الجبهة الداخلية الإسرائيلية في مواجهة الصبر الإيراني

بينما يستطيع الإيرانيون الصمود لأسابيع بل لأشهر في مواجهة القصف، فإن "إسرائيل" تحتاج إلى حسم الحرب خلال أيام أو أسابيع قليلة، وإلا فقد تنقلب الحرب من ضربة استراتيجية إلى نزيف داخلي طويل.

0:00
  • بينما يستطيع الإيرانيون الصمود لأسابيع فإن
    بينما يستطيع الإيرانيون الصمود لأسابيع فإن "إسرائيل" تحتاج لحسم الحرب خلال أيام.

شنّت "إسرائيل" ضربة استباقية مركّبة على إيران، استهدفت بها بعضاً من منشآتها النووية، ومخازن الصواريخ البالستية، ومراكز القيادة الجوية، ونفَّذت اغتيالات دقيقة ضد كبار القادة في الجيش والحرس الثوري الإيراني والعلماء الإيرانيين. في المرحلة الأولى، يبدو التفوق الإسرائيلي واضحًا: انهيار دفاعات جوية، وارتباك في منظومة الرد الإيراني، وتعطيل واسع لمنشآت عسكرية. لكن سرعان ما تنقلب المعادلة.

تنطلق موجات صاروخية إيرانية من قواعد متعددة، بعضها من عمق الأراضي الإيرانية، وبعضها من مواقع سرّية نجت من الضربة. ورغم التفوق التكنولوجي لمنظومات "القبة الحديدية" و"حيتس" و"مقلاع داوود"، تسقط صواريخ ثقيلة داخل العمق الإسرائيلي، تُدمَّر مباني بالكامل في تل أبيب، وحيفا، ومواقع عسكرية في النقب، وتسقط عشرات القتلى والمصابين في كل موجة، وسط صمت تفرضه الرقابة العسكرية الإسرائيلية، ولكن مع صور تتسرب عبر السوشل ميديا تبرز آثار الدمار الهائل لتلك الصواريخ. 

تتعطل الحياة المدنية: المدارس مغلقة، المطارات متوقفة، شبكات المواصلات مشلولة، والشارع الإسرائيلي يعيش في الملاجئ أو على أعتابها. وفي هذا المشهد، تبرز أسئلة حاسمة تتجاوز ميدان المعركة:

هل تستطيع "إسرائيل" فعليًا تدمير البنية النووية والصاروخية الإيرانية بمفردها؟

وإن استطاعت، فكم من الوقت تحتاج؟ وهل الوقت يعمل لمصلحتها أصلًا؟

والأهم: إلى أي مدى يمكن للجبهة الداخلية الإسرائيلية أن تتحمل واقعًا يوميًا من الصواريخ، والقتلى، والدمار، والانهيار الاقتصادي؟

وهل يمكن لمجتمع يعيش في أجواء فقدان الثقة بحكومته، ومرهق من حرب مستمرة في غزة، أن يصمد أمام حرب استنزاف نفسية واقتصادية وصاروخية تدار في عقر بيته؟

الخطة الإسرائيلية انطلقت من فرضيات ثلاث:

1. ضربة أولى مدمّرة ومباغتة تُحدث فوضى في القيادة الإيرانية، وتعطّل مراكز السيطرة على الدفاعات الجوية وإطلاق الصواريخ، تقلل من  استخدام إيران سلاحها الصاروخي، مع بقائها من دون غطاء جوي أمام الطائرات الإسرائيلية.

2. تنسيق دفاعي مع واشنطن وحلفائها لتفعيل شبكة إقليمية لاعتراض الصواريخ قبل وصولها إلى الأجواء الإسرائيلية، لمساعدة المنظومات الدفاعية الإسرائيلية على اعتراض ما تبقى من تلك الصواريخ. 

3. تصعيد الهجوم الإسرائيلي نحو منشآت مدنية إيرانية (محطات الكهرباء، والموانئ، وحقول النفط، والمواطنون)، بغية خلق ضغط داخلي قد يُمهّد لتغيير النظام، والأهم إنهاء زمن المعركة بأسرع وقت ممكن.

الدور الأميركي: دعم بلا اندفاع وهروب من المواجهة المباشرة

رغم التصريحات العلنية للرئيس الأميركي دونالد ترامب بأن الولايات المتحدة "شريك استراتيجي في العملية الإسرائيلية"، فإن الوقائع الميدانية توضح بجلاء أن واشنطن لا ترغب بالتورط العسكري المباشر ضد إيران. فالدور الأميركي حتى الآن اقتصر على الدعم الاستخباري واللوجستي والدفاعي، من خلال تشغيل منظومات الدفاع الصاروخي المشتركة في الخليج والبحر الأحمر، وتوفير الحماية للقواعد الأميركية في العراق وقطر.

لكن مع تزايد وتيرة الهجمات الصاروخية الإيرانية على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وظهور معدلات الدمار والقتل في ريشون لتسيون ورمات غان وحيفا، بدأت الأصوات داخل "إسرائيل" – سياسيًا وأمنيًا – تطالب بتدخل عسكري أميركي مباشر لإنهاء التهديد الإيراني بسرعة، عبر توجيه ضربات واسعة على البرنامج النووي الإيراني، من أجل إنهاء الحرب بتحقيق أهدافها.

مع ذلك، تُظهر إدارة ترامب حتى الآن تمسكًا بالسقف السياسي للعملية، متمثّلًا في استخدام القوة الإسرائيلية كأداة ضغط على طهران لدفعها إلى اتفاق نووي جديد، أكثر صرامة من الاتفاق السابق، ويمنعها بشكل قاطع من تخصيب اليورانيوم على أراضيها أو تطوير أجهزة طرد مركزي متقدمة.

بعبارة أخرى، الولايات المتحدة ترى في التصعيد العسكري وسيلة لتحقيق غاية دبلوماسية، بينما تجد "إسرائيل" نفسها محاصَرة في معركة استنزاف مباشرة على جبهتها الداخلية، تنتظر من واشنطن تحوّلًا لم يحدث بعد: الانتقال من الشريك الداعم إلى الفاعل القتالي المباشر.

وفي الخلفية، تلعب الولايات المتحدة الأميركية تحت قيادة دونالد ترامب دوراً مزدوجاً: عدم التدخل عسكريًا في البداية لإبقاء باب السياسة مفتوحًا، ثم الدخول كوسيط لإنهاء الحرب في حال تورط "إسرائيل" بحرب تستنزفها، أو كطرف في اتفاق نووي مشدد تجاه المشروع النووي الإيراني في حال قبلت إيران العودة إلى التفاوض. 

لكن هذا التصور، رغم دقته العسكرية، يحمل ثغرة قاتلة مزدوجة:

1. الجانب الإيراني يتمتع بقدرة صمود واستعداد حضاري وإيديولوجي لخوض حرب طويلة، خاصة عندما يرتبط الصراع بهوية الأمة وكرامتها. القيادة والشعب في إيران اعتادا عقودًا من الحصار والضغط، ويملكان أعصابًا طويلة ومجتمعًا متماسكًا في أوقات الشدة، وليس التاريخ والحضارة فقط لمصلحتهم، بل أيضاً الجغرافيا التي استفاد الجيش الإيراني منها في توزيع منشآته العسكرية ومخازن ومنصات صواريخه، بشكل يجعل من الصعب على "إسرائيل" تدميرها في هجوم واحد أو على مدار أشهر من الهجمات المتتالية، على فرضية الادعاء الإسرائيلي أنها شلّت الدفاعات الجوية الإيرانية.

2. أما الجبهة الداخلية الإسرائيلية، فهي نقطة الضعف الأخطر في المنظومة العسكرية الإسرائيلية: مجتمع غربي استيطاني هش، ذو نمط حياة عالي الحساسية للخسائر، منهك من أزمات سياسية متراكمة، ويعيش تحت شعور متزايد بانعدام الثقة بقيادته.

فبينما يستطيع الإيرانيون الصمود لأسابيع بل أشهر في مواجهة القصف، فإن "إسرائيل" تحتاج لحسم الحرب خلال أيام أو أسابيع قليلة، وإلا فقد تنقلب الحرب من ضربة استراتيجية إلى نزيف داخلي طويل المدى قد يُهدد البنية المجتمعية والسياسية للدولة نفسها.

المعركة ليست فقط عسكرية، من يملك أعصاب الصبر؟ في النهاية، لا يكمن الحسم في القوة النارية فقط، بل إنها أيضًا معركة نفس طويل، وصبر استراتيجي، وقدرة على الاحتمال الجماعي للمواجهة الطويلة. إيران دولة جذرها مغروس عميقاً في التاريخ، وشعبها يملك القدرة على الصبر حتى بات الصبر الإيراني مضرباً للمثل، أما "إسرائيل" فمشروع استعماري لقيط لا يزال مشتكّكاً في قدرته على البقاء، رغم كل ما يحاول أن يروّجه من قوة عسكرية، فما بدأ كضربة استباقية خاطفة، قد يتحوّل إلى استنزاف إسرائيلي استراتيجي لا يمكن تحمّله.

"إسرائيل" تشن عدواناً على الجمهورية الإسلامية في إيران فجر الجمعة 13 حزيران/يونيو يستهدف منشآت نووية وقادة عسكريين، إيران ترد بإطلاق مئات المسيرات والصواريخ التي تستهدف مطارات الاحتلال ومنشآته العسكرية.