الإبادة الجماعية والإمبريالية أيديولوجية راسخة لدى قادة الغرب

لا الإبادة الجماعية، ولا التجويع، ولا التطهير العرقي، يعتبر ثمناً باهظاً لدى النخب الغربية؛ فالفوائد السياسية والاقتصادية التي يجنونها من المستعمرة الاستيطانية الصهيونية تفوق بكثير قيمة الحياة الفلسطينية.

  • رفع تكلفة دعم الإبادة الجماعية!
    رفع تكلفة دعم الإبادة الجماعية!

القادة الغربيون ليسوا جبناء لاستمرارهم في دعم "إسرائيل"، كما يتوهّم البعض، بل هم أيديولوجيون إمبرياليون ملتزمون بالمصالح والأرباح الناجمة عن المشروع الإمبريالي وتمثّلاته عنفاً وإبادة جماعية وهيمنة واستباحةً للعالم. 

لن تُقنع أيّ أدلة دامغة وقاطعة على الإبادة الجماعية الجارية على مدار الساعة قادة الغرب بوقف دعمهم لـ"إسرائيل"، لأنّ ذلك ليس في مصلحتهم. الشيء الوحيد الذي سيوقف الإبادة الجماعية هو جعل كلفتها أكثر من ربحها. يجب أن يجعل النضال من أجل حرية فلسطين تكلفة الحفاظ على النظام الصهيوني أكثر من فائدته.

كثيراً جداً ما يُقال إنّ النخبة السياسية الغربية، وكذلك المؤسسات الملحقة بها، جبناء – إنهم ببساطة يخشون قول وفعل المزيد بمواجهة الإبادة الجماعية التي يرتكبها النظام الصهيوني في غزة، أو إنهم يتأثّرون بسهولة بالدعاية الصهيونية، ومدينون بشدة للوبي المؤيّد للنظام الصهيوني. لكنها دعاوى لا تصمد أمام التدقيق. 

التزام لا يتزعزع بالمستعمرة الاستيطانية

كان جو بايدن وكمالا هاريس، وكامل الحزب الديمقراطي تقريباً – بمن في ذلك بعض الحرس القديم فيما يُسمّى "جناحه التقدّمي" مثل بيرني ساندرز – ملتزمين بشدّة بدعم المستعمرة الاستيطانية الصهيونية ("إسرائيل") لدرجة أنهم فضّلوا إهدار انتخابات عام 2024 الرئاسية والتشريعية وخسارتها بدلاً من إبداء أيّ معارضة جادّة لجرائمها الفظيعة وانتهاكاتها الأخرى للحقوق. 

وبالمثل، فإنّ عدداً كبيراً من المسؤولين الحكوميين الأوروبيين – مثل كير ستارمر وديفيد لامي (بريطانيا)، وإيمانويل ماكرون (فرنسا)، وأولاف شولتز وفريدريش ميرز (ألمانيا)، وأورسولا فون دير لاين وغيرهم كثير – ملتزمون بشدة بالمستعمرة الاستيطانية الصهيونية لدرجة أنهم على استعداد للمخاطرة باتهامهم بالمساعدة والتحريض على جرائم الحرب بدلاً من تعليق اتفاقيات التجارة أو مبيعات الأسلحة.

يعتقد الباحثان، ليث حنبلي وجيمس سميث، أنّ الطبقة الحاكمة الغربية بأكملها، قد كشفت طواعيةً وبشكلٍ كامل، زيف القيم الليبرالية وسيادة القانون وحرية التعبير، حفاظاً على دعمها الثابت للنظام الصهيوني. وهذا ليس جبناً سياسياً، بل هو التزام أيديولوجي راسخ بمصالحهم الاقتصادية والسياسية، كما تتجلّى في المستعمرة الاستيطانية الصهيونية.

لذلك، لا يُستغرَب أن تستمر الانتخابات في الدول الغربية من دون ظهور بديل متماسك مناهض للصهيونية – فالنخب السياسية والاقتصادية والثقافية متحدة تقريباً في دعمها للنظام الصهيوني وحملته الممتدة قرناً ونيف من التوسّع الاستعماري الاستيطاني الاقتلاعي. في الواقع، تكرّر هذا الوهم اختيارياً مرات عديدة منذ بداية الإبادة الجماعية، خلال الانتخابات في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وغيرها.

استدامة المجمع الصناعي العسكري

في العديد من الدول، كانت غالبية الجمهور تعارض بالفعل المستعمرة الاستيطانية الصهيونية وتدعم النضال الفلسطيني، بينما احتلت الإبادة الجماعية مكانة بارزة بين اهتمامات الجمهور، ومع ذلك لم يتمكّنوا من التصويت لصالح تمثيل سياسي مناهض للصهيونية ومنصف لفلسطين. باختصار، لا يمكن للجمهور التصويت ضدّ العنف الاستعماري الاستيطاني. وهذا ليس نقصاً في الفهم أو التعاطف – فالمزيد من الشهادات، والمزيد من المؤتمرات، والمزيد من التقارير لن يُحدث تغييراً مهماً.

يرى الباحثان أنّ الجبن لا يُفسّر هذا الدعم الراسخ. هناك تفسير بديل يرى أنّ مستعمرة الاستيطان الصهيونية امتدادٌ للتوسّع والاستغلال الغربي. تُحافظ المستعمرة الاستيطانية الصهيونية على استدامة المجمع الصناعي العسكري الغربي من خلال شراء الأسلحة من الغرب واستخدامها ضدّ الفلسطينيين ككائنات خاضعة للتجارب، في حين أن قمعها الشامل للتطلّعات السياسية بجميع أنحاء المنطقة يسمح للغرب بتشديد قبضته على اقتصادات المنطقة، وبالتالي على غازها ونفطها ومياهها وعمّالها.

لطالما حفّزت المصالح الاقتصادية دعم الغرب للمشروع الصهيوني منذ بداياته. فمن الأسباب الرئيسية التي دفعت المستعمرين البريطانيين إلى النكوص عن وعدهم باستقلال العرب عشية الحرب العالمية الأولى، وقيامهم بإصدار وعد بلفور – الذي مهّد الطريق للاستعمار الصهيوني لفلسطين – هو تجنّب مخاطر فقدان السيطرة على قناة السويس. 

الدعم الغربي يغذّي الإبادة

وبالمثل، ترسّخ دعم الولايات المتحدة الثابت للمستعمرة الاستيطانية الصهيونية في ستينيات القرن الماضي بهدف تعزيز الطموحات الاقتصادية والسياسية الأميركية بالمنطقة خلال الحرب الباردة. فقد أنهى الرئيس جون كينيدي حظر الأسلحة على النظام الصهيوني عام 1961، وربط المصالح الأمنية للمستعمرتين الاستيطانيتين ("إسرائيل" وأميركا)، وأنشأ "علاقتهما الخاصة". 

وبينما ظلّ دعم أميركا للنظام الصهيوني موضع شكّ لفترة وجيزة (في عام 1975، أدى رفض النظام الصهيوني الالتزام بشروط مبادرة أميركية لاتفاق فصل القوات بين مصر و"إسرائيل" إلى إعلان الولايات المتحدة تعليق الشحنات العسكرية حتى رضوخ "إسرائيل")، أصبح صعود أهمية "إسرائيل" ضمن المصالح الأميركية بالمنطقة حجر الزاوية لهويتها القومية، بل وسبب وجودها. 

وبحلول عام 1986، صرّح السيناتور الأميركي جو بايدن صراحةً: "لو لم تكن هناك "إسرائيل"، لكان علينا اختراع واحدة". وبعد سبعة وأربعين عاماً، كرّر، بصفته رئيساً للولايات المتحدة، الكلمات نفسها تماماً لرئيس النظام الصهيوني، إسحاق هرتسوغ، الذي رد قائلاً: "إنه لأمر مدهش". 

من الواضح أنه ليست هناك أيّ فظائع، ولا أدلة دامغة، ولا سند قانوني أو أخلاقي يمكن أن تُقنع قادة الغرب بتغيير مسارهم. المزيد من الصور واللقطات للأطفال المقتولين (كما لو أنّ 20 ألفاً منهم ليس بالقدر الكافي)، والمزيد من التصريحات العلنية من السياسيين الصهاينة عن نيّتهم ​​إبادة الفلسطينيين (كما لو أنّ تصريحات قادة الكيان الصهيوني في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وما رافقها من أفعال لم تكن كافية)؛ ودليل أوضح على أنّ الدعم العسكري والاقتصادي والدبلوماسي الغربي يُغذّي الإبادة الجماعية (كما لو أنّ ساسة الغرب لم يكونوا على دراية جيدة بها)، لن يُحدث تغييراً.

فلا الإبادة الجماعية، ولا التجويع، ولا التطهير العرقي، ولا الاحتلال، ولا إخضاع الشعب الفلسطيني لنظام فصل عنصري تعتبر ثمناً باهظاً لدى النخب الغربية؛ فالفوائد السياسية والاقتصادية التي يجنونها من المستعمرة الاستيطانية الصهيونية تفوق بكثير قيمة الحياة الفلسطينية لديهم.

رفع تكلفة دعم الإبادة الجماعية

يدعو الباحثان المناضلِينَ من أجل العدالة وتحرّر فلسطين أن ينتبهوا لهذا الواقع، إذ لن يكفي أبداً التركيز على إقناع الرأي العامّ بأنّ شعب فلسطين يستحقّ العدالة والتحرّر.

إنّ حملات أكثر فعّالية من أجل الفلسطينيين يجب أن تجعل تكلفة دعم النظام الصهيوني أكثر من فائدته. لهذا، وُجّهت أشدّ حملات القمع لحركة التضامن مع فلسطين في الغرب ضدّ منظمة "فلسطين أكشن" – المحظورة الآن كمنظمة إرهابية في خطوة غير مسبوقة من الحكومة البريطانية، ويواجه مؤيّدو المنظّمة عقوبات سجن قاسية بسببها – لأنها تمكّنت من حشد عدد كبير من الناس لتدمير العتاد العسكري وتهديد هوامش الربح التي تستديم الدعم الغربي للمستعمرة الاستيطانية الصهيونية.

وفي أماكن أخرى، قُمع أولئك الذين هزّوا أسوار المؤسسات النخبوية – جامعات ومستشفيات ووكالات الإعلام وشركات تكنولوجيا. فقد طردت مايكروسوفت مؤخراً عدة موظفين لاحتجاجهم على الاستخدام المباشر لتقنيتها لاستهداف الفلسطينيين، لينضمّوا بذلك إلى موظفين آخرين طُردوا سابقاً في هذا العام، ويُقال إنّ مايكروسوفت تعمل مع مكتب التحقيقات الفيدرالي لتعقّب محتجين آخرين.

تحجب الجامعات، خاصة الأميركية، شهادات التخرّج عن المتظاهرين، وتستدعي الشرطة لضرب طلابها واعتقالهم. كذلك، طُرد عاملون بمجال الرعاية الصحية، وأُوقفوا عن العمل، وخضعوا للتحقيق بسبب تعبيرهم عن تضامنهم مع الفلسطينيين، وكشفهم عن تواطؤ المؤسسات في جرائم النظام الصهيوني. استهدفت المؤسسات الإعلامية أولئك الذين كشفوا كيفية عملهم كامتداد للوبي الصهيوني، وقمعت تقارير تكشف مدى دعم المصالح السياسية والاقتصادية الغربية للصهيونية بشكل مباشر.

يلفت الباحثان إلى ارتباط هذا القمع واسع النطاق ارتباطاً مباشراً بتأثير جهود الاحتجاج المُزعزع على هياكل الإنتاج الاقتصادي والثقافي الإمبريالي التي تُعزّز دعم الغرب الثابت للمستعمرة الاستيطانية الصهيونية.

في منظومات القوة العالمية، تُطبّق القواعد نفسها – انتقاد النظام الصهيوني مسموح به طالما أنه لا يُشكّل أيّ تهديد ملموس لهياكل الإنتاج الاقتصادي والثقافي الإمبريالي التي تحافظ عليه. وكمثال توضيحي، كانت المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة، فرانشيسكا ألبانيز، صريحة في إدانتها لجرائم النظام الصهيوني منذ تعيينها في أيار/مايو 2022، ومع ذلك، اختارت الإدارة الأميركية فرض عقوبات عليها بعد نشرها تقريراً سمّى بعض أكبر الشركات التي تُعزّز المستعمرة الاستيطانية الصهيونية، ويؤكّد الدعوات لمقاطعة عالمية. 

يدعو الباحثان أولئك الذين يسعون إلى العدالة والتحرّر في فلسطين لأن ينظروا إلى ما وراء الشهادات والمؤتمرات والتقارير التي تُفسّر الفشل في التحرّك على أنه نقص في الوعي أو الفهم. بدلاً من ذلك، يجب تركيز الجهود على إحداث تعطيل ملموس في هياكل الإنتاج الاقتصادي والثقافي الصهيوني.

بل إنّ الحدّ الأدنى لتحقيق ذلك هو المقاطعة الفردية والجماعية للشركات ووكالات الإعلام وغيرها من المؤسسات التي تستفيد من المستعمرة الاستيطانية الصهيونية – ومنطقها الإبادي في إبادة الشعب الفلسطيني، وبالتالي تحافظ عليها. وكذلك، استراتيجيات تصعيدية متعدّدة وأشكال مختلفة من العمل المباشر تتجاوز المقاطعة. ولهذا الغرض، يجب أن يكون هناك ما يكفي من الاستعداد لدفع ثمن في النضال من أجل تحرّرنا الجماعي.