السيد حسن نصر الله: من القائد الحاضر إلى الرمز المعصوم
لا يغيب السيد حسن نصر الله بخروجه من المشهد؛ بل يستقرّ بوصفه «بنيةً رمزيةً» تنظّم الوجدان، وتزوّده بمعايير الحكم على الأحداث واتجاه السير.
-
كيف تُصنع القيادة في الوجدان؟
لا تُختزل القيادة في دهاء سياسي أو تفوّق عسكري. في علم النفس الاجتماعي، القيادة فعلٌ تواصلي طويل النفَس، تتكوّن فيه صورة القائد من تفاعلٍ دائم بين شخصه وجمهوره، حتى يغدو مرآةً لهوية جماعته وتجسيدًا لآمالها. على هذا الأساس، يمكن قراءة تجربة السيد حسن نصر الله: نموذجٌ قيادي تشكّل في وجدان أنصاره بوصفه صوتًا للكرامة والحماية والمعنى، ثم ترسّخ بعد استشهاده كـ«رمز معصوم ومنزّه» يقيم في الذاكرة الجماعية أكثر مما أقام جسدًا في الواقع.
ما بعد لوبون: العاطفة بوصفها جسرًا إلى وعيٍ عابرٍ للأجيال
قدّم غوستاف لوبون قبل أكثر من قرن إطارًا يشرح انجذاب الجماهير إلى القائد الكاريزمي، وكيف تتوحّد الحشود تحت تأثير خطابٍ رمزيٍّ قادرٍ على تحريك الانفعال الجمعي. هذه العدسة تُفيد في فهم لحظة التماهي الوجداني التي أحدثها نصر الله حول «المقاومة»؛ لكن تجربته تضيف طبقةً لم يُفصّلها لوبون: تحويل العاطفة إلى إدراكٍ مستدام. فخطاب نصر الله لم يكن شحنةً انفعاليةً طارئة، بل مدخلًا لتشييد مفاهيم إدراكية تتحوّل مع الوقت إلى «منهج حياة»: رفضٌ مبدئيٌّ للظلم، واعتبارُ المقاومة خيارًا أخلاقيًّا وثقافيًّا، لا ردَّ فعل ظرفياً. بهذا المعنى، استُخدمت قوة التعبئة العاطفية لزرع قناعاتٍ قابلةٍ للتوريث، تصوغ الذاكرة الجمعية وتدير بوصلتها عبر الأجيال.
ويبلغ هذا البناء ذروته عند الاستشهاد؛ إذ ينتقل القائد من حدود الإنسان الناقص إلى ساحة الرمز «المنزَّه والمعصوم» في المخيلة العامة. هنا يتضخّم الأثر: تغيب تفاصيل البشر وما يلازمها من هوامش الخطأ، وتبقى «الصورة المكتملة» التي تتغذّى من سردية التضحية والمعنى. يصبح الرمز حضورًا موجِّهًا يتجاوز وجوبَ الظهور وخطابَ اللحظة، إلى صوتٍ داخليٍّ يسكن الهوية الجمعية ويملي عليها يقينها في لحظات الالتباس. لذلك، يبدو تأثير الرمز – بعد الغياب الجسدي – أقوى وأبعد مدىً من تأثير القائد الحي المعرّض بطبيعته للنقد والاهتزازات اليومية.
هرم الحاجات: من الأمان إلى تحقيق الذات عبر مشروعٍ جماعي
يُعيننا هرم أبراهام ماسلو على تفكيك جاذبية هذا النموذج القيادي. في قاعدته، تَظهر «حاجة الأمان»: وعدُ الحماية من تهديدٍ خارجيٍّ ملموس. لقد احتضن نصر الله قلق جماعته وقدّم ذاته درعًا نفسيًا واجتماعيًا؛ يكفي ظهوره في أوقات الشدة حتى تهدأ موجات الخوف ويُستعاد الإحساس بالسيطرة. يلي ذلك «الانتماء»: الانتقال من ذواتٍ متفرقة إلى كيانٍ جمعيٍّ اسمه «المقاومة»، بفضاءاته الرمزية وطقوسه وذاكرته ومفرداته، بما يجعل الفرد «يجد مكانه» داخل قصة أكبر منه.
عند هذه العتبة، ترتفع الحاجة إلى «التقدير»: الاعتراف بالمجهود والتضحية. في هذا المستوى، رسّخ نصر الله قيمة «الإنسان العادي» بوصفه حاملًا لكرامةٍ عامة؛ رفع شأن المقاتل والوالدة والطفل والشهيد، فاستعاد الأفراد إحساسهم بأنهم مرئيون ومُثمَّنون.
وفي قمة الهرم، يأتي «تحقيق الذات»: أن يحسّ المرء بأن حياته تسير وفق معنى أسمى. هنا، تُترجم القيادة إلى مشروعٍ جامعٍ يمنح الفرد فرصةً لبلوغ ذاته لا عبر طموحٍ فرديٍّ ماديٍّ ضيق، بل عبر الاشتراك في غايةٍ أخلاقيةٍ وروحيةٍ وتاريخية: تحرير الأرض، نصرة المظلوم، وكتابة سطرٍ شخصيٍّ في قصةٍ عامة. هكذا تتحوّل إشباعات الهرم من مادياتٍ آنية إلى رموزٍ ودلالاتٍ هوويةٍ تُشبِع «احتياجات المعنى»، فتتجاوز القيادة إدارةَ اليومي إلى صناعة إطارٍ يُنظم الحياة النفسية للجماعة.
الذات والآخر داخل الجماعة: مرآةٌ متبادلةٌ تُنتج التكامل
في المدرسة التفاعلية لعلم النفس الاجتماعي، الذاتُ لا تُفهم بلا آخرين؛ نحن نرى أنفسنا في عيون من حولنا، ونحمل داخلنا «الآخر العام» بوصفه معاييرَ وتوقعاتٍ نُحاورها. تنطبق هذه الرؤية على علاقة نصر الله بجماعته: لقد تكلّم بلسانهم وعاش إيقاعهم، فتماهت «الأنا» و «النحن» في علاقةٍ دائريةٍ منتِجة. لم يكن القائد سلطةً مفصولةً عن القاعدة، بل وسيطًا ينسّق بين حاجات الفرد ومتطلبات الجماعة؛ كلٌّ يكمل الآخر. ومن خلال هذا التكامل، انحسر التوتر التقليدي بين الفرد والجماعة لمصلحة إحساسٍ أعمق بالذات: «أنا لأننا نحن».
بعد الاستشهاد، تتوسّع هذه الدائرة: تتسرّب صورة القائد إلى الداخل فتغدو جزءًا من «ذاتٍ جمعية» تشترك فيها الوجوه كلها. حينها، لا يعود القائد «تمثيلًا» للجماعة فحسب، بل «نموذجًا» تتطلّع إليه وتسعى لمحاكاته في السلوك والمعنى. وتزداد مصفوفة التكامل تماسكًا كلما اشتد ضغط «الآخر الخارجي»؛ إذ يعيد الصراع ترتيب الداخل على قاعدة الوظيفة المشتركة: لا صمود بلا تماسك، ولا تماسك بلا روايةٍ موحِّدةٍ يتقاسمها الجميع.
خاتمة: الرمز الذي ينظّم الذاكرة
تجمع هذه المقاربة بين ثلاث عدساتٍ لتضيء ظاهرة واحدة: مع لوبون نفهم لحظة الانصهار الوجداني حول القائد، ومع الإضافة التي تمتد من التجربة نفسها نرى كيف تُستثمر العاطفة في بناء وعيٍ طويل الأمد يتحوّل إلى «منهج مقاوم». ومع ماسلو نفكّك طبقات الجاذبية التي تجعل القيادة إطارًا لإشباع احتياجات الأمن والانتماء والكرامة والمعنى. ومع نظرية الذات والآخر ندرك كيف يُصنع التكامل الداخلي: القائد مرآة الجماعة، والجماعة مرآته؛ ثم، بعد الاستشهاد، يصبح «الآخر الأثيري» الذي يقيم فينا ويهندس ذاكرتنا.
على هذا النحو، لا يغيب السيد حسن نصر الله بخروجه من المشهد؛ بل يستقرّ بوصفه «بنيةً رمزيةً» تنظّم الوجدان، وتزوّده بمعايير الحكم على الأحداث واتجاه السير.
إنّها قيادةٌ تتجاوز الظرف إلى الذاكرة، وتتخطّى الشخص إلى الفكرة: قيادةٌ صنعت جمهورًا لا يكتفي بمشاعر الحشد، بل يحمل وعيًا قابلاً للتجدد، ويقيس نفسه على مِسطرة قيمٍ واضحةٍ ومعلنة—رفض الظلم، وصون الكرامة، واستدامة المقاومة. لذلك، يبدو حضور الرمز، في الثقافة والضمير العام، أقوى من حضور القائد الحي: لأنه لم يعد شخصًا يمكن أن يخطئ أو يصيب، بل معيارًا تُقاس به الأشياء، وسرديةً كبرى تمنح الناس القدرة على تمييز الطريق كلما اختلط الغبار.