اتفاق غزة... السيناريوهات المنتظرة!

تتقاطع أغلب التقديرات حول أربعة سيناريوهات محتملة لمستقبل اتفاق وقف النار في غزة، تتفاوت في احتمالاتها لكنها جميعاً تدور في فلك الإرادة الإسرائيلية–الأميركية.

0:00
  • ما يجري اليوم لا يمكن فصله عن السلوك الإسرائيلي المتراكم منذ ثمانية عقود.
    ما يجري اليوم لا يمكن فصله عن السلوك الإسرائيلي المتراكم منذ ثمانية عقود.

لم تنتهِ حرب غزة بعد، وربما لن تنتهي قريباً. ليست هذه مقولة تشاؤمية، بل خلاصة واقعية لما أظهرته الأسابيع التي تلت توقيع وثيقة وقف إطلاق النار، إذ سرعان ما بدأت المؤشرات تكشف أن ما وُقّع على الورق لا يعني بالضرورة انتقالاً إلى مرحلة السلام.

فـ "إسرائيل"، كما في تجاربها السابقة، شرعت في المراوغة والتنصل من التزاماتها، بينما استمرت آلة الحرب في قصف المدنيين واستهداف الأحياء السكنية، في وقت مضى فيه الكنيست نحو خطوات عملية لضم الضفة الغربية، وكأن اتفاق غزة لم يكن سوى محطة استراحة قصيرة في حرب طويلة الأمد.

في جوهر المشهد، تتقاطع أغلب التقديرات حول أربعة سيناريوهات محتملة لمستقبل هذا الاتفاق، تتفاوت في احتمالاتها لكنها جميعاً تدور في فلك الإرادة الإسرائيلية–الأميركية، فيما يبدو الأطراف الآخرون، الموقعون أو الضامنون، بلا أدوات ضغط حقيقية سوى بيانات دبلوماسية لا تغيّر شيئاً في الميدان.

السيناريو الأول: تنفيذ مجتزأ يخدم المصالح الإسرائيلية

الاحتمال الأول هو الأكثر واقعية والأقرب إلى النمط الإسرائيلي المعروف، وهو تنفيذ جزئي ومنتقى للاتفاق بما يتناسب مع المصالح المباشرة لتل أبيب. فالتاريخ الحديث، من جنوب لبنان إلى غزة، يؤكد أن "إسرائيل" لم تُبدِ يوماً التزاماً كاملاً بأي اتفاق وقف إطلاق نار. كانت دائماً تنفذ ما يضمن مكاسبها، ثم تتنصل من بقية البنود تحت ذرائع أمنية أو تقنية.

في الحالة الراهنة، يمكن تحديد ثلاثة أهداف رئيسية تعتبرها "إسرائيل" جوهرية: استعادة الأسرى، وإنهاء حالة الاستنزاف التي يعانيها جيشها في القطاع، وإعادة ترميم صورتها أمام الرأي العام الدولي بعد أن تآكلت بفعل مشاهد الإبادة والدمار.

وبناءً على ذلك، التزمت حكومة نتنياهو بما يخدم هذين الهدفين: انسحابات محدودة من بعض المناطق، وتبادل محدود للأسرى، والسماح بدخول كميات رمزية من المساعدات الإنسانية. أما بقية البنود – من الانسحاب الكامل، إلى ضمان حرية حركة المدنيين، وإعادة إعمار البنى التحتية – فقد ظلت معلقة، أو جرى الالتفاف عليها بتفسيرات غامضة.

النتيجة المتوقعة لهذا السيناريو هي حالة من "الهدوء المتقطع" لا أكثر. أي توقف العمليات العسكرية الواسعة مؤقتاً، مع استمرار الاستهدافات الجوية والاغتيالات الفردية وعرقلة الإغاثة. أما الملفات الجوهرية مثل مستقبل الحكم في القطاع، وإعادة الإعمار، وسلاح المقاومة، فستبقى مجمدة إلى أجل غير معلوم، خصوصاً بعد أن فقدت المقاومة ورقة الأسرى كعامل ضغط.

السيناريو الثاني: تقدم محدود تحت ضغط دولي

الاحتمال الثاني يقوم على إمكانية تحقيق تقدم نسبي بفضل الضغوط الدولية، ولا سيما الأوروبية، وكذلك بسبب التآكل التدريجي في صورة "إسرائيل" لدى الرأي العام العالمي. هذا التقدم المحتمل يظل مرهوناً بمدى جدية الإدارة الأميركية في إلزام تل أبيب بتطبيق الاتفاق، وهي جدية أثبتت التجارب أنها متقلبة، تخضع لحسابات السياسة الداخلية الأميركية أكثر مما تستند إلى اعتبارات العدالة أو القانون الدولي.

وفق هذا السيناريو، قد نشهد خطوات متدرجة تشمل إدخال كميات أكبر من المساعدات الإنسانية، وانسحابات إضافية وفق خطوط محددة مسبقاً، وربما انطلاق عمليات أولية لإعادة إعمار ما دمرته الحرب. لكن كل ذلك سيبقى هشاً وقابلاً للانتكاس، إذ يصر نتنياهو على إبقاء قواته داخل القطاع بحجة "ضمان الأمن" وبهدف تحويل هذا الملف إلى ورقة انتخابية داخلية، يقدّم نفسه عبرها كمنقذ لـ"إسرائيل" من خطر "الإرهاب".

حتى في حال تحقق هذا التقدم، لا يمكن الحديث عن هدوء كامل. فالتجارب السابقة تشير إلى أن "إسرائيل" لا تلتزم بأي اتفاق إلا عندما تواجه قوة ردع حقيقية كما حدث في جنوب لبنان بعد حرب تموز 2006. أما في غياب هذا التوازن، فستبقى الخروقات اليومية – من قصف واغتيال وقنص – جزءاً من المشهد المعتاد.

السيناريو الثالث: انهيار الاتفاق والعودة إلى الحرب

الاحتمال الثالث هو الأسوأ، ويتمثل في انهيار الاتفاق نتيجة تفاهم إسرائيلي–أميركي، معلن أو ضمني، يتيح لتل أبيب استئناف الحرب بذريعة جديدة. الذرائع جاهزة: من نزع سلاح المقاومة إلى “تهديد أمن إسرائيل” أو فشل “الإدارة الدولية للقطاع”.

غير أن الرأي العام العالمي قد يشكل هذه المرة عاملاً كابحاً نسبياً. فالتظاهرات التي عمّت العواصم الغربية مؤخراً، والمواقف المتزايدة التي تربط بين الاحتلال والفصل العنصري، أظهرت أن التعاطف مع القضية الفلسطينية لم يعد عاطفياً أو مؤقتاً، بل بدأ يتبلور كوعي سياسي عالمي يحرج الحكومات الغربية أمام شعوبها.

لكن رغم ذلك، فإن العودة إلى الحرب تبقى احتمالاً قائماً، إذ لم تفقد "إسرائيل" يوماً شهية القتل، ولا قدرتها على اختلاق المبررات. وفي حال تجدد العدوان، فإن القطاع سيعود إلى دائرة النار: قصف، واجتياحات، وحصار، وتفاقم المأساة الإنسانية. سيعود السكان إلى البحث عن الماء والدواء والمأوى، فيما يعود العدّاد ليحصي مجدداً أعداد القتلى والمفقودين.

ما الذي يمنع تطبيق الاتفاق كاملاً؟

قد يبدو السؤال مشروعاً: إذا كانت هناك وثيقة موقعة بضمانات دولية، فلماذا لا تُنفذ كما هي؟ الإجابة تكمن في بنية الصراع ذاته، وفي العوامل الثلاثة التي تجعل من السلام الشامل احتمالاً مؤجلاً إلى أجل غير مسمى.

أولاً، رفض "إسرائيل" الانسحاب الكامل من القطاع. فالحكومة الإسرائيلية تواجه ضغوطاً متزايدة من اليمين المتطرف الذي يرى في أي انسحاب “تنازلاً تاريخياً”. هذا الرفض يجعل فكرة وضع القطاع تحت إدارة دولية بلا معنى، لأن السيطرة الفعلية ستبقى بيد "الجيش" الإسرائيلي.

ثانياً، رفض فصائل المقاومة نزع سلاحها. فذلك ليس مجرد مسألة تقنية، بل يرتبط بجوهر حق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه. أي قبول بنزع السلاح يعني عملياً نهاية مشروع المقاومة وبداية مرحلة الهيمنة الإسرائيلية الكاملة.

ثالثاً، محدودية الضغط الدولي. فالعواصم الكبرى التي سمحت باستمرار حرب الإبادة لعامين، لن تتحول فجأة إلى قوة ردع ضد "إسرائيل". التجربة أكدت أن حدود الضغط تتوقف عند مستوى لا يمس جوهر السياسات الإسرائيلية أو الدعم الأميركي اللامحدود لها.

ذهنية الحرب المستمرة

ما يجري اليوم لا يمكن فصله عن السلوك الإسرائيلي المتراكم منذ ثمانية عقود. إنها الذهنية ذاتها: التعامل مع أي هدنة كتكتيك عسكري لا كتحول سياسي، والمراهنة الدائمة على الزمن في إنهاك الخصم واستنزاف بيئته الاجتماعية. ولهذا، فإن اتفاق غزة، مهما بدا من الخارج خطوة نحو التهدئة، لا يمثل سوى فصل جديد من حرب طويلة، عنوانها الدائم: تأجيل الانفجار، لا منعه.

وعليه، فإن الحديث عن “سلام قادم” يبدو الآن أشبه بترف لغوي. فالوقائع تشير إلى أن "إسرائيل" لا تبحث عن تسوية بل عن إدارة دائمة للصراع تضمن استمرار تفوقها العسكري والسياسي. أما الفلسطينيون، المحاصرون بين رماد الدمار وضغط الحصار، فيواصلون دفع الثمن ذاته منذ أكثر من سبعين عاماً: ثمن الوجود نفسه.