ما الدوافع وراء قرار ترامب رفع العقوبات عن سوريا؟

قرار الرئيس ترامب برفع العقوبات عن سوريا جاء بعد إعلان الحكومة الانتقالية في دمشق رغبتها في تلبية المطالب الأميركية الثمانية، مع حاجتها إلى بعض الوقت للمضي في هذا الاتجاه. 

  • عودة أميركا إلى منطقة الشرق الأوسط؟
    عودة أميركا إلى منطقة الشرق الأوسط؟

لم يكن قرار الرئيس ترامب برفع العقوبات المفروضة على سوريا مفاجئاً من حيث السرعة والتوقيت فحسب، بل كانت المفاجأة أيضاً باللقاء الذي جمعه بالرئيس السوري أحمد الشرع بحضور ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ومشاركة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عبر تقنية الاتصال عن بعد.

الانطباعات الإيجابية التي تشكلت لدى ترامب والتصريحات التي أدلى بها أمر يستحق التوقف، وخصوصاً أن الرئيس الشرع ليس شخصاً عادياً بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية.

ما حدث يؤكد أنه لا ثوابت ولا مبادئ في عالم السياسة، وأن لغة المصالح هي وحدها المعيار لسلوك الدول، كبيرها وصغيرها، وأن الثبات على المواقف لا يعني سوى شيء واحد، ألا وهو الموت، فالسياسة هي "فن الممكن"، وبالتالي يجب مواءمة مواقفها وفقاً للمتغيرات المحيطة بتلك المواقف، والإمكانات المتاحة أمام صانع القرار، الذي يسعى لتعظيم المكاسب وتقليل الخسائر ما أمكن.

الرئيس ترامب ليس شخصية اعتيادية في التاريخ السياسي الأميركي، والترامبية باتت نهجاً جديداً أول معالمه هو غياب توقع سلوكياته ومواقفه، في ظل إعلائه "لغة الصفقات" واعتبارها نهجاً في توجهات السياسة الخارجية الأميركية، وهدفاً تسعى لتحقيقه.

عودة أميركا إلى منطقة الشرق الأوسط...

شهدت منطقة الشرق الأوسط تراجعاً في التوجهات الاستراتيجية الأميركية خلال ولايتي أوباما وبايدن، وبات الانسحاب من المنطقة هو الطريق لتفرغ الولايات المتحدة لمعركتها القادمة مع الصين، وفقاً لتصوراتهم.

تاريخياً، كانت اهتمامات الولايات المتحدة بالشرق الأوسط نابعة من أربعة اعتبارات: تأمين النفط، وحماية "إسرائيل"، وتأمين طرق التجارة الدولية، ومنافسة الحضور السوفياتي في المنطقة.

تراجعت أهمية الشرق الأوسط بعد أن أصبحت الولايات المتحدة دولة منتجة للنفط، وباتت "إسرائيل" قادرة على حماية نفسها، كما أن الاتحاد السوفياتي لم يعد موجوداً، وحماية طرق التجارة لم تعد من مسؤولية الولايات المتحدة الأميركية وحدها.

ترى الولايات المتحدة أن الصين، وبينما كانت تتحمل نفقات حماية طرق التجارة الدولية، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، كانت المستفيد من تلك الحماية، وخصوصاً أن منطقة الشرق الأوسط هي الطريق للمنتجات الصينية المتجهة نحو دول المنطقة والدول الأوروبية.

تراجع الحضور الأميركي في المنطقة سمح بالتدخلات الصينية والروسية فيها، وهو ما تسعى إدارة ترامب لاحتوائه والحد من تمدده، وخصوصاً أن منطقة الشرق الأوسط كانت منطقة نفوذ أميركي تاريخياً.

نجاح الصين في الوساطة بين المملكة العربية السعودية وإيران أزعج "إسرائيل"، ومن خلفها الولايات المتحدة. لذا، فإن احتواء الصين بات يتطلب الحد من نفوذها ومحاولة استقطاب أصدقائها بإقناعهم أن الولايات المتحدة قادرة على أن تقدم لهم ما لا تستطيع بكين فعله.

أحد أهداف رغبة ترامب في وضع نهاية للحرب الأوكرانية هو إبعاد روسيا عن الصين، كما أن رغبته في التوصل إلى اتفاق مع طهران حول برنامجها النووي يصب في هذا الاتجاه.

ماذا يريد ترامب من سوريا؟

قرار الرئيس ترامب برفع العقوبات عن سوريا جاء بعد إعلان الحكومة الانتقالية في دمشق رغبتها في تلبية المطالب الأميركية الثمانية، مع حاجتها إلى بعض الوقت للمضي في هذا الاتجاه. 

بناء الثقة لدى الدول العربية وبعض الدول الإقليمية هو العنصر الأهم الذي حققته الحكومة السورية، ما أهّلها لفتح علاقات مع أوروبا، ومن ثم الانتقال إلى إقامة علاقات طبيعية مع الولايات المتحدة الأميركية.

المطالب الأميركية ليست صعبة ولا تعجيزية، ما يعني إمكانية تلبيتها، وإن كان بنسب متفاوتة وفقاً لطبيعة تلك المطالب.

معظم تلك المطالب هي مطالب شعبية سورية وتعهدات تسعى الحكومة لتحقيقها، وخصوصاً ما يتعلق منها بحماية حقوق الأقليات، ومشاركة جميع مكونات الشعب السوري، وسوى ذلك من أمور.

الأمر الأصعب والأكثر حساسية هو ما يتعلق بموضوع المقاتلين الأجانب، والعلاقة مع إسرائيل، وهما موضوعان ترى الحكومة السورية أنها كانت بحاجة لعقد اجتماع مباشر مع الإدارة الأميركية لشرح وجهة نظرها في هذا الإطار.

بالنسبة إلى المقاتلين الأجانب، هناك تعهدات بعدم صدور قرارات جديدة تسند إليهم مهمات قيادية في الجيش أو القوى الأمنية، وأنه سيجري تسوية أوضاع بعضهم شرط التزامهم بالقوانين وعدم ممارسة نشاطات داخلية أو خارجية

ترى الحكومة السورية أن لهؤلاء فضلاً في نجاح الثورة السورية. لذا، لا بد من احترامهم ورد الجميل لهم، ومن الممكن تجنيسهم، وخصوصاً أن الكثير منهم متزوج من سوريات، وبات لديهم أولاد، وهم يرغبون في الاندماج بالمجتمع السوري.

أما بالنسبة إلى العلاقة مع "إسرائيل"، فالحكومة السورية أعلنت ومنذ اليوم الأول لانتصار الثورة أنها لا تريد الدخول في صراعات مع أحد، لكن الاعتداءات الإسرائيلية استمرت، ما تطلب منها تحركاً دبلوماسياً الهدف منه وقف التصعيد الإسرائيلي.

الحديث عن انضمام سوريا إلى اتفاقيات السلام الإبراهيمي التي تبناها ترامب خلال ولايته الأولى، وانضم إليها كل من الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، أمر يحتاج إلى بعض الوقت من وجهة نظري.

هذه الدول ليس لها أراضٍ محتلة، كما أنها ليست مجاورة لإسرائيل، وبالتالي فإن ما يتعلق بسوريا أكثر تعقيداً، ويحتاج إلى وجود مجلس نواب يعرض عليه الأمر على الأقل، فالحكومة الانتقالية ليس من صلاحياتها القانونية المضي في توقيع اتفاقية سلام مع "إسرائيل"، كما أنها بغنى عن تحمل مثل تلك المسؤولية في الوقت الراهن.

كما أن المملكة العربية السعودية ليست متحمسة اليوم لتوقيع اتفاقية سلام مع "إسرائيل"، لذا كانت مصرة على أن لا يجري الربط بين مساعيها للحصول على الطاقة النووية السلمية وضرورة انضمامها إلى السلام الإبراهيمي.

كما أن زيارة ترامب رسخت وبشكل جلي زعامة المملكة للنظام الرسمي العربي، وهو ما يعيد توازنات القوى في المنطقة وإعادة تموضع سوريا في الساحتين العربية والإقليمية.

أهمية سوريا بالنسبة إلى ترامب...

يبدو جلياً أن ترامب يسعى لتسوية العديد من النزاعات الدولية، سعياً منه لتعزيز المصالح الأميركية، وصولاً إلى معالجة المشكلات الاقتصادية التي تعانيها الولايات المتحدة.

من هذه الزاوية سعى ترامب إلى فرض المزيد من الرسوم التجارية على عدد كبير من دول العالم، كما عمل على عقد عدد من الصفقات، وخصوصاً مع دول الخليج.

يسعى ترامب أيضاً إلى توقيع اتفاق مع إيران أملاً بالحصول على جزء من الكعكة الاقتصادية الإيرانية، متجاهلاً مخاوف "إسرائيل"، ومدفوعاً بدعم من الدول الخليجية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية وقطر.

زيارة وزير الدفاع السعودي لطهران عبرت عن مساعي دول المنطقة لإحلال السلام والمضي قدماً نحو شرق أوسط جديد قائم على الاقتصاد والتنمية، بدلاً من الحروب والصراعات.

هذا الأمر يتطلب أن تكون سوريا مستقرة، والاستقرار لا يكون إلا بوجود التنمية ودعم الحكومة كي تتمكن من السيطرة على الأوضاع الأمنية بشكل أكبر.

من هذه الزاوية يجري الحديث عن استعداد بريطانيا لتزويد الحكومة السورية بأسلحة متطورة وتقنيات إلكترونية تمكن الحكومة السورية من مكافحة الإرهاب، كما يجري الحديث عن استعداد كل من السعودية والامارات والأردن لتدريب عناصر من القوى الأمنية السورية، لتأهيلهم وتزويدهم بأحدث الخبرات في هذا المجال.

الحكومة السورية نجحت في مخاطبة ترامب باللغة التي يفهم بها، فعرضت عليه مشاركة الشركات الأميركية في استثمار حقول النفط والغاز السورية مقابل الانسحاب الأميركي من شمال شرقي سوريا.

كما أن داعمي الحكومة الانتقالية، وخصوصاً المملكة العربية السعودية والإمارات وقطر وتركيا، تربطهم علاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي فإنهم يسعون بما في وسعهم لدفع العلاقات السورية الأميركية خطوات نحو الأمام.

الموقف الإسرائيلي من الانفتاح الأميركي على دول المنطقة...

رغم التزام الولايات المتحدة بدعم "إسرائيل" وضمان تفوقها على جميع دول المنطقة، فإنَّ ترامب يبدو غير معني بتلبية جميع طلبات نتنياهو، وهو ما تجلى في اعلانه استئناف المحادثات النووية مع إسرائيل رغم التحفظات الإسرائيلية على ذلك.

 اعتراف ترامب بالدور التركي في سوريا لم يرق لنتنياهو أيضاً، وكانت نصيحة ترامب له هي السعي للتوصل إلى تفاهمات مع أنقرة حول الوجود التركي في سوريا، ورغبة تركيا في المساعدة بإعادة بناء الجيش السوري وإقامة قواعد عسكرية لها داخل الأراضي السورية.

إعلان ترامب وقف الحرب ضد الحوثيين لم يرق لإسرائيل أيضاً، لكن قناعة دول المنطقة بعبثية هذه الحرب وضرورة وضع نهاية لها كانت وراء القرار الأميركي هذا.

ترامب شخصية قوية، وبالتالي من المفيد التعاطي الإيجابي معه إن أمكن ذلك، أو على الأقل تلافي الصدام مع توجهاته، وخصوصاً أنه يسعى لإيجاد حل للصراع في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يتطلب منه ممارسة المزيد من الضغوطات على "إسرائيل".

قرار ترامب برفع العقوبات عن سوريا...

قرار انتظره السوريون كثيراً، ولم يكن أحد يتوقع أن يتم بهذه السرعة. والأهم من قرار رفع العقوبات هو اللقاء التاريخي بين الرئيس أحمد الشرع والرئيس الأميركي بعد مرور أكثر من ربع قرن على آخر اجتماع جمع بين الرئيسين السوري والأميركي في جنيف في العام 2000.

هذا اللقاء يشكل حدثاً بارزاً في تاريخ العلاقات السورية الأميركية، ويعكس نجاح السياسة الخارجية السورية في التوجه غرباً سعياً منها لرفع العقوبات المفروضة عليها، من دون أن تهمل الشرق، فرأينا اللقاءات التي جمعت الوفود الصينية التي زارت دمشق والتقت الرئيس أحمد الشرع. 

كما يعكس الثقة بالإدارة السورية الجديدة والرغبة العربية والدولية بإعطائها الفرصة لإثبات حسن نياته والسير بسوريا نحو مستقبل عنوانه الرفاه والازدهار بعيداً عن النزاعات والحروب. كما أنه يشجع الدول الأوروبية على القيام برفع العقوبات التي فرضتها على دمشق.

يشكل قرار رفع العقوبات فرصة لسوريا لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية وتحريك عجلة الإنتاج فيها، كما أنه سيخفف من معاناة المواطن السوري ويسمح للحكومة بتأمين الاحتياجات اليومية للسكان، وخصوصاً في مجال الكهرباء والمحروقات والمستلزمات الطبية وسوى ذلك.

الأثر النفسي لرفع العقوبات عامل هام جداً، وهو ما تمثل بتحسن سعر الليرة السورية وبشكل كبير أمام الدولار، وانخفاض الإقبال على القطع الأجنبي باعتباره لم يعد ملاذاً آمناً كما كان من قبل.

التحديات كبيرة أمام الحكومة، وأهمها ضرورة العمل على خلق بيئة آمنة في سوريا، فرأس المال جبان ولا يحب المخاطرة. كما أنه يجب العمل على توفير بيئة تشريعية جديدة تشجع المستثمرين وتضمن لهم حقوقهم. وهنا، لا بد من الإشارة إلى أهمية تحديث البنية المصرفية في سوريا، فالشفافية وسهولة التعامل مع البنوك أمر لا بد منه قبل التفكير في تدفق الاستثمارات إلى سوريا.

أهمية سوريا الاستراتيجية وما تمتلكه من ثروات طبيعية سيجعلها قادرة على ترميم جراحها واستعادة مكانتها العربية والإقليمية والدولية.

من المفيد للسوريين جميعاً التفاؤل وطي صفحة الماضي والتطلع نحو المستقبل، والتعالي على الجراح ونسيانها هو الطريق لبناء سوريا التي ننشدها جميعاً.