التاريخ كسلاح دعائي: من "11 سبتمبر" الأميركي إلى "7 أكتوبر" الإسرائيلي
من "11 سبتمبر" الأميركي إلى "7 أكتوبر" الإسرائيلي، يتبيّن أنّ التاريخ لم يعد مجرد علامةٍ زمنيةٍ على حدثٍ صادمٍ، بل أداة دعائية فاعلة تُستثمر لإعادة تشكيل الوعي الجماعي.
-
من حدثٍ صادم إلى إطارٍ ناظم للسياسة (أرشيف).
في عالم الصراعات المعاصرة، لم تعد المعارك تُخاض بالأسلحة التقليدية وحدها، بل باتت الكلمة والصورة والرمز جزءاً لا يتجزأ من ميدان الحرب. فمنذ الحربين العالميتين، أدركت الدول أهمية الدعاية (Propaganda) في صياغة وعي الجماهير وتوجيه الرأي العام.
استُخدمت الملصقات، والسينما، والأغاني، وغيرها كرسائل سياسية لتعبئة الشعوب وحشد الدعم الجماهيري لتحقيق أهداف عسكرية وسياسية محددة. لاحقاً، تطور هذا المفهوم إلى ما يُعرف بـ الحرب النفسية (Psychological Warfare)، التي لا تستهدف جسد الخصم فحسب، بل وعيه ومخيلته ومشاعره.
في هذا السياق، تصبح الذاكرة الجماعية نفسها ساحة حرب، إذ تعمل الأنظمة على صناعة سردياتٍ متماسكة، تَزرع في عقول شعوبها صورًا محددة للعدو، للتهديد، وللحاجة المستمرة إلى الدفاع. ومن أبرز أدوات هذه السرديات التواريخ المفصلية التي تتحول، بفعل التكرار والرمزية، إلى شيفراتٍ سياسيةٍ تختزل رواياتٍ كاملةً في مجرد عبارة زمنية قصيرة.
ففي الولايات المتحدة، بعد هجمات عام 2001، رُفعت عبارة "11 سبتمبر" إلى مستوى الأسطورة السياسية المؤسِّسة لمرحلة "الحرب على الإرهاب"، وأي محاولة للتشكيك أو النقاش كانت تُقابل بجدار نفسيٍّ مبنيٍّ على استحضار صور ذلك اليوم.
واليوم تعيد "إسرائيل" إنتاج الأسلوب نفسه مع "7 أكتوبر". فبعد ما يقارب سنتين، تحوّل التاريخ في الخطاب الإسرائيلي إلى رمز وجودي يُستحضر على مدار الساعة وفي مختلف المجالات ليشرعن حرب إبادةٍ مستمرة على غزة، تماماً كما شرعنت واشنطن حروبها البعيدة باسم "9/11"
الذاكرة الجمعية والسياسة الذاكرية
يُعتبر عالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبواكس Maurice Halbwachs من أبرز المنظّرين لمفهوم الذاكرة الجمعية (Collective Memory)، إذ رأى أن الذاكرة ليست مجرد خزان فردي للتجارب الماضية، بل هي بناءٌ اجتماعيٌ جماعي يتم تشكيله وصياغته عبر المؤسسات الرسمية والإعلام والطقوس العامة. هذه الذاكرة ليست محايدة، بل يتم هندستها لتخدم أهدافاً سياسيةً محددة.
لاحقاً، طوّر الباحث الأميركي جيفري أوليك Jeffrey Olick مفهومًا أكثر دقة تحت عنوان السياسة الذاكرية (Politics of Memory)، أي الكيفية التي يتم فيها استثمار الماضي وتوظيفه كأداةٍ لصياغة سياسات الحاضر. أما المؤرخ الفرنسي بيار نورا Pierre Nora، فقد قدّم مصطلحاً محورياً هو أماكن الذاكرة (Lieux de Mémoire)، مشيرًا إلى أن بعض الأحداث أو التواريخ أو حتى المواقع تتحوّل إلى رموزٍ مكثّفة تُستدعى مراراً لإعادة إنتاج الهوية الوطنية أو سردية الدولة.
"11 سبتمبر": تأسيس أميركي لشرعية الحرب على الإرهاب
أظهرت هجمات نيويورك وواشنطن عام 2001 كيف يمكن لحدثٍ واحد أن يُعيد رسم خريطة السياسة الدولية. فبعد انهيار برجي مركز التجارة العالمي، لم تكن الولايات المتحدة بحاجة إلى سردٍ مطوّلٍ لتبرير غزوها لأفغانستان ثم العراق. يكفي أن يُذكر "9/11" حتى تُستحضر في الذاكرة الجمعية الأميركية صور الدخان والنار والدمار، لتُفعَّل بشكلٍ فوريٍّ عاطفة الخوف من "العدو الخارجي".
هذا التوظيف لم يكن عفوياً، بل جرت تغذيته بشكلٍ منظّمٍ عبر الإعلام والخطاب السياسي والثقافة الشعبية. فالرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش George W. Bush استحضر عبارة "9/11" في كل خطاب تقريباً، وجعل منها نقطة الانطلاق لسياساتٍ أمنيةٍ وعسكريةٍ كبرى، من "قانون باتريوت" الذي أعاد تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع داخل الولايات المتحدة، إلى استراتيجية "الحرب على الإرهاب" التي شرعنت التدخل العسكري في الشرق الأوسط.
دراسات عديدة في مجال علم النفس السياسي والاجتماعي أوضحت أن تكرار عبارة "11 سبتمبر" في الخطاب السياسي الأميركي حوّلها إلى ما يُسمى مرجعية تأسيسيّة (Foundational Reference)، أي نقطة ثابتة يُعاد استدعاؤها لتأطير أي نقاش سياسي وأي قرار استراتيجي.
"7 أكتوبر": النسخة الإسرائيلية من استثمار الذاكرة
بعد عملية المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، تبنّت "إسرائيل" الاستراتيجية نفسها. فالتاريخ لم يعد مجرد يومٍ صادمٍ في الذاكرة الإسرائيلية، بل جرى تحويله بسرعةٍ إلى رمزٍ تأسيسيٍّ جديدٍ للهوية الوطنية، تماماً كما استُغلّ "11 سبتمبر" في الولايات المتحدة.
الإعلام الإسرائيلي كرّس سردية تقوم على إعادة تذكير الجمهور يومياً بما جرى في ذلك اليوم، والمناسبات والتصريحات الرسمية تحوّلت إلى طقوسٍ تذكاريةٍ تُعيد إنتاج "7 أكتوبر" كحدثٍ لا ينفصل عن الحاضر. والنتيجة أنّ أي نقاش حول جرائم الحرب في غزة أو أيّ انتقاد للحصار وللسياسات الإسرائيلية يواجه مباشرةً بجدار: "ذاك اليوم".
في هذا الإطار، أشار تقريرٌ صادرٌ عن مركز ويلسون Wilson Center الأميركي إلى أن "7 أكتوبر" أصبح المرجع الأساسي لبناء روايتين متوازيتين: الأولى إسرائيلية تصوّر الحرب كفعل دفاعٍ وجوديٍّ لا بديل عنه، والثانية فلسطينية ترى أن إسرائيل استثمرت هذا اليوم لتبرير حرب إبادة ضد شعب أعزل.
التاريخ كسلاحٍ دعائيٍّ ونفسيٍّ
في العلوم السياسية يُطلق على هذه الممارسة مصطلح التأطير العاطفي Emotional Framing، أي استدعاء حدثٍ مأساويٍّ لإعادة تنشيط مشاعر الخوف والعداء، وتحويلها إلى طاقةٍ سياسيةٍ تُشرعن العنف، أيّ أنّها عملية "برمجة جماعية" للذاكرة، تجعل من ترداد التواريخ تكتيكاً ضمن استراتيجية ترسيخ شرعية الحرب، وتمنع أيّ تفكير نقدي خارج الإطار المرسوم.
وقد أظهرت دراسة صادرة عن Peace Research Institute Frankfurt (PRIF) بعنوان Memory Before Violence أن بناء الذاكرة الجمعية لا يأتي بعد العنف فحسب، بل يسبقه أحياناً، بحيث يُستخدم لتجهيز البيئة النفسية والسياسية التي تجعل الحرب أكثر قبولاً في وعي الناس.
من حدثٍ صادم إلى إطارٍ ناظم للسياسة
من "11 سبتمبر" الأميركي إلى "7 أكتوبر" الإسرائيلي، يتبيّن أنّ التاريخ لم يعد مجرد علامةٍ زمنيةٍ على حدثٍ صادمٍ، بل أداة دعائية فاعلة تُستثمر لإعادة تشكيل الوعي الجماعي وشرعنة خيارات سياسية وعسكرية بعيدة المدى. فالذاكرة الجمعية، حين تُدار وتُؤطَّر عبر الإعلام والمؤسسات الرسمية، تتحوّل إلى ميدان معركة موازٍ للقتال العسكري، حيث تُصاغ الهوية ويُبنى الإجماع وتُحجب إمكانيات النقاش النقدي. وبهذا المعنى، يصبح التاريخ نفسه أداةً، لا يقتصرُ أثرها على سرد الماضي، بل يمتد ليحدد حدود الممكن في الحاضر، ويفرض إيقاع الحروب المقبلة.