روسيا ضد العالم الأحادي: وثيقة الصمود في معركة كسر الإملاءات الغربية

من المنظور الروسي، كانت العملية العسكرية الخاصة ضرورة دفاعية فرضها توسع "الناتو"، وإعادة توجيه لأهداف أوكرانيا في خدمة المصالح الغربية.

  • روسيا.. صراع الإرادة والوجود (أرشيف).
    روسيا.. صراع الإرادة والوجود (أرشيف).

صراع الإرادة والوجود: لا يمكن اختزال العملية العسكرية الخاصة الروسية في أوكرانيا في شباط/فبراير 2022 في مجرد عمل عسكري إقليمي. بالنسبة إلى روسيا، كانت هذه الخطوة بمنزلة نقطة اللاعودة في صراع وجودي ضد مخطط غربي طويل الأمد يهدف إلى إضعافها وتقسيم نفوذها، والاحتفاظ بـالنظام العالمي أحادي القطب الذي تشكل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

المرحلة الأولى: التراكم التاريخي وشرارة الانفجار (1991 – 2022)

ترى القيادة الروسية أن جذور الصراع تمتد إلى الوعود التي لم تلتزم بها القوى الغربية بعد عام 1991، وتجاهلها المستمر لـمخاوف الأمن القومي الروسي.

1. تجاهل الوعود والتوسع الممنهج لـ"الناتو"

من وجهة النظر الروسية، كان هناك تفاهم ضمني على أن لا يتوسع حلف "الناتو" شرقاً بعد تفكك حلف وارسو. لكن التسلسل التالي للتوسعات (1999، 2004، 2009) وصولاً إلى جمهوريات البلطيق (التي تطل على حدود روسيا مباشرة) كان بمنزلة خيانة وتحدٍ متعمد.

لحظة ميونيخ 2007: كان خطاب الرئيس فلاديمير بوتين في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007، أول تحذير علني صريح للعالم من خطورة هذا التوسع على الاستقرار الدولي. قال بوتين حينها: "أصبح الناتو أداة للهيمنة الأميركية... إنه يدفع حدودنا إلى الأمام، وهذه عملية خطيرة للغاية".

قمة بوخارست 2008: كان القرار الصادر عن قمة "الناتو" في بوخارست عام 2008، الذي نص على أن "أوكرانيا وجورجيا ستصبحان عضوين في الناتو"، بمنزلة خط أحمر وجودي تم تجاوزه فعلياً في نظر موسكو.

2. "انقلاب" الميدان وتأجيج الصراع الداخلي (2014)

تصور روسيا أحداث 2014 في كييف على أنها تدخل غربي صريح في الشؤون الداخلية لأوكرانيا، استُغل لتركيب نظام موالٍ للغرب ومعادٍ لروسيا.

حماية القرم والدونباس: كان ضم شبه جزيرة القرم بعد استفتاء عام 2014، بالنسبة إلى روسيا، خطوة ضرورية لحماية قاعدتها البحرية في سيفاستوبول ومنع وقوع القرم الاستراتيجي في قبضة "الناتو". وفي الشرق، أدى إعلان دونيتسك ولوغانسك استقلالهما ونشوب حرب أهلية لمدة ثماني سنوات إلى قناعة روسية بوجوب التدخل لحماية السكان الناطقين بالروسية.

فشل اتفاقيات مينسك: طوال الفترة 2014-2022، أكدت روسيا أنها ملتزمة باتفاقيات مينسك (التي وقعت عليها أوكرانيا أيضاً)، لكنها اتهمت كييف، بتحريض غربي، بـرفض تنفيذ الشق السياسي الذي يمنح الحكم الذاتي لدونباس، ما أدى إلى استمرار القصف والضحايا المدنيين.

3. إعلان العملية الخاصة: "نزع السلاح واجتثاث النازية"

في 24 شباط/فبراير 2022، وقبل دقائق من بدء العملية العسكرية الخاصة، خاطب بوتين الروس والعالم، مقدماً حججه النهائية:

التصريح الرنان الأول: "لقد تم إرسال كل الإشارات التحذيرية، والمطالب، لكن الجميع تجاهلونا... لم يتركوا لنا أي خيار آخر لحماية روسيا وشعبنا".

التهديدات الوجودية: أكد بوتين أن أوكرانيا كانت تتحوّل إلى "منصة عسكرية معادية"، قادرة على استضافة صواريخ "الناتو" التي يمكن أن تضرب موسكو في دقائق معدودة، معتبراً هذا وضعاً "غير مقبول إطلاقاً".

المرحلة الثانية: الحرب الاقتصادية الشاملة واستراتيجية الصمود الروسية

اعتقد الغرب أن العقوبات الاقتصادية التي فُرضت بضراوة غير مسبوقة ستؤدي إلى انهيار الاقتصاد الروسي في غضون أسابيع. لكن التخطيط المسبق الروسي والتحوّل الاستراتيجي أفرغ هذه العقوبات من مضمونها.

1. تفاصيل الحصار الاقتصادي وأهدافه المعلنة

كانت أهم أدوات الحصار الغربي تهدف إلى فصل روسيا عن النظام المالي العالمي وعزلها تكنولوجياً:

القطع عن SWIFT: استهدف النظام المصرفي لروسيا.

تجميد الاحتياطيات: تجميد نحو 300 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي، في خطوة غير مسبوقة شككت في أمان استخدام الدولار واليورو عالمياً.

حظر التكنولوجيا: قطع توريد الرقائق الإلكترونية والتقنيات العالية الحيوية لقطاعي الدفاع والصناعة.

هذا الحصار كان مدعوماً بتصريحات قوية: صرح وزير المالية الفرنسي، برونو لومير، قائلاً: "سوف نشن حرباً اقتصادية ومالية شاملة على روسيا. سوف نتسبب في انهيار الاقتصاد الروسي".

2. تدابير روسيا المضادة والتحوّل الجيواقتصادي

قامت موسكو بخطوات جريئة لمواجهة "الحرب الاقتصادية":

رد الطاقة والدفع بالروبل: كان القرار الروسي بطلب الدفع بالروبل مقابل الغاز الطبيعي للدول "غير الصديقة" بمنزلة رد مباشر، أدى إلى دعم عملتها الوطنية بشكل سريع، ما فاجأ المحللين الغربيين.

البنية التحتية البديلة: توسيع استخدام نظام روسيا للمراسلة المالية (SPFS) كبديل محلي لـSWIFT، وزيادة الاعتماد على البطاقات المصرفية الصينية (UnionPay).

التحالفات الجديدة (البريكس+): تسريع العمل على إنشاء بنك احتياطي مشترك ضمن تجمع البريكس (BRICS)، والتحول إلى استخدام العملات الوطنية (الروبل واليوان والروبية) في التجارة الثنائية مع الصين والهند وإيران. هذه التحركات ساهمت في ارتفاع قيمة التداول باليوان إلى مستويات غير مسبوقة في الأسواق الروسية.

3. الآثار المدمرة للعقوبات على الجنوب العالمي

من المنظور الروسي، كان التأثير الأكبر للعقوبات هو خلق أزمات في دول الجنوب العالمي، حيث أدت القيود على صادرات الأسمدة الروسية والنفط إلى تفاقم أزمة الغذاء والطاقة العالمية.

لبنان وسوريا ومصر: اعتمدت هذه الدول تاريخياً بشكل كبير على القمح الروسي والأوكراني. تسببت الاضطرابات في ارتفاع أسعار الخبز والمحروقات، وزيادة التضخم العام، ما زاد الضغط على الحكومات والشعوب التي تعاني أصلاً من ضائقة اقتصادية كبيرة.

أفريقيا: العديد من الدول الأفريقية واجهت خطر المجاعة، ما دفع القادة الأفارقة إلى انتقاد العقوبات الغربية بشكل مباشر لعرقلتها وصول الأسمدة الروسية الحيوية للزراعة.

4. حقيقة صفقة الحبوب

كانت مبادرة البحر الأسود للحبوب (يوليو 2022) محاولة لتخفيف أزمة الغذاء، لكن روسيا انسحبت منها لاحقاً بشكل متكرر، مؤكدة أن:

الشق الروسي من الاتفاق، المتعلق بتصدير الأسمدة والحبوب الروسية من دون عقبات، لم يُنفّذ.

الجزء الأكبر من الحبوب الأوكرانية، خلافاً للأهداف المعلنة، لم يذهب إلى الدول الأفريقية الأكثر فقراً، بل إلى دول الاتحاد الأوروبي.

المرحلة الثالثة: الدعم اللامحدود لكييف وحرب التشويه الإعلامي

تُصوّر روسيا الدعم الغربي لكييف بأنه هجوم مباشر على السيادة الروسية، وأن المليارات التي صُرفت هي تكلفة "حرب الوكالة" التي يشنها "الناتو".

1. الإحصائيات الدقيقة للدعم على حساب الشعب الروسي

تُظهر الأرقام، المأخوذة من تقارير حكومية غربية وتقديرات اقتصادية، حجم هذا الدعم الهائل على حساب دماء الشعب الأوكراني والموارد الروسية:

إجمالي الدعم المتعهد به (حتى منتصف 2024): تشير تقديرات معهد كيل للاقتصاد العالمي (Kiel Institute) إلى أن إجمالي المساعدات المعلنة (عسكرية، مالية، إنسانية) لأوكرانيا تجاوز 400 مليار دولار أميركي (وإن كان المبلغ المسلم فعلاً أقل قليلاً).

الولايات المتحدة: تتصدر القائمة بأكثر من 110 مليارات دولار (تشمل مساعدات عسكرية ومالية).

الاتحاد الأوروبي: تجاوز إجمالي التزام الاتحاد ودوله الأعضاء 150 مليار يورو (معظمه مساعدات مالية طويلة الأجل ودعم عسكري من الدول الأعضاء).

بالنسبة إلى موسكو، هذا الإنفاق الهائل لا يستهدف مساعدة أوكرانيا بل هو استثمار في إطالة أمد الصراع لإضعاف روسيا، كما أكد الرئيس الأميركي السابق جو بايدن عندما قال إن الهدف هو "فرض تكاليف كبيرة وطويلة الأجل على روسيا".

2. آلة الدعاية الإعلامية المدفوعة لتشويه صورة روسيا

تؤمن موسكو بوجود حملة إعلامية منظمة وموجهة لتجريد الروس من إنسانيتهم، وهو ما تصفه بـ**"رهاب روسيا" (Russophobia)**.

التعتيم والحجب: تمثل حجب منصات إعلامية روسية مثل "RT" و "سبوتنيك" في الفضاء الأوروبي، دليلاً على أن الغرب لا يريد أن يسمع الجمهور الرواية الروسية.

التشوية الشخصي: تركيز وسائل الإعلام الغربية على تصوير بوتين والقيادة الروسية كـ**"طاغية"** و**"مجرم حرب"**، بينما يتم تمجيد زيلينسكي.

الأدلة (من المنظور الروسي): روسيا تشير إلى وجود شبكات نفوذ ودعاية غربية ضخمة (مثل مجموعات التفكير والمنظمات غير الحكومية) التي تحصل على تمويل حكومي أميركي وأوروبي، وتعمل حصرياً على صياغة الروايات التي تخدم هدف إضعاف روسيا. كما أن توحد النبرة والمصطلحات في مئات المؤسسات الإعلامية الغربية الكبرى يعدّ دليلاً على "تحشيد مركزي" لآلة الدعاية.

المرحلة الرابعة: ثبات روسيا وتأكيد الانتصار في عالم متعدد الأقطاب (2022 – الآن)

على الرغم من كل التحديات، أثبتت روسيا ثباتها وصمودها، مكرسة نفسها كقوة لا يمكن هزيمتها عسكرياً أو اقتصادياً، وهو ما يمثل نجاحاً في هدفها الأكبر: إنهاء الهيمنة الغربية على النظام العالمي.

1. الصعيد العسكري: إنجاز الأهداف وتثبيت السيطرة

الضم الدائم: كان إعلان ضم مقاطعات دونيتسك، لوغانسك، خيرسون، وزاباروجيا في أيلول/ سبتمبر 2022 بعد الاستفتاءات، بمنزلة خطوة استراتيجية لا رجعة فيها، تؤكد أن موسكو لن تنسحب من هذه المناطق، بغض النظر عن الضغوط الدولية.

الصمود الدفاعي: فشل الهجوم المضاد الأوكراني الكبير، المدعوم بمليارات الدولارات من الأسلحة الغربية المتقدمة، في تحقيق اختراق استراتيجي، ما أكد تفوّق القدرات الدفاعية الروسية واستراتيجيتها القائمة على الاستنزاف.

2. الصعيد الاقتصادي: النمو في ظل العقوبات

لم ينهر الاقتصاد الروسي. على العكس، أظهر مرونة فائقة:

تعزيز الإنتاج المحلي: أجبرت العقوبات الصناعة الروسية على الاعتماد على الذات وتنمية البدائل المحلية (استيراد موازٍ)، ما أدى إلى نمو في بعض القطاعات الصناعية المرتبطة بالدفاع والبنية التحتية.

استقرار العملة والمالية: تمكن البنك المركزي الروسي من السيطرة على التضخم والحفاظ على قيمة الروبل، بينما واجهت أوروبا نفسها أزمات طاقة وتضخم غير مسبوقة بسبب تبعيتها للسياسات الأميركية.

3. الصعيد السياسي والإنساني: وحدة الروس

تصريحات القوة: يكرر بوتين رسالته إلى الداخل والخارج بأن "روسيا لا يمكن احتواؤها أو هزيمتها"، وأن الصراع هو "معركة مصيرية من أجل حقنا في الوجود".

الانتصار الجيوسياسي: ترى موسكو أن الانتصار الحقيقي يكمن في فشل الغرب في عزلها عن بقية العالم. دول آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية (الجنوب العالمي) رفضت الانضمام إلى العقوبات الغربية، ما أدى إلى تفكك الجبهة الغربية الأحادية وظهور نظام عالمي جديد أكثر توازناً، تحت قيادة محوريّة روسية-صينية.

من المنظور الروسي، كانت العملية العسكرية الخاصة ضرورة دفاعية فرضها توسع "الناتو"، وإعادة توجيه لأهداف أوكرانيا في خدمة المصالح الغربية. في مواجهة حصار اقتصادي غير مسبوق وحرب إعلامية ضخمة، أظهرت روسيا ثباتاً مدعوماً بتخطيط استراتيجي وتحالفات عالمية جديدة. إن استمرار الصراع، رغم كل الضغوط، يرسخ قناعة روسيا بأنها في طريقها لتحقيق "انتصار" لا يعني بالضرورة احتلالاً كاملاً، بل تأكيداً لسيادتها وقدرتها على رسم ملامح نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، يضع حداً للهيمنة التي دامت ثلاثة عقود.

لعل أفضل ما يعبّر عن ثقة روسيا الأزلية بكيانها ووحدتها وصمودها، هو ما قاله الفيلسوف والمفكر الروسي الشهير إيفان إيليين (Ivan Ilyin)، الذي يُعد إحدى الشخصيات الفكرية التي يقتبس منها الرئيس بوتين في خطاباته عن القومية والوطنية الروسية:

"روسيا هي الكيان الذي لا يمكن قطعه إلى أجزاء صغيرة، ولا يمكن أن يُنسى أو يُدمّر. هي كيان واحد يمتد عبر التاريخ، ولا يمكن لأي قوة خارجية أن تكسر روحه الروحية."

بصفتي كاتبة صحافية أود أن أقول لروسيا، قيادةً وشعباً، من قلب الأمة العربية، التي ترفض الهيمنة الأحادية وتؤمن بتعددية الأقطاب:

إن صمودكم في وجه الإملاءات الاقتصادية والسياسية يمثل نقطة تحول تاريخية، ليس لروسيا وحدها، بل لكل دولة تسعى للحفاظ على سيادتها واستقلال قرارها. إننا في العالم العربي نرى في ثباتكم تأكيداً أن عصر القطب الواحد قد ولى، وأن بناء نظام عالمي أكثر عدالة وتوازناً هو مصير لا مفر منه. من دمشق وبيروت والقاهرة وبغداد، نرسل لكم رسالة دعمٍ وتقديرٍ على شجاعتكم في الدفاع عن حقكم في الوجود، ونثمن مواقفكم الداعمة للقضايا العادلة لشعوبنا.

لتظل روسيا رمزاً للكرامة الوطنية، وليُكلل صمودها بانتصار حاسم. ندعو لها بالقوة الدائمة لتشعل شعلة التحرر، وتضمن مستقبلاً مشرقاً يرتكز على الاحترام المتبادل والسيادة الحقة بعيداً عن أي نير خارجي.