الغرب والهويّات المصطنعة والإبادة في غزة؟

ظلّت مسألة التواطؤ الغربي، أو بالأحرى المشاركة بحماسة شاملة في الإبادة الجماعية التي ترتكبها "إسرائيل" في غزة لغزاً كبيراً حيّر الناس وعذّبهم شهوراً، ثم بدأ يخبو ويحدث تطبيع بين الرأي العام والإبادة،

  • لماذا يحدث هذا؟
    لماذا يحدث هذا؟

غطّت الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني في قطاع غزة 15 شهراً ولا تزال مستمرة. إبادة استهدفت المدنيين بأكثر من 3 آلاف مجزرة، وتجاوز ضحاياها 150 ألف شهيد ومفقود وجريح، وأحالت المستشفيات مقابر جماعية وأبادت طواقمها ونزلاءها، واعتقلت الآلاف وقتلت بعضهم تعذيباً، ودمّرت المنازل والمدارس والمرافق وآبار المياه، وقصفت المئات من مراكز الإيواء، وأحرقت خيام النازحين بقاطنيها ودنّست المقابر!

لكن، استمرّ إنكار بايدن وإدارته والغرب الجماعي لواقع هذه الإبادة الدائرة ويتواصل عدم استنكارهم لذبح المدنيين أطفالاً ونساءً وشيوخاً يومياً، ممّا يفضح قبولهم الكامل بالإبادة سبيلاً واقعياً معقولاً لاستدامة وتمدّد الكيان الصهيوني!

و ليتوقّف الناس عند السؤال: لماذا يحدث هذا؟ عندما تتكرّر الأشياء أكثر من عدد معيّن من المرّات. عندما يحدث شيء ما مراراً وتكراراً، أو لفترة طويلة، فإنه يصبح مجرّد جزء آخر من الواقع، مهما بدا فظيعاً في البداية.

يقول الكاتب الإسرائيلي المختصّ بدراسة قضايا الاستعمار، ألون مزراحي، إنّ السرد التاريخي العميق والفخّ النفسي وراء عقلية العبودية لـ "إسرائيل" في الغرب.

باتت هناك وحدة بين مرتكبي الإبادة الجماعية الإسرائيليين المباشرين والمختلّين ومعظم الغرب كحقيقة من حقائق الواقع. إنّ فهم هذه الظاهرة أمر بالغ الأهمية بالنسبة للنضال ضدّ الاستعمار. كما يُلاحَظ أنه رغم عدم التعبير عنها علانيّة بقدر ما كانت عليه في وقت سابق من الإبادة الجماعية، فإنّ استعداد القوى الغربية اللامحدود لخدمة "إسرائيل" لا يزال يبقي الناس في حيرة وجودية.

هناك قضايا معرّفة جيداً مثل النزعة الاستعمارية المشتركة، تفوّق العرق الأبيض، الشعور بالذنب تجاه الهولوكوست، وجماعات الضغط اليهودية. وهي عوامل قوية وهامّة لدعم الغرب لـ "إسرائيل"، لكنها لا تقدّم إجابة كاملة. لا يمكن تفسير التماهي مع الإبادة الذي أظهره قادة الغرب خلال 15 شهراً بالإكراه والابتزاز العاطفي، والتقارب الأيديولوجي العامّ.

تتكبّد دول الغرب ضرراً حقيقياً وتتشوّه سمعتها نتيجة دعمها العلني القتل الجماعي لبشر أبرياء. تواصل دعم الإبادة، رغم الغضب والانتقادات الحادة، وفي تحدٍ للمشاعر الإنسانية، لا يفسّره خوف من خسارة انتخابات تمهيدية، أو رغبة جارفة في رؤية إمبراطورية بيضاء تهيمن على الكوكب بأكمله.

هناك ما هو أعمق من ذلك كلّه، يتعلّق بأعمق شعور بالهوية بين نخب ومؤسسات الاجتماع الغربي. هناك شيء تخشاه المؤسسات الغربية أكثر من التورّط في القتل الجماعي للأطفال، الذي يعرفون أنّ العالم كلّه يتابعه على الهواء.

فما هو الذي يخشونه كثيراً؟ 

إنهم يخشون الكشف عن هويّتهم الحقيقية، يخشون ضوء الحقيقة الحارق، الحقيقة الكامنة وراء هذا الخوف المحموم تفضي إلى الهوية والسرديات الأساسية وراء التاريخ والتأريخ. سنجد إجابات في السرد الذاتي اليهودي، وكيف يعتقد اليهود جماعياً ولاهوتياً وشعبياً مستبطناً أنهم نشأوا، وما يمثّلونه، وما يوازي ذلك في سرديّات أميركا التأسيسية.

هناك نقطة محدّدة في الكتاب المقدّس (العهد القديم) تبدأ عندها قصة اليهود (الذات)، وما يوازيها في الغرب. تتعلّق هذه النقطة بالاستعمار الغربي الذي يعتمد بشكل كبير على تصوّره عن المسيحية والكتاب المقدّس لتصوّر ما كان يفعله عندما صادف أميركا، واستعمرها، وأباد كلّ المناهضين لاستعماره تقريباً.

لقد رأى المستوطنون الأوروبيون في أميركا أنفسهم كشعب الله المختار، لكن كيف رأى الإسرائيليون أنفسهم، وكيف تصوّروا تاريخهم الخاصّ؟

في سفر التكوين، الإصحاح 12، تبدأ قصّة العبرانيين في الكتاب المقدّس (العبري). في الإصحاحات الأحد عشر السابقة، يخبر الكتاب المقدّس قرّاءه كيف خُلِق العالم، وقصة طوفان نوح، وأشياء أخرى عن العائلات القديمة وشعب عالم الله. بعد وصف صعود وسقوط برج بابل في الفصل السابق، وتقديم شخصية أبراهام، يفعل الإصحاح 12 شيئاً جديداً: يخبر القرّاء عن الارتباط الخاصّ والحميم والدائم الذي سيصبح عمّا قريب عهداً بين الله وأبراهام:

1- وَقَالَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ: اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ.

2- فَأَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ، وَتَكُونَ بَرَكَةً.

3- وَأُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ، وَألعن لاَعِنَكَ. وَتَتَبَارَكُ بِكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ.

4- فَذَهَبَ أَبْرَامُ كَمَا قَالَ لَهُ الرَّبُّ وَذَهَبَ مَعَهُ لُوطٌ. وَكَانَ أَبْرَامُ ابْنَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً لَمَّا خَرَجَ مِنْ حَارَانَ.

5- فَأَخَذَ أَبْرَامُ سَارَايَ امْرَأَتَهُ، وَلُوطًا ابْنَ أَخِيهِ، وَكُلَّ مُقْتَنَيَاتِهِمَا الَّتِي اقْتَنَيَا وَالنُّفُوسَ الَّتِي امْتَلَكَا فِي حَارَانَ. وَخَرَجُوا لِيَذْهَبُوا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ. فَأَتَوْا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ.

هذه هي اللحظة التي خُلِقَت فيها أمّة العبرانيّين، والتي يزعم اليهود أنهم من نسلهم المباشر.

ما الذي يمكننا أن نتعلّمه من هذه السطور الواردة أعلاه؟

العبرانيون لم ينشأوا في كنعان. ولم يكن أصلهم في حاران (تركيا الحالية، قرب حدود سوريا) أيضاً، كما يخبرنا الإصحاح 11:

"وأخذ تارح أبرام ابنه، ولوطاً بن هاران، ابن ابنه، وساراي كنّته امرأة أبرام ابنه، فخرجوا معاً من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان. فأتوا إلى حاران وأقاموا هناك".

تقع أور الكلدانيين في تل المقيّر جنوب العراق. إذاً أبراهام أخذه والده من العراق إلى تركيا، وهناك أمر الله أبراهام بالذهاب إلى كنعان، والتي أصبحت تُعرف بالأرض الموعودة.

المفارقة التاريخية التي تفيدها هذه الصورة الصغيرة من الكتاب المقدّس أنه، تماماً كما المرّة الثانية ـــــ حالياً ـــــ التي حاول فيها أحفاد العبرانيّين المزعومين ذلك، فإنّ المرة الأولى التي استعمر فيها العبرانيون فلسطين لم تكن لهم، ولم يكن لديهم أيّ حقّ تاريخيّ فيها، ولم يكونوا من أهلها الأصليين. لقد غزوا ونهبوا وقتلوا لأنهم اعتقدوا أنّ الله أمرهم بذلك. ومثل المرّة الثانية الحالية، وُصِف أهل كنعان الأصليون بمخلوقات شريرة وشيطانية، بينما كانوا يحاولون الدفاع عن أنفسهم ضدّ جماعة غازية.

هذا في حدّ ذاته يستحقّ بعض التوقّف.

لقد تعامل المؤرّخون مع هذه الحقيقة باعتبارها حقيقة ثابتة، وتمّ توثيقها جيداً في عدد كبير من الكتب والمقالات. والإشارة هنا إلى حقيقة أخرى شهيرة: اعتبر المستوطنون الأوروبيون الأوائل في أميركا أنفسهم من بني إسرائيل الجدد، واعتقدوا أنّ أميركا هي الأرض الموعودة التي أعطيت لهم كجزء من العهد مع الله.

هذه ليست حكاية أو ملاحظة عابرة! لقد كان هذا الاعتقاد حاسماً وفعّالاً في عملية الاستعمار وكان في صميم النفسية والعقلية الاستعمارية. لقد تحدّثوا وكتبوا عنه بلا نهاية.

بحسب ويكيبيديا، كان العديد من المستعمرين الأوروبيين يرون أميركا بمثابة "الأرض الموعودة"، وتمثّل ملاذاً من الصراعات الدينية والاضطهاد. ففي عام 1630، ألقى القسّ البيوريتاني جون كوتون عظة حول "وعد الله بإعطاء مزارع للمستعمرين القادمين من إنكلترا إلى ماساتشوستس"، تكرّرت فيها الإشارة إلى قصة خروج بني إسرائيل، ولاحقاً غنّى مهاجرون ألمان: "أميركا.. أرض جميلة وعد الله بها أبراهام".

في خطبة الاحتفال بالاستقلال عام 1783، أشار رئيس جامعة ييل عزرا ستايلز إلى أنّ الأميركيّين قد تمّ اختيارهم وتحريرهم من العبودية إلى أرض الميعاد: سيجعل الرب إسرائيل الأميركية "مرتفعة فوق كلّ الأمم التي خلقها"، وهو ما يعكس لغة سفر التثنية (في العهد القديم) حول الوعد الإلهي.

وقد أورد ستيفن نيوكومب في كتابه: "الوثنيون في أرض الميعاد: فكّ شفرة عقيدة الاكتشاف المسيحية" (2008)، أنّ عقيدة الاكتشاف المسيحية كانت أيضاً تزعم "الحقّ في قتل ونهب غير المسيحيين"، وهو الحقّ الموجود في تقليد العهد مع الربّ (ميثاق بني إسرائيل)، حيث أخبر "الرب" في سفر التثنية "شعبه المختار" كيف يجب عليهم "تدمير الأمم العديدة التي أمامك تماماً" عندما أحضَرَهم إلى الأرض التي اكتشفها ووعد شعبه المختار بـ "امتلاكها"! لقد تمّ نسج هذا "الحقّ" في القانون الأميركي من خلال حكم المحكمة العليا في قضية "جونسون ضدّ ماكنتوش" عام 1823.