سيكولوجيا الإجرام في الحروب: غزة نموذجاً لقتلٍ منزوع الإنسانية

ما يجري في غزّة وغيرها ليس مذبحة لأجساد فحسب، بل مجزرة ضدّ الوعي الإنساني، وضدّ القيم التي تفصل بين الإنسان والوحش.

  • أخطر ما يواجهنا اليوم ليس فقط مَن يرتكب الإجرام، بل أيضًا من يصمت عنه (أرشيف).
    أخطر ما يواجهنا اليوم ليس فقط مَن يرتكب الإجرام، بل أيضًا من يصمت عنه (أرشيف).

لطالما كانت الحروب ساحةً تُختبر فيها حدود الأخلاق، لكنّها أيضًا، في كثير من الأحيان، ساحة يتمّ فيها دفن تلك الأخلاق. فمنذ منتصف القرن العشرين، ومع إقرار اتفاقيّات جنيف وبروتوكولاتها، حاول العالم رسم حدود لما يمكن وما لا يمكن فعله حتى في أوقات النزاع المسلّح، واضعًا بذلك قوانين تحفظ للمدنيّين والأسرى حقوقهم وتحظر الإبادة الجماعيّة والتجويع والاستهداف العشوائي.

وقائع الحروب الحديثة، خصوصًا في قطاع غزّة وسوريا، تكشف بجلاء أنّ هناك منظومات عنف تتجاوز حدود الانتهاك إلى تبنّي الإجرام كعقيدة وإحلال القتل كفعل مقدّس منزوع من كل وازعٍ إنساني أو أخلاقي.

أولًا: نزع الصفة الإنسانيّة عن العدو – المدخل النفسي للقتل دون تأنيب

تؤكّد نظريّات التحليل النفسي، وخصوصًا عند سيغموند فرويد وإيريك فروم وألبرت بندورا، أنّ نزع الصفة الإنسانيّة عن الآخر (dehumanization) هو الآليّة النفسيّة الأولى التي تسمح للفرد بارتكاب العنف المفرط دون الشعور بالذنب؛ فحين تُجرّد الضحية من صفاتها البشريّة، يصبح القتل مشابهًا لتحطيم آلة أو سحق حشرة.

في قطاع غزّة، مارس الجيش الإسرائيلي هذا النزع المنهجي منذ قيام الكيان عام 1948، لكنّه بلغ ذروته بعد 7 أكتوبر 2023. لم تكن التصريحات التي وصفت سكّان القطاع بـ"الحيوانات البشريّة" مجرّد انفعالات فرديّة، بل كانت تعبيرًا صريحًا عن سياسة ممنهجة تقوم على شيطنة الفلسطيني، وخصوصاً الطفل، بوصفه مشروعَ إرهابيٍ في طور التكوّن. كما ورد في تصريحات عدّة لوزير الأمن السابق يوآف غالنت ورئيس الحكومة نتنياهو وقادة وإعلاميّين وجنرالات تبنّى الكثر منهم مقولة: "محمد الصغير سيصبح محمد الحمساوي الكبير"، وكأنّ مجرّد وجود الطفل الفلسطيني هو تهديد مؤجّل يوجب التصفية الاستباقيّة.

تحت هذه العقليّة، لم يعد مقتل 100 مدني فلسطيني "ضررًا جانبيًا"، بل أصبح "ثمنًا مقبولًا" لاستهداف قائد كتيبة، بل وتُبرّر أحيانًا مجازر يُقتل فيها أكثر من 500 مدني بعبارة "استهداف قائد لواء"، ضمن منظومة تشرّع الإبادة باستخدام لوائح قتل عبر الذكاء الاصطناعي وسرديّات دينيّة توراتية تحلّل "دم الأغيار".

ثانيًا: سيكولوجيا الجندي القاتل.. التقديس والخلاص من الذنب

المقابلات الميدانيّة مع الجنود الإسرائيليّين تكشف الكثير: "نحن نقوم بعمل مقدّس"، و"نحارب حيوانات وليس بشرًا". هذه العبارات لا تأتي مصادفة، بل هي نتيجة غسيل دماغ سيكولوجي يصنع هويّة "الضحيّة المنتقمة" التي ترى في قتل الفلسطيني واجبًا دينيًا وقوميًا.

ووفقًا لنظرية بندورا في "التبرير الأخلاقي"، فإنّ الإنسان يحتاج إلى آليّات دفاعيّة تبرّر أفعاله العنيفة. وفي هذه الحالة، تصبح "الحرب ضدّ الوحوش" أو "المهمّة المقدّسة" أداة نفسيّة تسمح للجندي بأن يقتل بلا ندم، ويستمرّ في القتل دون أن يتحطّم داخليًا أو يتأثّر.

ثالثًا: سفك الدماء بوصفه طقسًا دينيًّا منحرفًا

تتجلّى سيكولوجيا الإجرام في أبشع صورها ضمن جماعات جهاديّة تكفيريّة مارست القتل والتنكيل والتفجير تحت ذرائع دينيّة مشوّهة. مثلها مثل العقليّة الصهيونيّة، تقوم تلك الجماعات على نفي إنسانيّة الآخر، بل وإنكار أحقّيّته في الحياة، ما دام "مرتدًا" أو "كافرًا" أو حتى مجرّد آخر مغاير.

كم مرّة سمعنا: "يستحقّون الموت لأنهم خنازير"، أو "اقتلوهم كي لا يقال جاعت الأسماك والحيوانات.."! هذه العبارات ليست كلمات كراهية فحسب، بل أيضاً بوّابات نفسيّة للقتل البارد والتلذّذ به، إذ يتحوّل الذبح والحرق والسحل إلى طقس "مطهّر" للنفس بحسب العقيدة المنحرفة. وهنا، تحلّ السيكوباتيّة محلّ الشفقة، ويصبح الحقد العقائدي محرّكًا لآلة القتل.

رابعًا: آثار هذا الإجرام من الفرد إلى الجماعة

سيكولوجيا القتل الجماعي تخلّف آثارًا كارثيّة، لا على الضحايا فحسب، بل على المجتمع بكامله أيضاً. حين يُبنى الوعي الجمعي على تبرير القتل، يتفشّى في الوعي مفهوم "العدوّ الأبدي" و"الدم المشروع". يصبح الأطفال أهدافًا، وتتحوّل المشاهد اليوميّة للقتل إلى روتين، وتفقد المجتمعات بوصلتها الأخلاقيّة بالكامل، إذ يغيب التعاطف ويحلّ محله الانتشاء بالقوّة، وتختفي مشاعر الحزن على من يختلف معنا دينًا أو قومًا أو فكرًا.

خاتمة: دعوة للفهم والرفض

إنّ أخطر ما يواجهنا اليوم ليس فقط مَن يرتكب الإجرام، بل أيضًا من يصمت عنه أو يبرّره بذرائع الانتماء أو العقيدة أو الخصومة. حين يصبح القتل مقبولًا لأن "الضحية من غير دين أو مذهب"، أو لأنّ "الفلسطيني بنفسه إرهابي"، أو لأنهم، فإنّنا نكون قد دخلنا نفقًا مظلمًا من الانحدار الأخلاقي الذي لا عودة منه.

ما يجري في غزّة وغيرها ليس مذبحة لأجساد فحسب، بل مجزرة ضدّ الوعي الإنساني، وضدّ القيم التي تفصل بين الإنسان والوحش. ومن هنا، لا بدّ لكلّ إنسان، أيًا كان موقفه أو دينه أو خلفيّته، أن يرفض هذا الانحدار، لا حبًّا بالضحيّة وحدها، بل حفاظًا على ما تبقّى من إنسانيّتنا. فحين تُقتل الرحمة في القلوب، يصبح القتل في الشوارع مجرد تفصيل، وهي رسالة لكلّ من يبرّر أو يسكت أو يحوّل العداوة إلى رخصة للذبح.