احتجاجات غزة...الاستثمار الرخيص في الألم النبيل

ليست المفاجأة في خروج مئات الغزيين في تظاهرات، المفاجأة أنهم خرجوا بعد عام ونصف على "الطوفان"... في زمن آخر غير زمن السابع من أكتوبر، وفي مكان آخر، غير غزة، كان منظوراً لهذه الاحتجاجات أن تنطلق بعد أسابيع فقط.

  • نحن أمام كيان ضربته العنصرية والفاشية في نخاعه الشوكي!
    نحن أمام كيان ضربته العنصرية والفاشية في نخاعه الشوكي!

الفرحة" بخروج بضع مئات أو آلاف من الغزيين في تحركات احتجاجية ضد الحرب وحماس، أصابت معسكراً بأكمله، بـ"الدوار"، ودفعت برموزه ووسائط إعلامه، للقفز سريعاً إلى خطوط لمواجهة و"التضخيم" و"التهويل"، والاستثمار الرخيص في الألم النبيل، خلف كل فريق من هؤلاء، أجندات وحسابات، قديمة لم يجرؤا على البوح بها تماماً من قبل، وبعضها جديد، يعتقد أصحابه، أن الظرف بات يسمح لهم بممارسة طقوس الرقص على "جثة المقاومة"، ثم بعد ذلك يخرجون لنا ألسنتهم الصدئة لترديد عبارتهم الأشهر: ألم نقل لكم؟

حسناً أيها السادة؛

ليست المفاجأة في خروج مئات أو ألوف الغزيين في تظاهرات من هذا النوع، المفاجأة أنهم خرجوا بعد عام ونصف العام على "الطوفان" وما أعبقته من حروب تطويق وتطهير وإبادة...في زمن آخر غير زمن السابع من أكتوبر، وفي مكان آخر، غير غزة، كان منظوراً لهذه الاحتجاجات أن تنطلق بعد أسابيع، وربما أشهر معدودات على الأكثر، فما جابه الغزيين من تقتيل وتمدير وتهجير، يعجز البشر عن تحمّله، وتنوء منه الجبال الراسخات.

لأهل غزة الحق كله، في التعبير عن ضيقهم بالحرب، وإخراج ما يحتشد في صدورهم وقلوبهم من أنّات وصحيات، فقد أعيتهم حرب الترويع والتجويع والتعطيش، وأضناهم استهداف البشر والشجر والحجر، وأنهكهم خذلان ذوي القربى وتواطؤ "الحضارة الغربية" وشراكتها في المذابح والمجازر... لقد عبروا فرادى وجماعات عن مواقفهم من تلك الأطراف، واليوم، ومن موقع اليأس بقرب الخروج من هذه "المقتلة" أخذ بعضهم يُجرب توجيه سهام انتقاداته إلى حماس، علّه بذلك يستعجل فرجاً طال انتظاره، وهذا أمر مفهوم ومقبول، ويندرج في إطار "رد الفعل الطبيعي".

وعلى القادة والمسؤولين في فصائل المقاومة، ألا تخيفهم هذه الأصوات، وألا يفقدوا الثقة بأهلهم وشعبهم، عليهم التروي في تقدير الموقف، والتفاعل مع المحتجين، سيما أصحاب الضمائر الوطنية الحيّة منهم، الذي يصدرون عن وجعهم وعذاباتهم، وأن يتوفروا على القدرة على التمييز بين غث الاحتجاجات وسمينها، وثمة الكثير من "الغث" و"السموم" والنوايا الخبيئة والخبيثة"، خلف بعض من حاول امتطاء صهوتها، من بني جلدة المقاومة و"ذوي القربى" و"متصهينين من عرب اللسان"..."لا تأخذوا الصالح بعروى الطالح، وتذكّروا أن ما قدمه أهل غزة، لم يقدم مثله غيرهم من الفلسطينيين، لا الآن ولا في التاريخ.

بعض ما شهدناه على الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي، عفوي بلا شك، نابع عن شدة الألم وهول الفقد والمصاب، أما بعضه الآخر فـ"مُعدّ مسبقاً" في غرف العمليات السوداء التي يعرف القاصي والداني من هم نشطاءها والعاملين فيها، فيما بعضه الثالث، صادر عن "مزاج إحباط وهزيمة" حل بالمنطقة، بعد أن دارت الدوائر، وانتقلت إسرائيل إلى العربدة والاستباحة، في طول المشرق العربي وعرضه...هؤلاء لا يتعين وضعهم في سلّة واحدة، والتعامل مع كل فريق منهم، يستوجب انتهاج تكتيكات وسياسات مختلفة.

من هم الذين أسعدتهم الاحتجاجات؟

أولاً؛ "إسرائيل"، التي رحًب بعض مسؤوليها بما يجري، واتخذوا منه برهاناً على صوابية تكتيكهم العسكري: "الضغط بالنيران"...أكثرهم تفاؤلاً، بات يراهن على أنهم اكتسبوا شريكاً جديداً في الحرب على المقاومة وحماس، وأكثرهم تعقلاً، بات يتحسس مصائر نظريات أطلقت في بداية الحرب، لتبرير الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، نظريات تفترض أن كل غزة حماس، وأن نساءها وأطفالها مسؤولون عن السابع من أكتوبر، إن لم يكن ميدانياً وبالقتال، فبالصمت عن حكم حماس وحكومتها، وعدم الثورة عليها....اليوم، تخشى بعض أوساط إسرائيل، أن ينزع هذا الحراك، بعضاً من أسلحة دعايتها، "جوبلزية" الطراز...لكن في مطلق الأحوال، فإن حكومة نتنياهو، تراقب بارتياح ما يجري، وتأمل أن يتطور، وهي في سبيل ذلك، لا توفر فرصة آمنة لتطوير التحرك الاحتجاجي كما يجادل البعض، بل تسعى لتطويره بالنار، تأسيّاَ بتكتيك "التفاوض بالنار"، الذي تعتمده مع المقاومة...النار المصبوبة على الفلسطينيين، مقاومين ومحتجين على المقاومة، مطلوبة في كل الأحوال، ومدرجة دوماً على جدول أعمال "الفاشية الإسرائيلية".

ثانياً؛ السلطة الفلسطينية، التي صمتت دهراً ونطقت كفراً، سارعت لامتطاء صهوة الاحتجاجات، مع أنها خفيضة، وأصدرت الأوامر لناطقيها والمتحدثين باسمها، ولأمناء عامين أنصاف وأرباع فصائل محيطة بها، لكي تدلي بدلائها في شيطنة المقاومة والتحريض عليها...هو الاستثمار الرخيص في الألم النبيل لأبناء غزة وبناتها، وهي الحسابات الأكثر تهافتاً في أنانيتها، وهي السياسة الأكثر خطورة في "هرولتها"...العاجزون عن حفظ أمن رام الله وجوارها، يقدمون أنفسهم كحماة لغزة وقطاعها...الشهود بالزور على حرب الإبادة والترويع في شمال الضفة، يعدون أهل غزة بوقف حرب الإبادة والتطهير....الذين ينتظرهم مخطط تفكيك السلطة ومشروع "الإمارات الفلسطينية غير المتحدة" في الضفة، يقترحون لأنفسهم عودة "مظفّرة" لتحرير غزة حماس، وليس من إسرائيل، لا سمح الله...المدينون بوجودهم وسلطتهم للاحتلال في الضفة، يجدونها فرصة نادرة، لتمديد هذا الوجود وتلك السلطة إلى غزة، وفي حفظ الاحتلال ورعايته.

لكن من سوء طالع هؤلاء، أننا أمام كيان ضربته العنصرية والفاشية في نخاعه الشوكي، حتى بات يضيق ذرعاً بالفلسطينيين، حتى من أشد أنصار مدرسة "التنسيق الأمني المقدس"، دع عنك الفصائل والمقاومة والنشطاء بالوسائل السلمية...كيان إلغائي، لن يُغمض له جفنٌ، قبل أن يلقي بالفلسطينيين جميعهم، في دنيا المنافي والشتات، والأفضل في القبور تحت سابع أرض.

ثالثا؛ شخصيات ورموز ومؤسسات، محسوبة على ما يُسمى بـ"المجتمع المدني" الفلسطيني، توّاقون للعودة إلى ممارسة أعمالهم كالمعتاد، معظمهم غادروا القطاع مبكراً وعلى عجل، لكن أشغالهم تضررت بالحرب الممتدة، رأينا نظراء لهم في اليمن والسودان، فكانوا أول المهاجرين وآخر العائدين، يجأرون بالشكوى ضد المقاومة بدل أن يعيدوا النظر في "نظرية المجتمع المدني"، والاعتكاف على إعادة بناء أجندته وأولوياته، بعد "الطوفان" وانكشاف المستور، انتهازيون، استعلائيون، سيظلون على هوامش المجتمع والشعب والقضية والمشروع.

رابعاً؛ كل واحدٍ من هذه المكونات الثلاثة، تقف خلفه أو خلفهم، عواصم عربية كارهة للمقاومة و"الإسلام السياسي" بكل مدارسه، وفي كل زمان ومكان، عواصم تماهت أجنداتها مع الاستراتيجية الأمريكية – الإسرائيلية في المنطقة، وجعلت من بلدانها وإعلامها وأموالها الكثيرة، منصات للانقضاض على كل نفس حر وروح مقاومة في هذه الأمة، من محيطها إلى خليجها، وليس في غزة وحدها.

أسئلة يتفادى الثرثارون الإجابة عليها؟

أولاً؛ كيف تحلّون هذا اللغز، وتجيبون على هذه المفارقة: أكثر من ثلاثة أرباع الإسرائيليين، ومعظم نخبهم العسكرية والمدنية، يحملون نتنياهو وحكومة اليمين العنصري، المسؤولية على استمرار الحرب، ونقض الاتفاقات المبرمة، والمماطلة والتسويف، ودائماً لأسباب حزبية وسياسية داخلية، لا صلة لها بمجرى التفاوض ولا بمواقف حماس، فكيف تجرؤون على تحميل المفاوض الفلسطيني وزر استمرار الحرب واستطالة أمد الكارثة؟...هل أكون مفرطاً في المبالغة إن سألتكم لماذا تصرون على أن تكونوا أكثر كرهاً للمقاومة من إسرائيل ذاتها؟

ثانياً؛ إن نجحتم في إقناع حماس بتسليمكم الراية والسلاح، هل تستطيعون ضمان وقف الحرب وانسحاب الجيش الإسرائيلي، ومنع التهجير من غزة، وعدم اقتراف مجازر ومذابح، أفدح من تلك التي قارفوها في صبرا وشاتيلا بعد خروج المقاومين الفلسطينيين من بيروت عام 1982؟...هل فرغتم من إقناع "إسرائيل" بعودتكم إلى غزة؟...هل قدمتم ما يكفي من شهادات حسن سير وسلوك لعواصم العرب والعالم (وليس لإسرائيل وحدها)، حول أهليتيكم لقيادة الضفة، حتى تصبحوا مؤهلين لقيادة غزة...هل هذه هي نواياكم الحقيقية، أم أن كل ما يعنيكم فقط، هو إحراج حماس وإخراجها؟

ثالثاً؛ هل تقبلون اللجوء إلى "لجنة تحكيم محايدة" لمعرفة المسؤول عن تعطيل مسارات الحوار والمصالحة والوحدة الوطنية، بالذات بعد الطوفان، من هو الذي أدار ظهره لكل النداءات الوطنية والمبادرات العربية والدولية (آخرها بكين)، مما أبقى الباب مفتوحاً لكل هذا الجدل المتآمر تحت عنوان "اليوم التالي"، هل تقبلون بنتائج هذا التحكيم، الذي نريده وطيناً وشعبياً ومعلناً...بعد ذلك، وبعد ذلك فقط، سنصدق روايتكم القائلة بأن حماس تدافع عن سلطتها المتفردة في غزة، ولا تدافع عن شعب وقضية، وسنقبل بأطروحتكم القائلة، بأن حماس لا تكترث بعذابات أهلنا في القطاع، مع أنها أكثر من غيرها على الإطلاق، تصدّرت قائمة التضحيات والمُضحين، من قاداتها الكبار وعوائلهم الصغيرة والكبيرة، فضلاً عن آلاف الشهداء من كوادرها وعناصرها، وانتم الذين طالما أتيتم على ذكرهم بوصفهم من روّاد الفنادق والفلل الفاخرة في الدوحة وإسطنبول...هل لنا أن نضع بين يدي لجنة التحكيم المقترحة، سؤال من هو صاحب الأفضلية القيمية والأخلاقية في حرب التراشق الإعلامي من بين الفريقين المتنافسين؟

رابعاً؛ في البحث عن جواب على سؤال ما العمل بعد المذبحة، وكيف المخرج منها، تبدو جعبة هؤلاء خالية إلا من عرض "الاستسلام الكامل" ورفع الراية البيضاء...حماس قبلت بحكومة وفاق من تكنوقراط، وقبلها بعودة الإطار القيادي الموحد للمنظمة، وقبلت بلجنة الاسناد المجتمعي "المصرية"، وهي مبادرات رفضتها جميعها سلطة رام الله...حماس أبدت مرونة هائلة في التفاوض، شهد بها حتى "الوسيط" الأمريكي، وليس الوسطاء العرب فحسب، ولقيت انتقادات حادة جراء ذلك، من بعض أصدقائها وحلفائها، وكل ذلك من أجل رفع الأذى عن بيئتها الحاضنة...الآن، أنتم تقول خلاف ذلك، ترفعون المسؤولية عن إسرائيل وتلقون بها على كاهل حماس والمقاومة، وبمزاعم وأكاذيب شتى، أنتم اللاهثون دائماً وراء "نقطة وسط" مع إسرائيل، لا ترتضون بغير "اللعبة الصفرية" مع حماس والمقاومة، ومع ذلك يخرج علينا "مفصوم" من هنا أو هناك، ليعكر أسماعنا بنظرية "سلطة واحدة، سلاح واحد"، سلطة لا سلطة لها حتى على مراكزها، وسلاح لا يُستخدم إلا للمراسم والاستعراضات ومطاردة المقاومين، شرُّ البلية ما يضحك.

أخيراً، ومن دون تخليَّة ساحة حماس من المسؤولية والحاجة، لاجتراح مواقف ومبادرات جديدة للخروج من نفق الجحيم في غزة، فإن المطالبين بإطلاق مثل هذه المبادرات موجودون في مكان آخر... السلطة في رام الله، وبقايا المنظمة إن بقيت لديها ذرة إحساس بدورها كـ"ممثل شرعي وحيد"... هم الوسطاء العرب، الذين يتعين عليهم أن يخرجوا أكثر للعلن، وأن يشيروا بأصابع الاتهام عن التعطيل والمعطلين، وأن يسمّوا الأشياء بأسمائها...لا بدّ من ترتيب انتقالي لغزة، فلا تحكم بحماس ولا تحكم من دونها أو على جثتها أو بعد فرض الاستسلام عليها، استسلام يعادل في معناه ونتائجه، فرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني، وربما لأجيال قادمة، فهل هذا ما يريده أصحاب النظرات القصيرة والحسابات المغلوطة والأولويات المشبوهة؟ بئس ما أردتم وأرادوا.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.