لا يدانيه إلّا ما يمكن وصفه بمتلازمة كولومبس، فقد كان مخيال التسمية لدى كولومبوس مكوّناً من ثلاثة مجالات: المجال الإلهي الذي يصف من خلاله الاستعمار بالقداسة؛ المجال الطبيعي الوسيط الذي يبعث على البهجة المستعارة بامتلاك الفضاء المستباح؛ والمجال البشري الذي يؤمِّن الثروة ويحرسها لمواصلة الغزو. وكان كولومبوس يعلم أنّ المشهد الجديد عليه أسماؤه القديمة التي لا ترضيه، فكانت سان سلفادور تسمّى عند الهنود جواناهاني، وكان يدرك أيضاً أنّ إطلاق التسمية الجديدة يعني استحداث صكّ ملكية للإمبراطورية الغازية.

ومن هنا كان الهدف الاستراتيجي للحركة الصهيونية تهديم مقوّمات المشهد الفلسطيني والعربي الإسلامي بكلّ مضامينه التاريخية والحضارية والتراثية والدينية، واستبداله بمشهد صهيوني كامل، مغلّف بنصوص توراتية ومقولات سياسية مزيّفة، ينتهي إلى استكمال اختلاق رواية وهوية وحضارة صهيونية مزيّفة، على أنقاض هوية الشعب الفلسطيني وحضارته، أي التشويه المتعمّد من قبل المحتلين لمضامين التسميات الجغرافية والامحاء المتعمّد والمستمر في التهويد والتحريف والتزوبر. 

أقرّ مجلس الوزراء الفلسطيني في جلسته يوم الاثنين 13-9-2021 وتحمل رقم 124 تدريس مساقي قضايا فلسطينية والثقافة الفلسطينية كمساقين إجباريين لجميع طلبة الجامعات الفلسطينية رداً على محاولات الاحتلال الإسرائيلي طمس حقوق الشعب الفلسطيني وتدمير الكثير من المعالم الفلسطينية. والآن وبعد مرور أربع سنوات تمّ تنفيذ هذا القرار؟

إنّ تدريس مساق جغرافية فلسطين كمساق إجباري في الجامعات الفلسطينية هو الردّ الطبيعي لتهميش وإلغاء المكان الفلسطيني ممثّلاً بجغرافيته، خاصةً أنّ الجرعة المعرفيّة لطلبة الجامعات الفلسطينية عن جغرافية فلسطين والقضية الفلسطينية لا ترقى للحدّ المطلوب. 

ولهذا ومن أجل تسليح الطالب الفلسطيني بالمعرفة المطلوبة عن وطنه بحيث يكون جاهزاً للدفاع عنها في المناحي كافة لا بدّ من:

1- تشكيل لجنة علمية من جمعية الجغرافيين الفلسطينيين التي تضمّ كلّ الجغرافيين في الجامعات الفلسطينية على وضع مادة علمية في جغرافية فلسطين موحّدة منهجاً وموضوعاً لتدرّس كمادة إجبارية في كلّ الجامعات الفلسطينية وللتخصصات كافة.

2- النهوض بكليات الآداب في الجامعات الفلسطينية والتي تعاني من الترهّل ومن ضعف إقبال الطلبة عليها في السنوات الأخيرة في التخصصات كافة ومنحها دوراً خدماتياً إلى جانب دورها الأكاديمي، بحيث تقدّم خدماتها الأكاديمية إلى الكلّيات كافة في تدريس المتطلّبات الثقافية الإجبارية للطلبة. 

3- التركيز على أخلاقيات العمل الأكاديمي من خلال ورش عمل تتناول الموضوع من جوانبه كافة لضمان جودة التعليم.