تجاهل الإبادة في الأدب والفن العربي

أين المثقف العضوي الملتزم بقضايا أمته، الساعي نحو التأثير والتغيير للأفضل؟ أين الدراما والسينما العربية من الإبادة في غزة؟ أين الأدب من دم الأطفال في لبنان أيضاً؟

0:00
  • أين من قال لا في وجه من قال نعم؟ 
    أين من قال لا في وجه من قال نعم؟ 

عمدت السينما والدراما العالمية، خصوصاً هوليوود، إلى صناعة وعي ومنظومة سلوكيات تتحكم من خلالها الرأسمالية العالمية وأتباعها بمصير الشعوب والأمم، من خلال إظهار بطولات الأميركي وحلفائه، وعملياته الاستخبارية وحروبه لأجل الخير والدفاع عن الأبرياء، بينما على النقيض يصير العدو شيطاناً ومجرماً، لدرجة أن تلك السينما شيطنت أنواع سلاح بعينه، الكلاشنكوف مثلاً، بينما جعلت أسلحتها مثل M16 وT4 وغيرها من الأسلحة بيد الأبطال المخلصين لأوطانهم، المحاربين الشجعان الذين يحضنون حبيباتهم في نهاية الفيلم أو المسلسل، في حين أن الآخر عدو للمرأة ومتعجرف، صلف وسلوكه غير منضبط. كذلك ذهبت الأعمال الروائية إلى تعزيز ذلك الدور من خلال توجيه الوعي العالمي لتقليد رجل الكاوبوي الأميركي؛ مثل رواية ""1948 و"كوخ العم توم" و"نادي القتال" و"العقل المدبر" التي ساهمت في إنشاء وكالة حماية البيئة وحظر بعض المواد الكيميائية الضارة. 

لذلك، شرعت الدراما والسينما العربية بداية الحروب مع الاحتلال الإسرائيلي في إظهار طبيعة الصراع ومدى وحشية الجنود المدججين بالحقد وسلوكهم الإجرامي بحق الأسرى كما في أفلام "أرض السلام" و"الرصاصة ما تزال في جيبي" و"الوفاء العظيم"، وصارت تزرع في وعي المواطن العربي مدى أهمية الحروب الاستخبارية ضد الاحتلال من خلال العديد من الأفلام والمسلسلات التي تم إنتاجها مثل مسلسل "رأفت الهجان" و"دموع في عيون وقحة" إلى "حرب الجواسيس" و"السقوط في بئر السبع"، والعديد من الأفلام مثل "مهمة في تل أبيب" و"إعدام ميت" و"الطريق إلى إيلات" وغيرها من الأفلام مما لا يمكن حصره. في المقابل، برز الأدب المقاوم وتعزيز الهوية والانتماء إلى القومية العربية، التي حملها "اتحاد الكتّاب العرب" وكذلك "اتحاد الكتّاب والأدباء الفلسطينيين" على عاتقيهما، وكان ثمن ذلك الاعتقال والاغتيال لكثير من الأدباء والفنانين. 

لكن، خلال العقد الماضي، انحسرت الأعمال الأدبية والفنية التي تناقش القضية الجوهرية للأمة العربية والإسلامية، المتمثلة في القضية الفلسطينية، للخوض في قضايا الحياة اليومية للمواطن العربي، إذ تم إلهاؤه بجدليات هامشية في سبيل نسيان الواقع المزري الذي يعيشه إخوة اللغة والعِرق والتاريخ والدين والهوية، كما تم التركيز بشكل كبير على الدراما والسينما التي تناقش الثورات وأسبابها وتداعياتها بشكل يروق للمنتج أو الجهة التي ترعى تلك الأعمال، لأجل خلط الحابل بالنابل، وصولاً إلى مرحلة مؤلمة من تاريخ الفن العربي، حيث بدأ كثير من المنتجين يذهبون إلى إنتاج أعمال تدعو إلى التطبيع مع الاحتلال وتجاهل مظلومية الفلسطيني، في أعمال أثارت الجدل لأنها حاولت إظهار جانب أخلاقي لهذا الاحتلال الإحلالي أو شيطنة الفلسطيني مثل المسلسل الخليجي "أم هارون" الذي قامت بإنتاجه قناة MBC عام 2020، ويتناول قصة طبيبة يهودية عاشت في الخليج وجانبها الإنساني، في محاولة لتدجين الوعي والروح العربية من أن اليهود إخوة وأصدقاء يمكن التطبيع معهم في أي وقت، علماً أن القناة ذاتها هي التي أعدّت جملة تقارير تسعى لتشويه صورة المقاومتين الفلسطينية واللبنانية خلال الإبادة وتحقير قادة محور المقاومة مثل سماحة السيد حسن نصر الله والشهيد القائد يحيى السنوار.

بالإضافة إلى مسلسل "حارة اليهود"، الذي أنتج عام 2015، ويتناول حارة اليهود المصريين بعد عام 1948 حيث يظهر اليهود بصورة إيجابية، رغم نقده للحركة الصهيونية، كذلك مسلسل "الطوفان" و"غرابيب سود" الذي لمّح إلى أن "دولة" الاحتلال ليست العدو المباشر للعرب، وفيلم "الملاك والمنشق" وغيرهما الكثير، بالإضافة إلى بعض الأفلام الوثائقية والمقابلات التي أجرتها وسائل إعلام عربية مع شخصيات إسرائيلية أثارت انتقادات واسعة لسماحها بإعطاء مساحة كبيرة للبروباغندا الصهيونية. وفي عالم الورق، فقد ذهبت العديد من الروايات إلى مدح الإسرائيلي في بعض أو كثير من المواقف، من دون أن توضح سبب الاضطهاد أو القهر الذي تسبب فيه الإسرائيلي نفسه، مثل رواية "السيدة من تل أبيب" و"مصائر" لربعي المدهون، وكذلك رواية "المترجم" وأعمال أدبية أخرى هاجمت المقاومة، إذ يسعى الأدباء والمنتجون والفنانون لنيل رضى الأميركي والاستعمار النيوليبرالي من أجل الحصول على جائزة هنا أو المشاركة في فيلم عالمي هناك. 

واليوم، أمام مشاهد الدم، والإبادة التي يتعرض لها الفلسطيني في قطاع غزة منذ أكثر من خمسة عشر شهراً، تجاهل الأدب والسينما والفن والمسرح العربي سيل الدم المتدفق، في سبيل عرض قضايا هامشية، فالمهم هو إشغال العقل العربي بما يجنّبه الخوض أو الحديث عن احتلال "إسرائيل" مزيداً من الأراضي الفلسطينية واللبنانية والسورية، الأمر الذي يعبّر عن إشكالية الهوية والانتماء لدى النظم الشمولية وأقطاب المؤسسات العربية الكبيرة، تحديداً الخليجية، لدرجة أن الإعلان عن جائزة بوكر الرواية العربية لهذا العام، وتحديداً القائمة الطويلة التي تتضمن ستة عشر اسماً، جاءت خالية من أي اسم فلسطيني أو اسم عربي يتحدث عمله الروائي عن فلسطين، كمحاولة للانقلاب على القضية الأساس، من خلال التجاهل التام والمقصود..

وهو ما عبّرت عنه الصحفية الإسرائيلية سمدار بيري التي أعربت عن سعادتها مؤخراً بعدما اطلعت على مضمون سبعة وثلاثين عملاً يعرض في رمضان، فلم تجد أياً منها يتحدث عن فلسطين أو لبنان والإبادة الجارية حتى لحظة كتابة هذا المقال، لتعلن فرحتها على السوشيال ميديا، وهي المعروفة بقربها من الزعماء العرب. 

والسؤال الجوهري هنا: أين المثقف العضوي الملتزم بقضايا أمته، الساعي نحو التأثير والتغيير للأفضل؟ أين الدراما والسينما العربية من الإبادة في غزة؟ أين الأدب من دم الأطفال في لبنان أيضاً؟ أين مسرح التسييس الذي يرفض الخنوع ويحاول الصراخ في وجه الأنظمة؟ أين من قال لا في وجه من قال نعم؟ 

إن الأمة بحاجة إلى مثقف وأديب وفنان ومسرحي عضوي يدفع عمره ثمناً لقضاياه العادلة مثل فتحي الشقاقي الذي قال إن المثقف هو أول من يقاوم وآخر من ينهزم، ومثل باسل الأعرج الذي قال: إذا بدك تكون مثقف، بدك تكون مقاوِم. ومثل غسان كنفاني الذي استشهد بعد أن كان نداً. فأين النِد الذي يمكن أن تهتف الجماهير العربية خلفه، تصدح بكل قوة وجبروت: "الموت لإسرائيل"؟