عن قوة إيران
ستستفيد إيران من كل أدوات القوة سواء الناعمة أو الصلبة، لكي تُفشل أهداف رُعاة "الحضارة الغربية" المتوحشة، والتي تستخدم "إسرائيل" كأداة استعمارية لإخضاع الشعوب.
-
جانب من الدمار في "رامات غان" نتيجة الصواريخ البالستية الإيرانية (أ ف ب)
شكّل توقيت العدوان الإسرائيلي على الجمهورية الإسلامية الإيرانية ضربة أمنية قوية غير مسبوقة، طالت عدداً من القادة العسكريين والعلماء النوويين الإيرانيين، أدّت إلى استشهادهم جميعاً، وتزامن ذلك مع حملة جوية إسرائيلية ضدّ المنشآت النووية السلمية والقواعد العسكرية، ما أثّر بشكل مرحلي على منظومة القيادة والسيطرة. إلا أن هذه النشوة لم تدم إلاّ قليلاً، إذ سرعان ما بدأت القوات المسلحة الإيرانية هجوماً صاروخياً واسع النطاق ضدّ منشآت العدو العسكرية، وهو هجوم لا يزال مستمراً، حتى كتابة هذه السطور، في ضرب عمق الأراضي الفلسطينية المُحتلة بشكل يومي وبوتيرة تصاعدية.
مما لا شك فيه أن إعلان الحرب الإسرائيلية على إيران لم يكن قرارًا وليد اللحظة، بل جاء نتيجة تنسيق مسبق بين الولايات المتحدة و"إسرائيل"، وذلك في أعقاب رفض القيادة الإيرانية الانصياع للمطالب الأميركية، بالتخلي عن حقها في تخصيب اليورانيوم، وبعدما أصرّ أيضاً الإيرانيون على عدم التفاوض في أمور تمس جوهر الأمن القومي الإيراني، وخاصة برنامج الصواريخ البالستية، الذي كان وما زال، يُمثّل تحدياً أمنياً خطيراً لأطماع وأهداف كل من "إسرائيل" والولايات المتحدة في المنطقة.
علاوة على ذلك، مهدّت الوكالة الدولية للطاقة الذرية العدوان على إيران، وذلك بإعداد تقرير يتماشى مع مزاعم الولايات المتحدة "وإسرائيل" وبعض الدول الأوروبية، بأنّ إيران لم تلتزم بما اتُفق عليه. وعلى إثر ذلك، سارعت واشنطن وحكومة الكيان الصهيوني إلى تبني سردية، مفادها أنّ ايران تسعى إلى امتلاك سلاح نووي، وذلك تمهيداً لحرب إسرائيلية، لا تطال فقط المنشآت النووية بل القدرات الصاروخية وغيرها من المقدرات العسكرية، التي حمت إيران لعقود.
تكشف هذه الحرب العدوانية المكتملة الأركان ضدّ إيران عن هشاشة الأمم المتحدة وازدواجية المعايير (Double standards) التي تنتهجها إزاء تعاملها مع انتهاك حقوق الدول الأخرى، من دون الأخذ بالاعتبار، بأن إعلان الحرب على دولة ذات سيادة من شأنه أن يؤدي إلى تقويض الأمن والسلم الدوليين في العالم. فهذه المنظمة الأممية لا تملك أيّ قوة فعلية لوقف هذا العدوان، في ظلّ سيطرة الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية المؤثرة على قراراتها في مجلس الأمن.
وأمام هذا العدوان الشامل على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لم يعد يجدي سوى استعمال القوة العادلة لتكريس معادلة ردع جديدة تثني "إسرائيل" والولايات المتحدة عن تحقيق أهدافهما في الحرب. فماذا تمتلك إيران من عناصر قوة لكبح جماح العدوان الإسرائيلي-الأميركي؟
أولا: إنّ الاستنزاف بكل أبعاده هو الترياق لوقف هجمات العدو الإسرائيلي المدعوم أميركياً. وهذا يشمل الاستنزاف الاقتصادي والعسكري والبشري للكيان الصهيوني، وهنا نعني المحافظة على استمرارية إطلاق الصورايخ البالستية بمختلف صنوفها، بحيث يوضع الكيان أمام تحديات غير مسبوقة، لم يشهدها منذ نشأته عام 1948. وهذا كفيل بأن يؤثر على دوائر صُنّاع القرار في حكومة العدو لإجبارهم على التراجع، نظراً لأن الأكلاف والتداعيات أصبحت أكثر من المكاسب المتوقعة. ويُعدّ عامل الوقت أحد عناصر الضغط على الكيان وجبهته الداخلية، التي اعتادت على الاستقرار الأمني طوال العقود الماضية. وتعتبر الجبهة الداخلية الإسرائيلية اليوم خاصرة رخوة في ظل الانقسامات العمودية والأفقية داخل المجتمع الإسرائيلي، ولا سيّما بين التيار الحريدي والمجتمع العلماني.
ثانياً: إن الاستراتيجية العسكرية الإيرانية، سواء لناحية الهجوم أو الدفاع، تعطي مرونة غير عادية للقوات المسلحة الإيرانية في مواجهة العدو الإسرائيلي، وخاصة أن لديها عمقاً استراتيجياً كبيراً، إذ تبلغ مساحة إيران الإجمالية 1,648,195 كم². فيما تبلغ المساحة التي تسيطر عليها "إسرائيل" 22000 كم²، أي إنّ إيران أكبر من الكيان الصهيوني بحوالى 75 مرة من حيث المساحة. لذا، إنّ "اسرائيل" لا تتمتع بأيّ مجال جيوبولتيكي-حيوي بالمقارنة مع إيران، على الرغم من تفوقها التكنولوجي والعسكري، وخاصة في مجال الجوّ. وينبغي عدم إغفال العامل الديمغرافي الذي يمارس تأثيرًا كبيرًا في سياق الحرب، وهو عامل لا يصبّ في مصلحة "إسرائيل" بأي شكل من الأشكال.
إضافة إلى ذلك، إنّ المنشآت الاستراتيجية الإيرانية التي تُطلق منها الصواريخ البالستية الكبيرة هي محصّنة ومخفية جيداً، وهذا ما يسهم في الحفاظ على القدرات وتحريكها في الوقت المناسب لاستهداف أراضي العدو. وتتبع القوات المسلّحة الإيرانية أسلوباً هجيناً في القتال، بدلاً من النهج التقليدي، حيث تأخذ في اعتبارها نقاط القوة والضعف لدى العدو، ما يميزها عن الجيوش العربية التي خاضت مواجهات مع "إسرائيل" بأساليب تقليدية، والتي أدّت إلى نتائج كارثية على الأمن القومي العربي. كما أنّ موقع إيران الجغرافي والاستراتيجي على الخليج، يمنحها التحكم في مضيق هرمز الذي يمرّ من خلاله نحو 20% من تجارة النفط العالمية. وقد خرجت تصريحات من مسؤولين رسميين عن احتمالية إغلاقه في محاولة تحذيرية للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين الذين يدعمون الكيان الصهيوني.
ثالثاً: تعد الأيديولوجيا من عناصر القوة الأساسية، إن لم نقل القوة الأولى، التي يحملها المجتمع الإيراني بكل أطيافه، فالعقيدة في إيران هي الأساس لبناء منظومة فكرية ومجتمعية يستطيع من خلالها المجتمع أن يصمد ويبذل التضحيات الجسام من أجل الدفاع عن حقوقه أمام العدو. وقد اختُبرت إيران كثيراً في هذا المجال، بدءاً من الثورة التي أطاحت نظام الشاه الموالي للغرب، مروراً بالحرب الصدامية التي تعرّضت لها، إضافة إلى أقسى أنواع العقوبات الاقتصادية الغربية التي وصلت إلى ذروتها، ورغم ذلك لم تستسلم أو ترضخ للإملاءات الغربية.
رابعاً: إنّ قوة إيران ليست فقط في قدرتها على الحفاظ على البرنامج النووي، بل في الإنتاج المعرفي الذي من خلاله تستطيع أن تبني وتطور القدرة النووية لديها. وفي هذا المضمار، يقول رئيس وزراء حكومة العدو السابق، إيهود باراك، "إنّ الضربات التي نقوم بها لا تستطيع تأخير البرنامج النووي الإيراني إلا لأسابيع أو أشهر قليلة". ويشير باراك إلى أنه حتّى الولايات المتحدة لا يمكنها تأخيرهم أكثر من ذلك، إلاّ من خلال حروب كبرى تطيح النظام، لكن حتى هذه الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة خسرتها مثل (كوريا الشمالية، فيتنام، أفغانستان).
خامساً: إن القانون الدولي يمنح إيران الحق الكامل للدفاع عن سيادته وشعبه، وذلك بالاستناد إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة والتي تنص على: "ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء "الأمم المتحدة".
في النهاية، ستستفيد إيران من كل أدوات القوة سواء الناعمة أم الصلبة، لكي تُفشل أهداف رُعاة "الحضارة الغربية" المتوحشة، والتي تستخدم "إسرائيل" كأداة استعمارية لإخضاع الشعوب الحرّة والسيطرة على المُّقدرات. لذلك، إنّ المزاعم التي تقول إنّ ايران تسعى إلى امتلاك سلاح نووي ليست سوى ذريعة للوصول إلى هدفهم الحقيقي، وهو إسقاط النظام الذي تصدّى لجبروتهم، ودعم حركات التحرر والمُستضعفين في كل من فلسطين ولبنان واليمن والعراق.