أزمة المثقفين العرب.. بين "التيك توك" و"الفيسبوك"

أثقلت الحروب، بالتواطؤ مع حكام المنطقة، الشعوب التي لم تعد تستوعب مجريات الأحداث السريعة التي فشل معظم المثقفين في شرحها للآخرين.

  • هذا العالم برمّته هو هدف المشروع  الصهيو- إمبريالي.
    هذا العالم برمّته هو هدف المشروع  الصهيو- إمبريالي.

بغياب مراكز الدراسات العلمية المحترفة في معظم، إن لم نقل جميع الدول العربية والإسلامية التي يفتقر  حكامها إلى طواقم استشارية حقيقية ومستقلة، وجد المثقفون في هذه الدول أنفسهم في أزمة حقيقية وضعتهم جميعاً أمام امتحان حقيقي ومصيري بين ما يتطلبه منهم ضميرهم العلمي والوطني والقومي والديني والإنساني وبين من يفرضه عليهم الواقع الذي يعيشون فيه، ويفتقر إلى أبسط المعايير والمقاييس العلمية التي تتطلب منهم  الالتزام بالمعلومة الصحيحة والدفاع عنها والنضال من أجلها، وهو ما لم يفعله كثيرون.

ومع هذا الواقع المرير للمثقفين  في هذه الدول، خسر الحكام أبسط مقومات الشعور الوطني والقومي والديني الذي يفرض عليهم الاعتماد على المعلومة الصحيحة في التعامل مع أي شأن داخلي أو خارجي.

ليكون ذلك السبب الرئيسي في اعتماد هؤلاء الحكام على القوى الخارجية، ليس فقط بالمفهوم السياسي والعسكري والاقتصادي، بل من خلال المستشارين والإعلاميين والمثقفين المأجورين بمختلف مواقعهم واختصاصاتهم التي لا  تخدم سوى أجندة الأعداء بعلم أو من دون علم، بشكل مباشر أو غير مباشر.

وأبعدت كل هذه المعطيات الحكام عن شعوبهم التي ابتعدت بدورها عن مثقفيها الذين باعوا ضمائرهم بحفنة من الدولارات للحكام الذين تواطأ معظمهم مع الغرب الإمبريالي.

في الوقت الذي لم يستوعب فيه الآخرون من هؤلاء المثقفين  المضامين والأهداف الحقيقية لكل المشاريع والمخططات الإمبريالية والصهيونية الذكية التي اعتمدت دائماً على الدراسات الحقيقية المدعومة بكل التقنيات العلمية  العالية التي حققت لها ما حققته طيلة السنوات الأخيرة، وبشكل خاص، خلال  وبعد ما يسمى بـ"الربيع العربي" وكان سلاحه الأقوى هو مئات الملايين من الحسابات في شبكات التواصل الاجتماعي وقنوات  الاتصال "المشفرة".

ومن دون أن يتذكر أحد أن مؤسسي هذه الشبكات والقنوات  وأصحابها هم من الصهاينة، إن كانوا يهوداً أو مسيحيين، وكان لهم هدفان رئيسيان هما الوصول إلى كل المعلومات الشخصية وغير الشخصية للمليارات من البشر، وبالتالي اختراق عقول هؤلاء الملايين من العرب والأتراك والكرد والفرس وغيرهم من شعوب هذه الجغرافيا التي تحوّلت إلى حقول تجارب اجتماعية ونفسية تستخلص منها مراكز الدراسات ومعها أجهزة المخابرات، وفي مقدمتها الموساد، الكثير من الدروس والأهم المعلومات الثمينة والحساسة عن "كل شيء" في المنطقة، وهو ما أثبتته الأشهر القليلة الأخيرة خلال حرب غزة والعدوان على لبنان ثم سوريا، وأخيراً  إيران ثم اليمن.

وقد بيّنت المعلومات أن الموساد والعديد من الأجهزة، السرية منها والعلنية، وعبر التكنولوجيا العالية التي تملكها  والمدعومة أميركياً استطاعت الحصول على أدق المعلومات عن قيادات حماس وحزب الله وسوريا وإيران واليمن، من خلال التجسس على هواتف وحسابات الآلاف من الأشخاص بمختلف مواقعهم ومستوياتهم، كما  نجحت في اختراق الحسابات السرية لعدد لا بأس به من الشخصيات المهمة التي كانت تتواصل في ما بينها عبر الاتصالات المشفرة على الواتسآب أو التلغرام.

واستطاعت أجهزة المخابرات الإسرائيلية والأميركية اختراقها بسهولة، إن كان عبر التكنولوجيا المتطورة أو التواصل  مباشرة مع أصحاب هذه الشركات التي تملك قنوات الاتصال هذه، والمعروفة علاقاتها  السرية أو العلنية مع "تل أبيب" التي استفادت وما تزال تستفيد من البنى التحتية لهذه الشركات، كما هي الحال بالنسبة إلى "ميكروسوفت" و"غوغل" وغيرهما.

وتحدثت المعلومات أكثر من مرة عن اختراق الموساد لكثير من الحسابات السرية في شبكات التواصل والاتصالات المشفرة أو البريد الإلكتروني للعديد من المسؤولين حتى في الغرب بمن فيهم الرئيس ماكرون ورئيسة وزراء ألمانيا السابقة ماركل وآخرون، وهو ما أثبته جوليان أسانج وإدوارد  سنودون وآخرون من المسؤولين السابقين في أجهزة المخابرات الغربية، بل وحتى الإسرائيلية.

وبما أن حكام المنطقة، بمعظمهم، ومستشاريهم والمثقفين المأجورين لا يقرؤون كثيراً، والبعض منهم لا يفهم حتى ولو قرأ، فقد استطاع الغرب الإمبريالي ومن خلال ملايين الحسابات المزوّرة، وحتى الحقيقية منها، أن يخترق فكر وعقل بل وحتى ضمير  الملايين من شعوب هذه المنطقة، التي عوّدها الغرب الإمبريالي الصهيوني على سردياته التي يسوّق لها بذكاء بواسطة السطحيين وقليلي الذكاء والمعرفة من "المثقفين"، وانضم إليهم كثير من أولئك الذين يعتقدون أنهم مثقفون وهم بعيدون عن الثقافة كل البعد، كما هم  بعيدون عن التفكير والتحليل العميق الاستراتيجي الذي يعتمد أساساً على  المعلومة الصحيحة.

وضاعت هذه المعلومة في متاهات الحكايات اليومية البسيطة التي تعوّد عليها الملايين من خلال جمل بسيطة في شبكات التواصل الاجتماعي وفيها الكثير من المغالطات  المقصودة، وكما هي الحال  في الملايين من فيديوهات "التيك توك" و"الإنستغرام" و"الفيسبوك" والأهم من كل ذلك "اليوتيوب" الذي يعتقد أصحابها أنهم في "منبر حر"  وهم لا يدرون أنهم في مصيدة ذكية لا تورطهم هم فحسب، بل توقع الملايين من متابعيهم في فخ الانحطاط الفكري والأخلاقي، وبالتالي الوطني والقومي والديني.

وهو ما هدف إليه العدو المشترك للجميع إن كان في "تل أبيب" وواشنطن أو العواصم الغربية  التي نجحت إلى حد كبير في مشاريعها ومخططاتها لتدمير البنى التحتية للفكر الوطني والقومي والديني، ليس فقط عبر الأنظمة العميلة  والمتواطئة، بل أيضاً بشراء الكثير من الذمم الرخيصة التي باعت كرامتها وشرفها بحفنة من الدولارات الملطخة بدماء الملايين من أبناء هذه الجغرافيا التي تحوّل معظم أبنائها ومثقفيها وعقلائها إلى أسرى شبكات التواصل الاجتماعي الرخيصة والدنيئة، وهم لا يدرون أن تماسيح هذه الشبكات تهدف  إلى سلب إرادة التفكير السليم والفهم الصحيح، وبالتالي النضال الدؤوب لدى شعوب المنطقة.

وأثقلت الحروب الإمبريالية والصهيونية بالتواطؤ مع حكام المنطقة كاهلها جميعاً، ولم تعد تستوعب مجريات الأحداث السريعة التي فشل معظم المثقفين في شرحها وتوضيحها للآخرين، ولأنهم أصبحوا  هم ضحية الوجبات الخفيفة من المعلومات السطحية التي حصلوا عليها أو توصلوا إليها عبر "التيك توك" و"الفيسبوك" و"الإنستغرام" و"اليوتيوب" ومعظمها من صناعة البروباغاندا الاجتماعية والنفسية الذكية التي طالما نجح الغرب الإمبريالي الصهيوني في تطويرها وتسويقها بذكاء.

في الوقت الذي كانت فيه شعوب المنطقة ومثقفوها في سبات عميق أحبّوه جميعاً ما دام يجنبهم تعب وتكلفة الحياة اليومية التي لم تعد تطاق  في ظل الواقع المرير والمؤلم الذي سيجعلنا جميعاً ضحية آليات  الذكاء الاصطناعي الذي سيفعل بنا أضعاف ما فعله أسياد هذا الذكاء، ليس فقط بحكامنا بل بمثقفينا الانتهازيين والأنانيين والأغبياء والمأجورين من أسرى "التيك توك" و"الفيسبوك" وهم فيها مواد هزلية هزيلة  لا تخدم سوى العدو الصهيوني.

وحصل على كل ما يريده منهم ومن خلالهم على أدمغة قطاعات واسعة من شعوب هذه المنطقة التي تعيش في أتعس وأعمق حالات الانحطاط والاستسلام النفسي والاجتماعي.

والتخلص منها لن يكون سهلاً إلا في حالة واحدة ألا وهي الخروج من حالة الثبات العميق، والتخلص من كل محاولات التسلط الفكري التي يحاول العدو من خلالها منعنا من التفكير السليم وفق مصالحنا، وليس وفق معاييره ومقاييسه التي عودنا عليها خلال السنوات الأخيرة  فتأقلم الكثيرون معها، وأصبحت جزءاً من حياتهم اليومية، وكل ما فيها من تفاصيل تحوّل إلى مادة دسمة في حسابات العدو الإمبريالي والصهيوني الذي حقق خلال السنوات الأخيرة الكثير من أهدافه، سياسياً واقتصادياً والأهم اجتماعياً وفكرياً وثقافياً ودينياً ونفسياً. 

ويبقى الرهان في نهاية المطاف على حنكة وذكاء وإيمان بل وأيضاً أصحاب المعلومة الصحيحة من المثقفين الشرفاء والمخلصين في هذه الجغرافيا التي إن لم تصحُ  فوراً فكارثة "التيك توك" و"الفيسبوك" ومعهما سخافات "اليوتيوب" ستدمر  كل شيء، ومن دون أدنى رحمة يفتقر إليها من اخترع هذه السخافات وطعّمها  للبسطاء السطحيين، ليس فقط في منطقتنا، بل في جميع أنحاء العالم.

ويعرف الجميع أن هذا العالم برمّته هو هدف المشروع  الصهيو- إمبريالي، ووفق العقيدة التوراتية الملفّقة التي تفتقر إلى أبسط معايير الأخلاق،  وتقول إن كل من هو ليس بيهودي سيكون عبداً لليهود، ويحق لهم أن يستبيحوا كل شيء لتحقيق هدفهم هذا، وبكل الوسائل والطرق، ومهما كانت خبيثة، كما هي الحال في شبكات التواصل الاجتماعي، وسيتحكم الذكاء الاصطناعي قريباً بها وبكل مستخدميها!