في المسافة بين غزّة ودمشق

الجولة الجديدة من الحرب لا تهدف إلى استئصال حماس عسكرياً، رغم استهداف قادتها وعوائلهم. المطلوب هو كيّ الوعي الداعم للمقاومة، سواء من خلال استعادة مشاهد المجازر والقتل المفرط، أو إظهار المقاومة بمظهر العاجز.

0:00
  • ما تحقّق بالدم والتضحيات لا يسقط بالبيانات والتظاهرات!
    ما تحقّق بالدم والتضحيات لا يسقط بالبيانات والتظاهرات!

مع بداية عمليات "جيش" الاحتلال في غزّة بعد طوفان الأقصى، تزامن العدوان الجوي على غزّة مع عدوان صهيوني على حلب ودمشق، يومها قيل إنّ تلك الغارات على سوريا استهدفت مخازن أسلحة للمقاومة، وإنها رسالة تهديد إلى سوريا وحزب الله وإيران بعدم التدخّل في الحرب. تدخّلت جبهات الإسناد، وتبادل العدو والمقاومة القصف على كلّ الجبهات بما فيها الجبهة السورية. هدأت معظم الجبهات مع اتفاق الهدنة في غزّة، وتغيّر النظام في سوريا، ووضعت "إسرائيل" وحلفاؤها أيديهم على مستقبل سوريا السياسي. 

لكنّ انطلاق المرحلة الجديدة من العدوان على غزّة ترافق مع عدوان جوي صهيوني على ما ادّعي أنه مخازن أسلحة تعود للجيش السوري "السابق" في مطاري تدمر والـ T4، فهل ما زالت "إسرائيل" تخشى دعماً سورياً للمقاومة، وهل من رابط بين غارات تشرين الأول/أكتوبر 2023 وغارات آذار/مارس 2025؟

لم تكن الغارات على سوريا مرتبطة بما يحدث في غزّة، فقد تعرّضت سوريا لعشرات الاعتداءات الجوية من قبل العدو، تحت عنوان رئيس هو ضرب مستودعات الأسلحة سواء التابعة للجيش العربي السوري أو المقاومة، وتعرّضت مواقع الجيش والمطارات العسكرية والمدنية لغارات طائرات العدو الصهيوني والتحالف الدولي كما حدث في دير الزور ومطار الشعيرات ومطار المزة ومطاري دمشق وحلب. 

جاءت ليلة سقوط دمشق بيد جماعات الجولاني مترافقة مع أكبر عدوان جوي صهيوني على مواقع الجيش ومطاراته وقواعده الحربية. كانت النتيجة كما روّج لها الإعلام الصهيوني والإعلام الموالي له تدمير أكثر من 80% من قدرات الجيش السوري الذي قامت حكومة الأمر الواقع بحلّه، واحتلال معظم مواقعه في الجنوب السوري، واستيلاء الجيش الجديد على ما تبقّى من هذه الإمكانيات واستخدامها في الداخل السوري وعلى الحدود مع لبنان. 

صمتت الغارات لثلاثة أشهر لتعود متزامنة مع بدء العدوان الجديد على غزّة، هل يحتمل المنطق فرضيّة مفادها أنّ أطرافاً داخلية سورية متعاونة مع العدو الصهيوني تقوم بتزويد العدو بأماكن مخازن الأسلحة عند اكتشافها، وأنّ هذا العدو يقوم بعمليات وقائية ضدّ هذه المواقع خشية وصول الأسلحة الموجودة فيها إلى المقاومة؟

لا شكّ في أنّ العدو الصهيوني يتعامل مع جميع الأنظمة العربية مهما بلغت درجة علاقاته معها بنوع من الشكّ، فهذا العدو يدرك أنّ هذه الأنظمة تتعامل وتنسّق معه على عكس رغبة شعوبها، وأنّ هذه الأنظمة مهلهلة من الداخل وعرضة للانهيار أمام أيّ هزّة كبيرة في المنطقة. يتضح هذا الشكّ في المعارضة الإسرائيلية لمعظم صفقات الأسلحة التي تحاول الأنظمة العربية المتحالفة معه الحصول عليها من مصادر غربية، هذا ما حصل مع السعودية ومصر والأردن.

تدمير الأسلحة السورية لا علاقة له بموقف سلطة دمشق الجديدة من محور المقاومة، وهي تعلن صراحة عداءها لهذا المحور، لكنه يعكس عدم ثقة العدو وداعميه بإمكانية بقاء السلطة الجديدة في الحكم، أو على الأقلّ قدرتها على بسط نفوذها على كامل الأرض السورية.

العكس تماماً يحدث في غزّة، فاستئناف العدوان عليها يعكس ثقة العدو بقدرة المقاومة على استعادة قوتها، وبسط سيطرتها على كامل القطاع، وهو ما بدا واضحاً خلال عمليات تبادل الأسرى مع العدو، والتي أدارتها المقاومة بشكل احترافي حمل في طيّاته الكثير من استعراض القوة.

رغم إعلان المقاومة موافقتها على تشكيل لجنة لإدارة قطاع غزّة من دون مشاركتها فيها، إلّا أنّ العدو الصهيوني وداعميه يدركون تماماً أنّ غياب مقاتلي حماس والجهاد الإسلامي عن الشوارع، وغياب قادة حماس السياسيين عن المكاتب الحكومية لا يعني القضاء على المقاومة. لقد تمكّنت المقاومة من التحوّل إلى فكرة تدعمها غالبية الفلسطينيين في الداخل والخارج، وينظر العالم إليها على أنها حركة تحرّر وطني في وجه العدوان الإمبريالي، بقيادة الولايات المتحدة، على الشعوب المقهورة.  

الجولة الجديدة من الحرب لا تهدف إلى استئصال حماس عسكرياً، رغم استهداف قادتها وعوائلهم. المطلوب هو كيّ الوعي الداعم للمقاومة، سواء من خلال استعادة مشاهد المجازر والقتل المفرط، أو إظهار المقاومة بمظهر العاجز من خلال اغتيال قادتها، وقصف كلّ ساحات الإسناد من اليمن إلى لبنان، والعربدة على الأرض والسماء السورية. 

لتعزيز هذا الهدف الصهيوني أطلق حلفاء العدو في منطقتنا عبر وسائل إعلامهم بكائيّات مطوّلة عن معاناة أهل غزّة الإنسانية والتي لن تتوقّف إلّا بزوال المقاومة، اللحن نفسه يعزف تجاه المقاومة في لبنان، فخبر عدم إمكانية الشروع بإعادة الإعمار ودخول المساعدات الإنسانية إلا بتسليم المقاومة لسلاحها، تنقله وسائل الإعلام العربية بكلّ "حياد"، من دون أن تخبرنا عن سبب تخلّف الأنظمة العربية عن دعم لبنان الذي انتخب رئاسة وحكومة على مقاس هذه الأنظمة، ولا تزال تحاصره الدبابات الإسرائيلية.

الحلقة الأخيرة في الضغط على المقاومة تولّت تنفيذها سلطة رام الله، من خلال التحريض على مسيرات مناوئة للمقاومة في بعض مناطق القطاع. بعيداً عن حقّ من يمتلكون موقفاً آخر في التعبير عن رأيهم، وحتى حقّ المتعبين والجياع في المطالبة بإنهاء الحرب، فإنّ الجهة التي دعت إلى قيام هذه التظاهرات، ولغة الدعوة التي تتهم المقاومة بالإرهاب، والتغطية الإعلامية المشبوهة التي ركّزت على بضعة آلاف من المحتجين وتغاضت عن عشرات آلاف المؤيّدين للمقاومة، كلّها تضع الدعوة ومنظّميها في موقع الخيانة. 

لم تدّعِ حركة حماس أو المقاومة أنها تحوز على دعم كامل الشعب الفلسطيني، بل إنّ فوزها بآخر انتخابات تشريعية أجريت كان بنسبة 44.5% مقابل 41% لحركة فتح. الدعم الذي حصلت عليه المقاومة بقيادة حركة حماس كان ثمنه الدم الذي بذله المقاومون على مدى عشرات السنين من المواجهة مع العدو، في ظلّ صمت رسمي عربي تصدّره صمت سلطة رام الله التي لم تفوّت فرصة لتأكيد تمسّكها بخيارات الاتفاق والتنسيق الأمني مع العدو.

ما تحقّق بالدم والتضحيات لا يسقط بالبيانات والتظاهرات، وكلّ ما يحدث في المسافة بين غزّة ودمشق يستهدف المقاومة بجسدها وفكرها والوعي الداعم لها. ليس أمام جمهور المقاومة سوى التمسّك بالمقاومة والقناعة الراسخة بأنّ ثمن المقاومة مهما كان باهظاً وقاسياً يبقى أقلّ من ثمن الاستسلام.