غزة تموت جوعًا… والعالم يوقّع بالصمت

غزة اليوم تستصرخ العالم بألم لم يعد يحتمل. السكوت صار خيانة. التأخير صار جريمة. إنقاذ من تبقى لم يعد خيارًا، بل صار واجبًا أخلاقيًا.

  • عامان من الموت البطيء… والخذلان مستمر (أرشيف).
    عامان من الموت البطيء… والخذلان مستمر (أرشيف).

هناك في غزة، حيث ينتهي العالم وتبدأ الحكايات الحقيقية للألم، لا يموت أحد فجأة. الجوع، والمرض، والصمت، والموت.. يتسلّل كله ببطء، يتقاسم الأرواح في هدوء فاضح.

أطفال يجلسون صباحًا يشهقون من فرط الجوع، وفي المساء ينامون على بطون فارغة. وفي الليل، تستفيق الأمهات مذعورات، يتحسسن أنفاس الصغار، يهمسن لأنفسهن بقلق مرير:

"هل ما زالوا أحياء أم سبقهم الجوع إلى المقابر؟".

غزة، التي كانت تحلم يومًا بالسلام، لم تعد تبحث عن قرارات دولية، ولا عن بيانات متلفزة. تبحث فقط عن رغيف خبز، عن قطرة ماء، عن حبة دواء، وعن قلب ينبض بالرحمة. تبحث عما تبقّى من ضمير إنساني على هذه الأرض.

عامان من الموت البطيء… والخذلان مستمر

منذ أكتوبر 2023، حين اندلعت الحرب وتبِعها الحصار الخانق، تسارعت وتيرة موت الأطفال والنساء والشيوخ جوعًا ومرضًا. الأرواح هناك تتساقط بلا ضجيج، واحدة تلو الأخرى، تاركة خلفها قصصًا تُروى للعار أكثر مما تُروى للتاريخ.

القتل هناك لم يعد بالرصاص، بل بمنع الغذاء، بحجب المياه النقية، بحرمان المرضى من الدواء، وبإغلاق الأبواب في وجه الأمل.

غزة اليوم ليست مجرد ساحة حرب، بل ساحة موتٍ بطيء، تنتظر توقيع شهادة وفاة بلا صوت.

المرضى يُحتضرون أمام صمت المستشفيات العاجزة. الأطفال الذين يحتاجون علاجًا لمرض السرطان أو الكلى، أولئك الذين أنهكتهم الحمى ولم يجدوا دواءً، يواجهون مصيرهم وحدهم.

من نجا من القصف، يُسحق اليوم بالجوع. من أفلت من الرصاص، يُطارد بالمجاعة والعطش والمرض وانعدام الأفق.

أكثر من مليون ونصف مليون إنسان أصبحوا أسرى العطش والجوع والمرض في قطاع لا يجد طريقًا نحو الخلاص. لا مياه نظيفة، لا كهرباء، لا غذاء كافٍ، ولا أدنى مقوّمات الحياة الكريمة.

المشهد أشد قتامة من كل البيانات التي تُصاغ في المؤتمرات الصحافية.

أسئلة بلا أجوبة… وموت بلا ضمير

على الأرصفة، في الأزقة، في بيوتٍ لا طعام فيها منذ أيام، أطفال يسألون:

لماذا لا يوجد خبز؟ لماذا لا يتحرّك أحد؟ لماذا تُركوا هكذا بلا سبب؟

أسئلة أبسط من السياسة، أقسى من الإجابات.

هناك، في غزة، الطفل لا يحتاج إلى شرح تفاصيل الحدود، ولا إلى تحليلات الخرائط. هو يحتاج إلى وجبة تُنقذ معدته الصغيرة من أن تنهشها برودة الجوع، إلى سقفٍ يحميه من الخوف، إلى يدٍ تمسح دموع الحرمان.

في غزة، لا ينتظر أحد بيانات المجتمع الدولي، فالخبز لا يُؤكل من نصوص المؤتمرات، والماء لا يسيل من تصريحات التنديد، والدواء لا يصل عبر خطابات الشجب.

هناك، الجوع أعمق من الجسد… إنه جوع للعدالة، للرحمة، للإنصاف.

صور لا تُنسى… وجريمة بلا عقاب

صور الأطفال وقد تحوّلت أجسادهم الهزيلة إلى عظام مغطاة بجلد باهت، لم تعد تحرّك مشاعر من يشاهدها إلا قليلًا، لكنها توثق جريمة ترتكب كل يوم، أمام كاميرات العالم، دون رصاصة واحدة.

طوابير من النساء، شيوخ يحملون الصغار، بحثًا عن رغيف، عن ظل، عن ماء. كل هذا يحدث تحت أعين من يدّعون الدفاع عن الإنسانية، يصدرون البيانات، يملؤون الشاشات بالتصريحات، ثم يمضون إلى حياتهم الطبيعية.

ما يجري في غزة ليس أزمة إنسانية عابرة، بل سياسة تجويع ممنهجة، وحصار يقتل دون قذائف. الطعام محاصر، الدواء محاصر، الماء محاصر، والأمل أيضًا محاصر.

إنها جريمة مكتملة الأركان، تُنفّذ بصبر قاتل، وتُغلف ببيانات المجتمع الدولي.

غزة لا تطلب معجزة… فقط حقها في الحياة

لم تعد غزة تنتظر معجزة. لا تنتظر جيوشًا ولا عواصم تنهض باسمها.

تطلب فقط ما يحق لكل إنسان؛ تطلب حياة بلا تجويع، أطفالاً بلا خوف، خبزاً بلا دم، وماء بلا قيد.

هناك في الظل، تتقدّم المعاناة وحدها. هناك أمهات يخفين بكاءهن لئلا يضعفن أمام صغارهن. رجال يطأطئون رؤوسهم خجلًا من عجز لم يعرفوه يومًا. أطفال يلعبون دون لعب، يضحكون دون سبب، ثم يسقطون مع حلول الليل من فرط الجوع.

تطلب غزة فقط أن يُرفع عن الأطفال الجوع، عن المرضى العطش، عن الأمهات الرعب، قبل أن تُكتب هذه الصفحة في سجلّ أسود، لا تمحوه خطابات، ولا تبرّره تحليلات.

صمت العالم شريك في الجريمة

في كل مرة يُترك فيها إنسان يموت جوعًا، يصبح الصمت مشاركة في الجريمة. من يرى ولا يتحرك، يوقّع على موت الأطفال. من يعرف ولا يصرخ، يبارك إبادة شعب. ومن يغض الطرف، يقول سرًا: "ليموتوا… لا شأن لي" هو شريك بلا شك في هذه الجريمة. 

وسيسأل غدًا: لماذا مات هؤلاء جوعًا أمام أعين العالم؟ التاريخ يسجل اليوم أسماء من أنقذوا، وأسماء من صمتوا. أمام هذا الألم، لا مكان للحياد. كل من صمت شريك في المأساة، ولو بكلمة لم تُقل.

الضمير أو العار… لا خيار ثالث

غزة اليوم تستصرخ العالم بألم لم يعد يحتمل. السكوت صار خيانة. التأخير صار جريمة. إنقاذ من تبقى لم يعد خيارًا، بل صار واجبًا أخلاقيًا، لأن كل دقيقة تُزهق فيها روح، كل ليلة يُدفن فيها طفل بلا طعام، هي وصمة ستلاحق هذا العالم طويلًا. ان إنسانية هذا الزمن تقف أمام اختبار لا يحتمل التأجيل.

هناك في غزة، يموت الأبرياء جوعًا، والعالم يملك مفاتيح وقف هذا النزيف. القرار واضح: بين قلب حيّ وضمير حي… وبين عالم أدار ظهره عمدًا.

 كم طفلاً يجب أن يموت ليصحو العالم؟

هناك، في غزة، لا يسألون عن السياسة، ولا تعنيهم خرائط المصالح ولا صفقات السلاح. سؤالهم واحد وبسيط، لكنه يوجع كل قلب حيّ:

"متى نشبع؟ متى نشرب؟ متى ينتهي هذا الجوع؟".

هناك، في البيوت التي أنهكها الحصار، في الأزقة التي ضاق بها الخبز والماء والدواء، كل شيء صار معلّقًا بالحياة الهشّة: كسرة خبز، قطرة ماء، حبة دواء، وحتى الحلم الصغير بليلة بلا خوف ولا بكاء.

في هذا العالم الذي تعوّد أن يدير ظهره للدم، هل اعتاد أيضًا أن يدير ظهره للجوع؟ هل صار الجوع في غزة حدثًا عابرًا في نشرات الأخبار؟ هل أصبحت صرخات البطون الصغيرة مجرد ضوضاء إضافية في زحام هذا الصمت المخزي؟

ستكتب غزة قصّتها كما تفعل دائمًا. لكنها هذه المرّة، ليست قصة قصفٍ ولا صواريخ. إنها قصة الجوع… قصة الخذلان… قصة الإنسانية حين صمتت ولم ترفع إصبعها في وجه الجريمة.

وسيأتي ذلك اليوم الذي يسأل فيه التاريخ كلّ واحد في هذا العالم، ليس: "ماذا قلت؟" بل: ماذا فعلت… حين مات الأطفال جوعًا أمام عينيك، وأنت تعلم؟".

ذلك السؤال لن يُطرح على الورق، بل سيُطرح على الضمائر… وسيبقى معلقًا، لا في كتب السياسة، بل في قلب كل من بقي فيه شيء من إنسانية.