الحرب على غزة.. من فجرِ شرم الشيخ إلى امتحانِ ما بعد الصمود

لم تكن مجرّد مواجهة عسكرية؛ كانت امتحاناً لإرادة شعب بأكمله. وعلى امتداد عامين من الدم والنار، أثبتت فصائل المقاومة أنها ليست جموع مقاتلين متفرّقين، بل هي جيش منظّم بالعزم والإيمان.

0:00
  • مبروكٌ لا يُلغِي الحذر.
    مبروكٌ لا يُلغِي الحذر.

كأنّ غزة تخرج من ليل حالك لتلمح فجراً متردّد الضوء؛ اتفاقٌ في شرم الشيخ يضع حدّاً للعدوان، يفتح أبواب تبادل الأسرى والجثامين، ويعيد شريان المساعدات إلى جسد أُنهك عامين كاملين تحت نيران حرب إبادة.

لحظةٌ نادرة يستحقّ فيها الفلسطيني أن يتنفّس الحرية، ويستحقّ فيها العرب أن يبتسموا بعد طول بكاء، فهي ثمرة جهدٍ دبلوماسي مضنٍ، ونافذة أملٍ في جدار الدم. فرحةٌ تعيد إلينا إنسانيتنا، وتذكّرنا أنّ الدم يمكن أن يتوقّف، ولو إلى حين.

 عامان يشبهان قرناً

خلال عامين من حرب الإبادة انهارت أحياءٌ بأكملها، وتفاقمت المجاعة والأوبئة، ووثّقت الأمم المتحدة عشرات الآلاف من الضحايا وموجات نزوح كارثية، مع تقديرات صادمة لسوء التغذية الحادّ بين الأطفال.

إنه صمودٌ ضدّ الفناء: أناسٌ يصنعون الحياة تحت الركام. هذه الخلفية الأخلاقية والإنسانية هي التي تمنح أيّ اتفاقٍ قيمته ومعناه. 

 من التكتيك إلى السياسة

لم تكن مجرّد مواجهة عسكرية؛ كانت امتحاناً لإرادة شعب بأكمله. وعلى امتداد عامين من الدم والنار، أثبتت فصائل المقاومة أنها ليست جموع مقاتلين متفرّقين، بل هي جيش منظّم بالعزم والإيمان، استطاع أن يفرض معادلاته رغم تفوّق العدو الصهيوني في الجو والتكنولوجيا.

بنيرانٍ لم تنطفئ، وبمناورات أربكت قادة الأركان في "تل أبيب"، وبأنفاقٍ تحوّلت إلى شرايين حياة في قلب الأرض المحاصرة، حافظت المقاومة على زمام المبادرة حتى اللحظة الأخيرة.

لكنّ البطولة لم تتوقّف عند حدود الميدان؛ ففي الساعات الحاسمة، ارتقت المقاومة إلى مستوى السياسة الواعية: قدّمت قوائم الأسرى، قبلت بمرحلة أولى مشروطة بآليات تنفيذ دقيقة وجدول زمني واضح، وأدارت التفاوض بعقلٍ بارد لا يقلّ صلابة عن البندقية. ولم تكن حماس وحدها في هذا الميدان، بل تشارك القرار مع رفقاء الدرب: الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، في صورة تجسّد وحدة الدم والمصير.

إنه التناغم النادر بين البندقية والقرار؛ تناغم جعل الحرب باهظة الثمن على العدو، وأجبره على الانصياع إلى مسار تفاوضي لم يكن يوماً خيارَه الأول. ومن هذه اللحظة، انفتحت كُوّة صغيرة في جدار الحصار، تُذكّر العالم أنّ غزة لا تملك سوى أن تصمد… لكنها حين تصمد، تُغيّر المعادلات.

خطوةٌ أولى.. وجمرٌ تحت الرماد

غير أنّ قارئ التاريخ يعرف أنّ ما تحقّق في شرم الشيخ لم يكن إلا السهل الممتنع؛ فترامب يتعجّل مجد نوبل، ونتنياهو يبحث عن ورقة إنقاذ سياسي، فيما تظلّ النار كامنة تحت الرماد. التحدّيات الحقيقية تبدأ الآن:

1- انسحابٌ كاملٌ، كيف ومتى وبأيّ عيونٍ تراقب؟

2- سلاحُ المقاومة، أهو ضبطٌ أم نزعٌ أم معركة مفتوحة؟

3- إدارة القطاع، أيّ سلطةٍ ولمن تُمنح الشرعية؟

4- إعادة إعمار، أهي جسر للحياة أم حصارٌ مُعادٍ بصيغة جديدة؟

وأخيراً: أين يُرسَم موقع غزة في خريطة دولةٍ فلسطينية يعترف بها العالم ولا يعترف بها الاحتلال؟

هذه هي الأسئلة الحاسمة، وهي التي ستُحدّد: أهو فجرُ سلامٍ يتلمّس الطريق، أم استراحة محارب قبل جولة أشدّ هولاً؟

من وسيط إلى فاعل وضامن 

تستحقّ القاهرة وقفة تقدير. ففي "الليلة الكبيرة" لشرم الشيخ، على أرض سيناء التي عرفت طعم الحرب والسلام معاً، فتحت مصر ذراعيها لاستقبال المتخاصمين، وأمّنت وفود المقاومة على بُعد أميال من دبابات العدو. لم تكن هذه المرة مجرّد وسيطٍ يدوّن ما يُقال، بل كانت شريكاً يضغط ويصوغ ويضمن.

بدا واضحاً أنّ مصر لم تكن تدافع عن غزة وحسب، بل عن أمنها القومي ومكانتها ودورها في قلب هذا الإقليم المشتعل. إنها لحظة تعيد لمصر صورة الفاعل الذي لا تُعقد التسويات من دونه ولا تُحسم المعارك خارجه.

شرطان لا بديل عنهما

ولكي لا يبقى ما جرى في شرم الشيخ مجرّد فاصلة عابرة، لا بدّ من شرطين جوهريين يفتحان الطريق أمام التنفيذ.

أولاً: ضغط عربي منسّق. ما لم تتحوّل القاهرة والدوحة وأنقرة إلى جبهة واحدة، وينضمّ إليها ثقل الرياض، سيجد نتنياهو ألف ثغرة للالتفاف. لا بدّ من منظومة ضغط عربية تُحاصر المراوغة وتجعل كلّ خطوة مشروطة بخطوة.

ثانياً: مصالحة فلسطينية عاجلة. فلا اتفاق بلا بيت فلسطيني موحّد. حان وقت تفعيل منظمة التحرير، وتجديد السلطة، وتوحيد القيادة، ووصل ما انقطع بين البندقية والقرار. هنا ليست المسألة تفصيلاً إدارياً، بل هي خيار وجودي: إما مصالحة تُحصّن الاتفاق، أو انقسام يبدّده قبل أن يجفّ الحبر.

حتى لا نعود إلى المربّع الأوّل

الطريق إلى تثبيت الاتفاق ليس رفاهية في التفاصيل، بل منظومة متكاملة من الضمانات. فكلّ خطوة لا بدّ أن تُقابل بخطوة: إطلاقٌ يقابله إطلاق، وانسحابٌ يتوازى مع انسحاب، ومساعداتٌ تُقاس بوضوح لا بوعود مطاطة. وإلى جانب ذلك، لا بدّ من رقابة وضمانات دولية حاسمة، تفصل في الخلافات خلال ساعات لا أسابيع.

أما إعادة الإعمار، فلا يجوز أن تكون مجرّد لافتة إنسانية، بل تمويلٌ مؤسَّس ومشروط بسلامة التنفيذ، يحول دون إعادة إنتاج الحصار بوسائل جديدة. ويبقى الجوهر سياسياً: مسارٌ نهائي يُعيد توحيد الأرض والشعب ويُثبّت حقوق الفلسطينيين غير القابلة للتصرّف.

هذه ليست بنوداً فنية هامشية، بل صمّامات أمان لاتفاق قابل للحياة. فالتقارير الأممية المتكرّرة عن الكارثة الإنسانية في غزة تقول بوضوح: إنّ أيّ اتفاق بلا مؤشرات التزام قابلة للقياس، لن يكون أكثر من شعار عابر في زمن الدم.

مبروكٌ لا يُلغِي الحذر

نقول "مبروك" بصدق، لأنّ لحظة وقف الدماء تستحقّ الاحتفاء. لكننا نقولها ونحن نفتح أعيننا على الغد: فالعدو بارع في الغدر، والراعي الأميركي يجيد صناعة الخطوات الناقصة التي تُبقي الأبواب نصف مفتوحة. ومن لم يتعلّم من لدغات الأمس، سيُلدغ اليوم بلا دواء.

إنها لحظة فرح ممزوج باليقظة. المطلوب ضغطٌ عربي لا يعرف التوقّف، ومصالحة فلسطينية لا تحتمل التأجيل. عندها فقط تتحوّل "مبروك" من كلمة تُقال على استراحة عابرة، إلى عهدٍ جديد يُكتب بمداد الدم والصمود: مبروك المستقبل، لا فاصلة بين حربين.