قيس سعيّد: منجزات سياسية ودعم شعبي يحتاجان لوضوح رؤية اقتصادية
في الحقيقة لا توجد تصريحات رسمية توضح مخطّطات الدولة بخصوص التعامل مع الوضع الاقتصادي، فالبلاد تقترض من البنوك المحلية ولكن هذا الـأمر لا ينبغي أن يطول بحسب خبراء ولا بدّ من إيقاف هذه السياسة المالية.
إلى حدود سنة 2021 كان الاحتفال بعيد الثورة التونسية يجري في الرابع عشر من كانون الثاني/يناير تاريخ سقوط نظام بن علي، ولكن منذ إمساك الرئيس قيس سعيّد بزمام الأمور تغيّر تاريخ الثورة إلى السابع عشر من كانون الأول/ديسمبر.
في الحقيقة، لا يتعلّق الأمر هنا بمجرّد تغيير للتواريخ، بل إن هذا التغيير يلخّص جوهر الصراع السياسي والاجتماعي القائم في تونس منذ 2011 إلى اليوم.
يرمز تاريخ السابع عشر من ديسمبر إلى اندلاع التحرّكات والاحتجاجات ضد نظام بن علي. تظاهرات انطلقت من المناطق المهمّشة والمفقّرة. أما تاريخ الرابع عشر من يناير فإنه يرمز (بحسب جزء من التونسيين) إلى اختطاف هذه الثورة من قبل السياسيين الانتهازيين، وهو ما أنتج العشرية السوداء، في إشارة إلى سنوات الانتقال الديمقراطي والتي شهدت توغّل الأحزاب واللوبيات وسيطرتها على الدولة وأجهزتها، حيث تحوّلت الديمقراطية إلى مطيّة وغطاء لانتشار الفساد ومواصلة تفقير التونسيين.
هنا تكمن فلسفة الرئيس التونسي قيس سعيّد الذي قام بتحرّك الخامس والعشرين من جويلية لتصحيح ما يعتبره عملية سطو قامت بها النخب السياسية والمالية عبر سرقة ثورة الفقراء وتحويلها إلى فرصة للأغنياء.
إذاً، تحتفل تونس في السابع عشر من كانون الأول/ديسمبر بذكرى الثورة أو تحديداً ذكرى اندلاع شرارة الثورة التي نادت بالحرية والكرامة وخلق فرص العمل.. لم تتحقّق كل هذه الشعارات والمطالب ما عدا مطلب الحرية حيث كانت حرية التعبير مضمونة في الإعلام، ولكنها حرية مغشوشة يقول الرئيس التونسي ومؤيّدوه، استغلتها الأحزاب لإنشاء ديمقراطية صورية تضمن مصالحها وتحكمها بمفاصل الدولة.
فوز انتخابي كاسح للرئيس التونسي
تأتي ذكرى الثورة هذا العام بعد فترة قصيرة من فوز الرئيس قيس سعيّد بولاية ثانية في إثر حصده لأكثر من 90% من أصوات الناخبين، ووسط غياب شبه تامّ لمنافسين سياسيين وازنين. لكن نسبة المشاركة وأعداد الذين صوّتوا للرئيس التونسي أحبطت كلّ سرديات المعارضة التي تتحدّث عن تراجع شعبية الرئيس بسبب ندرة المنجزات الاقتصادية والاجتماعية
بنى الرئيس سعيّد فلسفة تغييره للدستور وللنظام السياسي على مبدأ السيادة الوطنية، فهو يعتبر أنّ العشرية التي تلت سقوط نظام بن علي جعلت تونس مرتعاً للمخابرات الأجنبية وممثّليها في الداخل من أحزاب وجمعيات وغيرهما، وهو ما جعله يطلق على المرحلة الجديدة التي يقودها "حرب التحرير الوطنيّ"، في إشارة إلى تحرير البلاد من هيمنة الخارج ومن الفساد والزبونية. ولأجل ذلك قام بحملة لمحاسبة عشرات رجال الأعمال ورفض إملاءات صندوق النقد الدولي، واقترب من روسيا لجهة التعاون الاقتصادي وكثّف من المشاريع المشتركة مع الصين، فشهدت علاقات تونس مع الغرب فتوراً غير مسبوق، وأطلق مبادرات اجتماعية واقتصادية هدفها تحسين الوضع الاقتصادي لكنها لم تعط أكلها بعد.
وعلى الرغم من هذه الشعبية التي لا يزال الرئيس التونسي يحظى بها لدى فئات واسعة من الشعب التونسي إلا أن نظرة علمية وموضوعية على المنجز الاجتماعي والاقتصادي تؤكد أن الوضع العام للبلاد لا يزال بعيداً عن تحقيق قفزة كبيرة تتمّ عبرها التنمية وتتراجع نسب البطالة.
فالمؤشرات الاقتصادية الكبرى تؤكد أن مستوى الدين العام في تزايد كما أن نسب النمو خلال السنوات الماضية لا تزال في حدود الـ1 بالمئة وحتى أقل وحافظت نسبة البطالة على معدلها فوق الـ15 بالمئة، وفي مقابل ذلك تتلخّص بعض المؤشرات الإيجابية في عودة سلطة الدولة والأجهزة الأمنية وتراجع سطوة اللوبيات المالية وتحسّن الخدمات الإدارية وغياب التظاهرات والتوترات الاجتماعية التي لم تغب يوماً عن المشهد التونسي قبل الخامس و العشرين من جويلية 2021.
تقول المعارضة إن الرئيس سعيّد وضع كلّ السلطات بيديه ورفع كل العراقيل التي قد تحول دون تنفيذه للإصلاحات التي يتحدّث عنها، وبالتالي فإنه لا حجة لديه لما تعتبره المعارضة فشلاً في تحقيق أي منجز اقتصادي يذكر.
يقول مؤيّدو سعيّد إن البناء والتشييد يجب أن تسبقه عملية تنظيف واسعة لكل الأدران التي زرعها السياسيون خلال عشرية الفشل كما يسمّونها.
أبرز التحديات خلال الولاية الثانية للرئيس التونسي
من أكثر العبارات التي كرّرها الرئيس التونسي في إثر إعلان فوزه بولاية جديدة عبارتي "حرب التحرير الوطني" و"البناء والتشييد"، وذلك في إشارة إلى شعارات المرحلة الجديدة، بمعنى أن مرحلة تطهير البلاد من مخلّفات الحقبة الماضية قد انتهت وستبدأ مرحلة الإنجازات ولكن ذلك لن يكون سهلاً نظراً لعدة ظروف داخلية وخارجية. فالبلاد تحتاج إلى أموال كثيرة واستثمارات أكبر لتحقيق النهوض الاقتصادي وإلى حد اللحظة لم تتمكّن تونس من الحصول على هذا الدعم المالي.
دار حديث على أن المملكة السعودية ودولة الإمارات ستدعمان تونس مالياً بالطريقة نفسها التي تمّ من خلالها دعم مصر، لكن لا يبدو أن ذلك سيتحقّق. هنا يتحدّث الرئيس التونسي عن ضرورة التعويل على الذات، وعلى الرغم من أهمية هذا التوجّه إلا أن خبراء الاقتصاد يؤكدون أن البلاد بحاجة للدعم الخارجي ولا بدّ لها من البحث عن حلفاء وأصدقاء.
يتم الحديث عن البحث عن شركاء جدد كدول البريكس لكن لا خطط واضحة حول شكل هذا التعاون ومدى تأثيره على الاقتصاد التونسي.
في الحقيقة لا توجد تصريحات رسمية توضح مخططات الدولة بخصوص التعامل مع الوضع الاقتصاديّ، فالبلاد تقترض من البنوك المحلية ومن المصرف المركزي، ولكن هذا الأمر لا ينبغي أن يطول بحسب خبراء ولا بدّ من إيقاف هذه السياسة المالية لأنّ تواصلها سيضرّ حتماً الاقتصاد الكلي مستقبلاً.
هو هاجس كبير واختبار جدّي ورئيسي، فالمنجز السياسي الذي حقّقه الرئيس التونسي قد ينهار أمام الفشل في تحقيق التقدّم الاقتصادي المنشود.
ظرفية إقليمية ودولية معقّدة تؤثّر على تونس
التطوّرات في سوريا وفي المنطقة، والحرب في أوكرانيا، والحديث عن شرق أوسط جديد، يبدو أن ملامحه الرئيسية التطبيع مع الكيان الصهيوني وهذا كله سيلقي بظلاله حتماً على الداخل التونسي.
من الواضح أن الخطاب الرسمي في تونس مناهض لهذه المخطّطات الأميركية والإسرائيلية بل إن بيانات الرئاسة والخارجية في تونس كانت حادة النبرة بشكل غير مسبوق تجاه الجرائم والنفاق الغربيين إضافة الى رفض مخطط التطبيع.
كما أن تونس لم تلتزم الحياد بخصوص الحرب الأوكرانية وبدت أقرب إلى موسكو. هذه المواقف الرسمية لتونس ستؤثر بكل الأحوال على نظرة الغرب لهذا الرئيس التونسي الذي يرفع شعار السيادة الوطنية وينتقد النفاق الغربي ويرفض التطبيع ويحاكم تنظيم الإخوان، اليد الرئيسية لتنفيذ المخططات الأميركوصهيونية في المنطقة.
هو تحدٍ إضافي أمام البلاد ويتطلّب توازناً بين ضرورة ترتيب الوضع الداخلي وتحقيق مصالحة مع القوى الوطنية والنقابية وبين ضرورة اليقظة ممّا يمكن أن يكون بصدد التحضير لتونس من القوى الغربية المتصهينة بمشاركة قوى داخلية كانت وما زالت أدوات لتنفيذ المخططات المعادية.