إيران وروسيا بميزان القوة في النظام الإقليمي

لا يزال هناك بعض الوقت أمام كلّ من إيران وروسيا بقصد استعادة زمام المبادرة، أو لنقل تحسين شروط التفاوض، قبل أن يتبلور النظام الإقليمي، ومعه الترتيبات الإقليمية.

0:00
  • الخيارات المستقبلية لإيران وروسيا في المنطقة.
    الخيارات المستقبلية لإيران وروسيا في المنطقة.

لم تعد البتة الأوضاع والأحوال الإقليمية، مؤخراً وراهناً، في منطقة الشرق الأوسط عامّة، وفي منطقة المشرق العربي خاصّة، مثلما كانت سابقاً، بل حتى الأمس القريب.

لقد تغيّرت وتبدّلت الكثير من المعطيات، بعد أن انقلبت الأمور رأساً على عقب، حيث كانت موسكو الراعية الدولية الأولى للنظام السابق في سوريا، وكانت طهران الراعية الإقليمية الوحيدة للمحور السابق للمقاومة، بينما كانت بكين ـــــ هي ظلت هكذا ـــــ أقلّ حضوراً وتأثيراً ونفوذاً، لأسباب تاريخية وسياسية، إنما تتعلّق بتقاليد سياستها الخارجية، وعقلية من يمارس السلطة فيها ويصنع القرار لديها.

تراجع إيران وروسيا في المنطقة

ثمة من كان يكتب ويتحدّث ـــــ لا يزال على هذا المنوال حتى حينه ـــــ عن عقد صفقة ما، سياسية واستراتيجية، للمقايضة ما بين أوكرانيا وسوريا. في السياق، تزامن التوقيت، ما بين سيرورة التمهيد والتحضير والترتيب لمسار ومسير التسوية السياسية في الأولى، وعملية التغيير غير السياسي في الثانية، قد يدفع إلى تبنّي هذا التفكير، اعتماد هذه الفرضيّة واعتناق هذه النظرية، في التحليل بقصد التفسير والتبرير، بغضّ النظر عن مدى صوابيّته ومدى دقّته، وليس مدى صدقيّته ومدى صحته، على اعتبار أنه لا يجافي، بالمطلق وبالكامل، الوقائع والحقائق.

هكذا خسرت كلّ من روسيا وإيران في سوريا، أو بالأحرى هما خسرتا سوريا. وخسارة روسيا وإيران في سوريا لا يُستهان بها، وإن كانت متفاوتة ومتباينة، في جوانبها ومضامينها وأبعادها، بين موسكو وطهران، وكذلك في مفاعيلها ومضاعفاتها وتداعياتها، كما سيلي أدناه. هذه المحطة التاريخية، والانعطافة الإقليمية، ربما الانعطافة الدولية، اللتان أعقبتاها، أفضت إلى انحسار حضور ونفوذ ودور روسيا وإيران في منطقة المشرق العربي على وجه الخصوص، وفي منطقة الشرق الأوسط على وجه العموم، وليس انكسارهما؛ ما جعلهما، بميزان التفكير والتقدير، على المحك.

العودة الأميركية والاندفاعة الإسرائيلية في المنطقة 

إن عودة أميركا بقوة إلى المنطقة ليست مجرّد احتمال وافتراض بحت. هي واقع وحقيقة. كذلك اندفاع "إسرائيل" في المواجهة مع قوى المقاومة ضدّها في أكثر من ميدان وعلى أكثر من جبهة. تريد أميركا التعويض في منطقة الشرق الأوسط عن خسارة القوى الغربية عامّة والقوى الأطلسية خاصة في منطقة أوراسيا. وهي تراجعت هناك على خط الجبهة والحرب بين روسيا وأوكرانيا. يبدو واضحاً توجّه واشنطن مؤخراً وراهناً للتفاهم مع موسكو صراحة وجهارة، وإن كان الاتفاق على حساب حلفاء الأميركيين وأصدقائهم من الأوكرانيين أولاً وعموم الأوروبيين ثانياً.

وعليه، تصرّ أميركا ـــــ كما "إسرائيل" بالتأكيد ـــــ على أن تتقدّم في فلسطين المحتلة، لبنان وسوريا. في لبنان، أصبح لدى الأميركيين رئيس للجمهورية، هو صديق وحليف، وكذلك الحكومة ورئيس الحكومة، حيث تدور التركيبة الجديدة للسلطة السياسية بفلك الأميركيين. وفي سوريا، أميركا تمسك بكلّ شيء، أو لنقل بالكثير من المبادرات والأوراق، ما بعد رحيل الرئيس السابق وسقوط النظام السابق، بحيث تتحكّم بمفاصل القرار والسلطة هناك، بينما تمعن "إسرائيل" بتسديد الضربات والصفعات لسوريا، وبتفكيك وتدمير الدولة والاقتصاد والجيش والأمن فيها.

هكذا يعود مشروع الشرق الأوسط الجديد، الأميركي ـــــ الإسرائيلي، ليطلّ برأسه مجدداً. يقع العدوان الثلاثي، الأميركي ـــــ البريطاني ـــــ الإسرائيلي، المتكرّر، بل المتواصل، على اليمن، لوقوفه مع فلسطين المحتلة ولبنان حكماً، ومع إيران حتماً، ضدّ "إسرائيل"، الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. من هنا، تطال عودة أميركا وهجمة "إسرائيل" العديد من بلدان وأقطار المنطقة، لا فلسطين المحتلة فحسب، ابتداء من لبنان وسوريا، مروراً بالعراق، وليس انتهاء باليمن، وربما وصولاً إلى إيران، مع التذكير هنا بالتلميحات والتسريبات والتأشيرات عن التفكير والتخطيط في واشنطن و"تل أبيب" حول العرش الأردني والجيش المصري!

المعادلات والتوازنات بظلّ الوضع الراهن في المنطقة 

بناء على كلّ الذي سبق أعلاه، ليست خافية على أحد من المراقبين، المتابعين والمعنيين، والرأي العام، العالمي والإقليمي، في العالم بأسره وعلى امتداد الإقليم، مسألة اختلال التوازن الإقليمي، وكذلك التوازن الاستراتيجي في الإقليم، لمصلحة كلّ من الأميركيين والإسرائيليين. وربما تكون المرحلة أسوأ وأصعب وأخطر من هزيمة العرب سنة 1967 واجتياح لبنان سنة 1982، ولا سيما بعد خروج، أو بالأحرى إخراج، مصر من حلبة الصراع العربي والإسلامي مع "إسرائيل"، وبالتبعية انهيار التوازن الإقليمي والتوازن الاستراتيجي في الإقليم، سنة 1977 وسنة 1979.

لقد كانت هناك فرصة لإعادة بناء التوازن الإقليمي، وكذلك التوازن الاستراتيجي في المنطقة، للمرّة الأولى منذ عقود عديدة. وكان الأمل معقوداً على المقاومة ـــــ محور المقاومة بحسب البعض من هنا وهناك ـــــ وعلى إيران في مواجهة "إسرائيل"، كذلك على روسيا أيضاً ـــــ ربما على روسيا أكثر من الصين بطبيعة الحال ـــــ في مقابل أميركا، لأسباب ذاتية وموضوعية.

وقد تبدّد هذا الأمل ـــــ لنقل إنه قد اضمحل ـــــ بعدما ضاعت تلك الفرصة، حيث تمّ تفويتها وتطييرها، مع تراجع هذا المحور الدولي أو الإقليمي، المناوئ والمناهض للأميركيين والإسرائيليين، بصرف النظر عن التسميات، التوصيفات والتصنيفات بالأدبيات الصحافية والإعلامية.

الخيارات المستقبلية لإيران وروسيا في المنطقة

بالنسبة لإيران وروسيا، يجب ـــــ بميزان المصالح والحسابات المتصلة ـــــ أن يكون التفكير والتخطيط بشأن كيفية العودة مجدّداً إلى الساحة الإقليمية على أجندة وجدول أعمال موسكو وطهران، والتحضير والترتيب بشأن كيفية العودة مجدداً إلى المسرح الإقليمي. لا يجوز إغفال هاتين النقطتين، ولا التغافل عنهما، عن قصد أو غير قصد. فقد ترتّب الكثير على تراجع روسيا وإيران أولاً، وتقدّم أميركا و"إسرائيل" ثانياً، خلال فترة وجيزة، وقد نجمت عنهما الكثير من المشكلات، بالنظر إلى تصدّع الفجوة التي يريد أن يملأها الأميركي والإسرائيلي على حساب الروسي والإيراني. 

لا يزال هناك بعض الوقت أمام كلّ من إيران وروسيا بقصد استعادة زمام المبادرة، أو لنقل تحسين شروط التفاوض، قبل أن يتبلور النظام الإقليمي، ومعه الترتيبات الإقليمية، ومن ضمنها المعادلات والتوازنات الإقليمية أيضاً، بحسب ميزان القوة ونمط توزيع القوة ما بين اللاعبين والفاعلين الدوليين والإقليميين.

وعليه، قد يكون بإمكان طهران وموسكو بعد أن تحجز كلّ منهما لنفسها مقعداً قبيل انطلاق قطار الاتجاهات الإقليمية الجديدة والمسارات الإقليمية المستجدّة من سوريا والمشرق العربي على وجه التخصيص إلى الشرق الأوسط على وجه التعميم.