سيناريوهات حرب أوكرانيا بين الاستنزاف المطول والحل التفاوضي

ميزان القوى بين روسيا وأوكرانيا ليس متكافئاً، أو حتى متقارباً، كي تأتي التنازلات بصورة متكافئة من الطرفين. وليست أوكرانيا نداً لروسيا أصلاً، ولولا الدعم الغربي لأوكرانيا، لما استمرت الحرب كل هذه المدة.

  • مثلت الضربة الأوكرانية للقاذفات الاستراتيجية الروسية تصعيداً كبيراً في مسار الحرب.
    مثلت الضربة الأوكرانية للقاذفات الاستراتيجية الروسية تصعيداً كبيراً في مسار الحرب.

على إيقاع هجمات متبادلة تزداد ضراوةً وعمقاً، يمكن وصف مفاوضات إسطنبول بين موسكو وكييف بأنها مسرحية تؤدى لعيون ترامب فحسب، بطلاها خصمان لدودان لا يطيق أحدهما الآخر، لكنْ لا يريدان إغضاب ترامب الذي يعوّل على مفاوضات السلام، لذلك يعمل كلٌ منهما كي ينسحب الطرف الآخر من المسرح التفاوضي "من تلقاء ذاته".

مثلت الضربة الأوكرانية غير المسبوقة للقاذفات الاستراتيجية الروسية في أربعة مطارات في العمق الروسي، عشية الجلسة التفاوضية الثانية بين الطرفين، تصعيداً كبيراً في مسار الحرب، واستفزازاً جسيماً لروسيا، بغض النظر عن مدى الضرر الذي أحدثته فعلياً.  

كما مثّلت رسالة أوكرانية إلى الغرب الجماعي بأن كييف فرسٌ يمكن الرهان عليه في ظل تقدم روسي في ساحة المعركة بأسرع معدل منذ 6 أشهر، وبعض أكبر الهجمات الروسية بطائرات من دون طيار منذ بدء الحرب.  

وكان من ذلك أيضاً استعادة مقاطعة كورسك الروسية، باستثناء قطع صغيرة جداً منها.  وكان الأوكرانيون، في صيف 2024، يحتلون نحو 1300 كيلومتر مربع من تلك المقاطعة.  وتبين مؤخراً أن الكوريين الشماليين أدوا دوراً مهماً في استعادة تلك المقاطعة.      

المهم، زعمت كييف أنها نالت من ثلث الأسطول الروسي الثقيل، القادر على عبور القارات مذخراً بحمولة نووية، فأصابت أو دمرت 40 منها، إضافةً إلى طائرات إنذار مبكر روسية من طراز A-50، في حين تقول موسكو إن "بضع" قاذفات توبوليف أصيبت فحسب. 

وزعم تقرير لوكالة "رويترز" في 5/6/2025، نقلاً عن مصادر أميركية، أن 20 قاذفة استراتيجية روسية أصيبت، دُمرت منها 10، ولا يعني ذلك أن تلك المصادر الأميركية موثوقة طبعاً.   

لعل مبالغات الطرفين المتحاربين، بشأن خسائر الطرف الآخر، كانت من أبرز علامات الحرب الروسية-الأوكرانية على الجبهة الإعلامية.  ولو جمعنا أرقام الخسائر الواردة في البلاغات العسكرية تراكمياً لبلغت عدة أضعاف الموارد العسكرية المتاحة لكلٍ من البلدين على الأقل.  

لكنّ المبالغة الأوكرانية في أرقام الخسائر الروسية في القاذفات الاستراتيجية هذه المرة بالذات، عشية الجولة الثانية من مفاوضاتهما في إسطنبول بالذات، كان يفترض أن ترش الملح على الجرح، وأن تدفع الروس إلى ترك التفاوض.

لم ينفعل الروس ولم يقاطعوا المفاوضات، لكنّ التصعيد الأوكراني حكم عليها مسبقاً بالفشل، وكان ذلك هو المطلوب، أوكرانياً وفي بعض الغرب.  لذلك، وكما كان متوقعاً، لم تسفر جلسات التفاوض عن أي اختراق سياسي، أو حتى عن اتفاق لوقف إطلاق النار، ما عدا اتفاق لتبادل السجناء والجثث ما برح الطرفان يتهم أحدهما الآخر بتعطيله.

جاء الرد الروسي، خلال مفاوضات إسطنبول، عبر موقف عالي السقف يطالب النظام الأوكراني بالاستسلام الكامل فعلياً، وبرفض مبدأ وقف إطلاق النار، ما عدا في أقسام من الجبهة، ليومين أو ثلاثة، لسحب جثث القتلى.

بعد انتهاء تلك المفاوضات، القصيرة جداً، جاء الرد الروسي في صورة هجوم كبير بالصواريخ والقنابل والمسيرات على مناطق واسعة من أوكرانيا، في واحدة من أكبر الهجمات الروسية خلال الحرب.  

ويصف تقرير في موقع "ذا وور زون" العسكري، في 6/6/2025، تلك الهجمة الانتقامية الروسية بالتفصيل، زائداً هجمات زعمت أوكرانيا أنها "استباقية" ضد مطارين عسكريين في العمق الروسي، هما مطار "أنجلز" في منطقة ساراتوف، ومطار "دياغليف" في منطقة ريازان.

كثيراً ما يتهكم الإعلام الأميركي حالياً على تصريحات ترامب إبان حملته الانتخابية، والتي قال فيها إنه لو أصبح رئيساً فسوف يحل المشكلة بين روسيا وأوكرانيا في يومٍ واحد! 

وخلال زيارة المستشار الألماني ميرتس قبل أيام، أبرزت وسائل الإعلام إحباط ترامب من جراء تصاعد حدة القتال بين روسيا وأوكرانيا ناقلةً تصريحاته بأن "عليك أحياناً، عندما ترى ولدين صغيرين يتعاركان بجنون، ويكره أحدهما الآخر، وهما يتقاتلان في المتنزه، أن تتركهما يتقاتلان وهلةً قبل التدخل لفصلهما".  

وعلى الرغم من زعمه أن محادثات إسطنبول كانت "رائعة"، لا بد أن الإحباط الأكبر كان من نصيب الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الذي يراهن على ترقية منزلة نظامه من لاعب إقليمي إلى لاعب دولي، من خلال عقد اتفاقية سلام بين روسيا وأوكرانيا في ظله الإسطنبولي. وكان مما تناقلته وسائل الإعلام على لسان إردوغان بعد انفضاض المحادثات الروسية-الأوكرانية عن لا شيء أن "أعظم أمنية له هي أن يرتب لقاءً بين بوتين وزيلنسكي في إسطنبول أو أنقرة بحضور ترامب".  

يواجه تحقيق تلك الأمنية حالياً كثيراً من العوائق، أبرزها أن مثل هذا اللقاء لن يكون ذا معنى إلا إذا استعد أحد الطرفين المعنيين، أو كلاهما، أن يقدم ما يكفي من التنازلات لإنهاء الحرب.  فإذا جاء ذلك على حساب أحد الطرفين، فإنه سيعني نهايته سياسياً في الداخل الذي يستند إليه، أي ربما يكون آخر لقاء يعقده بصفته رئيساً لبلاده.  

كما أن ميزان القوى بين روسيا وأوكرانيا ليس متكافئاً، أو حتى متقارباً، كي تأتي التنازلات بصورة متكافئة من الطرفين.  وليست أوكرانيا نداً لروسيا أصلاً، ولولا الدعم الغربي لأوكرانيا، لما استمرت الحرب كل هذه المدة.

فهي حرب الناتو ضد روسيا، أو ضد التعددية القطبية فعلياً، بأداة أوكرانية.  ويضل كثيراً من يتوهم أن الاختراقات الأوكرانية المتكررة للعمق الروسي، عسكرياً أو أمنياً، أتت بقدرات كييف المتآكلة وحدها، بعد دخول الحرب عامها الرابع.     

لذلك، تدرك القوى الصاعدة والمستقلة حول العالم، من كوريا الشمالية إلى إيران إلى الصين، وكلها متهمة أو مصرِّحة بدعم روسيا عسكرياً، أن هزيمة روسيا في أوكرانيا تمثل ضربةً لها.

ويجب أن يكون ذلك البعد الدولي للصراع في أوكرانيا واضحاً بالنسبة إلينا كعرب، على الرغم من وجود خلافات لا ننساها مع بعض السياسات الروسية، من التطبيع مع الكيان الصهيوني إلى المساومة على سوريا وغيرها، لأن مصلحتنا ومصلحة الجنوب العالمي كله تكمن في تحقيق التعددية القطبية (ولا يعني ذلك التنازل عن حقوقنا ومصالحنا الوطنية والقومية لأي قوة صاعدة منافسة للغرب، أو مناهضة له، في جميع الأحوال).  

أما بعد ميلان الإدارة الأميركية في ظل ترامب إلى التفاهم مع روسيا على حساب أوكرانيا من أجل تفكيك "بريكس"، أو إضعاف علاقات روسيا مع كوريا الشمالية وإيران وغيرهما، كما أوضحت في مادة "قراءة في أبعاد اللعبة الدولية من سوريا إلى أوكرانيا"، في محاولة لتكرار تجربة كيسنجر- نيكسون في بداية السبعينات لشق المعسكر الاشتراكي عبر التقرب من الصين، لكن من البوابة الروسية هذه المرة، فإن موقف النظام الأوكراني على طاولة المفاوضات مع روسيا بات أضعف بكثير، وخصوصاً بعد إيقاف ترامب الدعم العسكري الأميركي لأوكرانيا مؤقتاً في 3/3/2025، وإخضاعه لمراجعة شاملة.    

ولولا وجود قوى وازنة في الغرب الجماعي، من أوروبا الغربية إلى الدولة العميقة في الولايات المتحدة ذاتها، لها مصلحة في تقوية نظام زيلنسكي، وفي إفشال مقاربة الرئيس ترامب للمسألة الأوكرانية، وفي الاستمرار في الحرب من أجل استنزاف روسيا، لرأينا زيلنسكي يقدم التنازلات المطلوبة أو يطاح به، أو يقدمها ثم يطاح به.  

ما برح خيار إطاحة زيلينسكي مطروحاً بقوة على الطاولة، لكنْ كذلك يبقى مطروحاً خيار تخلي ترامب عن مساعيه لحل الأزمة الأوكرانية.  وهو خيار طرحه وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، في 18/4/2025، ورفض ترامب، عندما سئل، أن يؤكده أو ينفيه، تاركاً الباب مفتوحاً لتبني ذلك الخيار.  ويصب تصريحه خلال استقبال المستشار الألماني، عن "ترك الولدين يتقاتلان"، في القناة ذاتها فعلياً.  

من الواضح أن الدولة العميقة في الولايات المتحدة تدفع الأمور في ذلك الاتجاه بالضبط.  ويتناول تقرير في 2/6/2025، في موقع "الراديو العام القومي" NPR، الذي قطع عنه ترامب التمويل الحكومي مؤخراً، احتمال أن يدير ترامب ظهره للمسألة الأوكرانية على لسان خبير هو صموئيل تشاراب، رئيس قسم السياسة الروسية والأوراسية في معهد "راند" RAND للأبحاث، بالصورة الآتية: 

"إذا كان "الانسحاب" يعني أن الرئيس سيكون أقل مشاركة، وسيترك الأمر للمسؤولين على مستوى العمل، فقد لا يكون هذا بمنزلة كارثة.  أما إذا كان الانسحاب سيعني قطع المساعدات العسكرية والدعم الاستخباري لكييف، فإن ذلك سيكون مشكلة".

هذا يعني أن المطلوب هو انسحاب ترامب شخصياً، لا انسحاب الولايات المتحدة من دعم أوكرانيا، الأمر الذي يترك لبيروقراط الدولة إدارة السياسة الأميركية إزاء أوكرانيا كما يشاؤون.  لكنّ هذا التوجه، بمقدار ما ينجح في فرض أجندته، سوف يفشِل استراتيجية ترامب في التقارب مع روسيا على حساب نظام زيلنسكي.  

ربما يكون ذلك خبراً سعيداً بالنسبة للصين، لكنه يعني أيضاً سياسة خارجية أميركية مفصومة، تعكس الانشقاق داخلياً، لتكون النتيجة رسوماً جمركية يفرضها ترامب على كل الدول، ما عدا روسيا، في حين يستمر الدعم الأميركي للنظام الأوكراني.  

وربما يؤدي ذلك إلى فترة من التخبط ريثما يحسم ترامب معركته مع الدولة العميقة، أو تحسم هي معركتها معه، بطريقةٍ أو بأخرى.  ونذكّر هنا بمحاولتي اغتياله إبان حملته الرئاسية.  ولم يأتِ عبثاً إصرار ترامب على الإفراج عن الملفات السرية لاغتيال الرئيس جون كنيدي JFK، والتي تظهر في أحد الفيديوهات المفرج عنها تورط أحد عناصر الشرطة السرية في عملية الاغتيال.  

يشكل ما سيسفر عنه موقف الإدارة الأميركية إذاً عاملاً رئيساً في تحديد مآلات الحرب في أوكرانيا، إذ إن دول أوروبا الغربية الداعمة بقوة لاستمرار الحرب لن تستطيع، مالياً وعسكرياً، تعويض الدعم الأميركي لأوكرانيا إذا توقف، وإن كانت قدراتها الاستخبارية لا يستهان بها.  

أوروبا الغربية قوة آفلة، ووزنها يتضاءل في زحمة القوى الصاعدة دولياً، لكنّ من السابق لآوانه كثيراً الاستنتاج بآنها فاقدة للثقل سياسياً.  

ولا ننسى أن التفاهم أميركياً مع روسيا ينعكس، بعد أوكرانيا، على ميزان القوى في القارة العجوز، وعلى وزنها إزاء روسيا، وأنه يرجح كفة اليمين الشعبوي في دولها، الأميل إلى ترامب وإلى التفاهم مع روسيا، على حساب النخب الحاكمة حالياً فيها.  

لذلك، لدى النخب الأوروبية الحاكمة مصلحة في بذل موارد أكبر في الإنفاق العسكري، وفي دعم أوكرانيا من أجل استمرار الحرب، لكنّ ذلك سوف يدفعها في المدى الطويل إلى المسار ذاته الذي أوصل ترامب إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة: عجز الموازنة الحكومية، تراكم الدين العام، تراجع التصنيع والبنية التحتية.  

وهو خيار تميل إليه الديموقراطيات الليبرالية تلقائياً لأن المندوب المنتخَب الذي يسحب الدين لينفقه لن يكون موجوداً غداً على الأرجح لسداده، ضمن لعبة التداول "الديمقراطية".  تكمن مصلحته إذاً في الإنفاق بالدين الذي سوف تسدده الأجيال المقبلة.  والعبرة هنا أن الأوروبيين سيميلون إلى المزيد من التورط على المسرح الأوكراني.

راجعت عدداً من الأوراق التي نشرتها مراكز الأبحاث الغربية التي تتناول المآلات المحتملة للحرب في أوكرانيا. وهي تراوح حول 3 أو 4 مسارات هي:

أ – تجميد خطوط النزاع، على نمط الحرب الكورية، مع احتمال تجدد النزاع من دون "ضمانات غربية قوية لأوكرانيا".

ب – استمرار حرب الاستنزاف، الأمر الذي يرجح نصراً روسياً، نظراً لحجمها الأكبر، بشرياً واقتصادياً، وللتأييد الشعبي للحرب (والكلام لمصدر غربي).  والنصر الروسي سوف يعني تغيير النظام في كييف، ونزع سلاحه، وخسارة كثير من أراضيه.

جـ - نصر أوكراني، يتضمن استعادة كل الأراضي التي سيطرت عليها روسيا لوغانسك ودونيتسك، الأمر الذي لن يمضي بسلام من دون تصعيد روسي كبير ربما يتضمن استخدام أسلحة نووية تكتيكية أو مهاجمة دول البلطيق (لاتفيا، أستونيا، وليتوانيا).

د – تسوية تفاوضية تظل بعيدة المنال، نظراً لعدم توافق الأهداف الأساسية للطرفين.

والمصدر هنا هو "مجلة الأمن القومي"، في 30/5/2025، في تقريرٍ بعنوان "الطرق المخيفة التي قد تنتهي بها حرب أوكرانياً.

وكان موقع "تشاذام هاوس" Chatham House البريطاني قد وضع 4 سيناريوهات للحرب الأوكرانية في 16/10/2024، هي:

أ – استمرار الحرب في صورة استنزافية في المدى الطويل جداً.

ب – تجميد النزاع بناءً على اتفاق هدنة يثبت الخطوط حيث هي الآن.  

جـ - نصر أوكراني يعيد الخطوط إلى ما كانت عليه في 22/2/2022، أي من دون القرم.  الأمر الذي يتطلب نقلة نوعية في الدعم الغربي لأوكرانيا.

د – هزيمة أوكرانيا واستسلامها، الأمر الذي يعني تغيير النظام في كييف، ونزع سلاحه، وخسارة كثيرٍ من أراضيه.

وكان موقع MAX Security، وهي شركة استشارات أمنية متخصصة، قد نشر في بداية العام الجاري تقديراً للسيناريوهات المحتملة في حرب أوكرانيا التي حصرها بثلاثة هي:

أ – اتفاق روسيا وأوكرانيا على اتفاق لوقف إطلاق نار، وصولاً إلى إنهاء الحرب، وهو السيناريو الذي رجحه الموقع بنسبة 60% استناداً إلى تبني الرئيس ترامب لهذا التوجه.

ب – استمرار النزاع مطولاً من جراء رفض أحد الطرفين أو كلاهما لشروط وقف إطلاق النار، وهو السيناريو الذي رجحه الموقع بنسبة 35%.

جـ - تحقيق أحد الطرفين انتصاراً حاسماً، وهو السيناريو الذي أعطاه الموقع احتمالية 5% فحسب.

تكثر التقارير التي تتناول سيناريوهات تطور حرب أوكرانيا، لكنها تدور في فلك المسارات المطروحة أعلاه.

وبرأيي المتواضع أن العامل الأهم، لا الوحيد، الذي سيرجح أحد هذه السيناريوهات على غيره هو مسار الصراع في الغرب الجماعي ذاته بين اليمين الشعبوي والنخب الليبرالية الحاكمة.