"لعنة القذافي" تزج بساركوزي خلف القضبان!

محاكمة ساركوزي تبعث على طرح تساؤلات تتجاوز شخصه أو جريمته: لماذا يُحاسَب رئيس غربي على الوصول إلى السلطة بمال عربي، بينما يظل من نهبوا المال العامّ في الدول العربية أحراراً وفي مواقع القرار أحياناً؟

  • القضاء الفرنسي انتصر للعدالة رغم الضغوط (أرشيف).
    القضاء الفرنسي انتصر للعدالة رغم الضغوط (أرشيف).

لا تحتاج إلى أن تكون ضليعاً في قراءة لغة الجسد لتقف على معاني الخيبة والمرارة والأسف التي ألمّت بالرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، في لحظات مثوله لقضاء عقوبة بالسجن لمدة خمس سنوات بسجن "لاسانتيه" في باريس، بتهمه التآمر لجمع أموال من ليبيا لتمويل حملته الانتخابية.

ساركوزي الذي ترّأس فرنسا في ولايتين متتاليتين في 2007 و2012 بات أوّل رئيس أسبق يسجن منذ الحرب العالمية الثانية، بعد سجن المارشال فيليب بيتان لتعاونه مع النازية.

القضاء الفرنسي انتصر للعدالة رغم الضغوط 

إلى أكثر من ثمانية عشر عاماً تعود أطوار القضية، حين استقبل ساركوزي القذافي بـ"خيمة ملكية" في قلب باريس،  كان الاستقبال حينها رمزاً لتقارب سياسي وصفقات اقتصادية ضخمة، لكن خلف الأضواء، كما كشفت تحقيقات القضاء الفرنسي لاحقاً، كانت هناك صفقة فساد كبرى، تمثّلت في تمويل ليبي سري لحملة ساركوزي الانتخابية، بلغت نحو 50 مليون يورو، وهو ما يتجاوز الحدّ القانوني المسموح به بأضعاف.

بعد أكثر من عقد من التحقيقات التي شملت آلاف الوثائق وشهادات من شخصيات ليبية وفرنسية، تأخذ العدالة مجراها ليحاكم ساركوزي بتهم من العيار الثقيل: التمويل غير المشروع، وتبييض أموال، والتآمر الجنائي.

متابعة إعلامية كبيرة من الإعلام الأجنبي والفرنسي لحدث قضائي وسياسي كبير، تخطّت رسائله أبعاد الحدود الفرنسية، فالقضية التي تعرف في الإعلام الفرنسي بـ"لعنة القذافي "، التي لاحقت ساركوزي بعد موته، عرفت أشواطاً عديدة وقبعت في أروقة المحاكم نحو اثني عشر عاماً، تعرّض فيها القضاء الفرنسي إلى عدة ضغوط، ومحاولات تأثير من أطراف سياسية داخلية أو خارجية أو حتى إعلامية، غير أنه انتصر في لحظة النطق بالحكم إلى العدالة ليجسّد استقلاية القضاء، واحترام مبدأ الفصل بين السلطات، وليبعث بشكل غير مباشر برسائل إحراج لعدة أنظمة عربية وأفريقية وحتى غربية، تطبّع مع الفساد، وتسهم في إخفاء الملفات والحقائق.

دول تمارس العدالة كشعار للاستعراض، فيما تبقى ملفات الفساد في طي الكتمان، ويتمتّع الفاعلون فيها بالحرية وأحياناً بالحصانة.

محاكمة ساركوزي تبعث على طرح تساؤلات تتجاوز شخصه أو جريمته: لماذا يُحاسَب رئيس غربي على الوصول إلى السلطة بمال عربي، بينما يظلّ من نهبوا المال العامّ في الدول العربية أو الأفريقية أحراراً وفي مواقع القرار أحياناً.

في عالمنا العربي ..الفساد المحصّن وأمل المحاسبة المؤجّل 

محاكمة ساركوزي لن تقضي على الفساد في فرنسا كلياً، ولن تكون نموذجاً للتعميم في بقية دول العالم غير أنها تقدّم ولو جزءاً يسيراً من الأدلة والقرائن  على اختلاف الساحات التي يعمل فيها القضاءـ، وما يمكن أن يقدّمه من أداء، بين قضاء مستقل، يعمل في إطار من الفصل بين السلطة واحترام القانون والمؤسسات، وبين قضاء تابع، خاضع، يأتمر بأوامر الحكّام ويحمي مصالحهم.

في زنزانة صغيرة سيقضي الرئيس الفرنسي الذي أدرك السبعين من عمره، خمس سنوات من الانتظار على أمل أن ينعم بالحرية من جديد، فيما تبقى الحقيقة مغيّبة في العديد من الدول العربية والأفريقية حيث العدالة عرجاء، رغم آلاف التجاوزات والجرائم المرتكبة في حقّ الشعوب من نهب للمال العامّ، وفساد ورشوة وتهريب للثروات إلى الخارج،  إلى الجرائم السياسية من قتل وتعذيب وتغييب في السجون، في انتظار محاسبة مؤجّلة.