عودة التصعيد بين الجزائر وفرنسا

مستقبل التصعيد بين الجزائر وفرنسا محكوم بمحددات تذهب كلها وتدفع في اتجاه تصعيد محدود قد يشهد حالات شد وجذب غير مسبوقة، لكنه لن يتدحرج ليصبح تصعيداً مفتوحاً.

0:00
  • التصعيد بين فرنسا والجزائر ظاهره أزمة سياسية دبلوماسية بين بلدين.
    التصعيد بين فرنسا والجزائر ظاهره أزمة سياسية دبلوماسية بين بلدين.

لم تُبحر سفينة التصالح بين الجزائر وفرنسا كثيراً؛ إذ تعثرت المصالحة، وتجدّدت الأزمة وانهارت التهدئة بعد بضعة أيام فقط (أسبوعين) من التصالح الذي ذهبت بعض التقديرات بأنه سيصمد ويستمر؛ ليعود التوتر بوتيرة أكبر من قبل ويبدأ من سقف تبادل طرد الدبلوماسيين، ورداً على إعلان الجزائر طرد 12 موظفاً يعملون في السفارة الفرنسية ومغادرة الجزائر خلال 48 ساعة. قرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طرد "12 موظفاً في الشبكة القنصلية والدبلوماسية الجزائرية في فرنسا"؛ ثم تبع ذلك استدعاء السفير الفرنسي لدى الجزائر ستيفان روماتيه للتشاور، وحمّل بيان لقصر الإليزيه السلطات الجزائرية مسؤولية ما وصفه بالتدهور الكبير في العلاقات الثنائية بين البلدين.

كشفت حادثة توقيف السلطات الفرنسية دبلوماسياً جزائرياً هشاشة التصالح الحاصل بين الجزائر وفرنسا، وكشفت أن التوتر لا يزال هو المحدد الضابط للعلاقة، علماً بأن حوادث توقيف الدبلوماسيين تحدث بين الدول ويتم تجاوزها من دون تصعيد وتراشق وتبادل طرد السفراء واستدعائهم ولغة الاتهام انتهاء بالأزمة وربما يتطور الأمر ليصل حد القطيعة.

والسؤال: لماذا أصبحت العلاقات الجزائرية -الفرنسية بهذه الهشاشة وتلك الحساسية؛ هل يمكن احتواء التصعيد الحاصل؟، هل يعود الدفء للعلاقة أم ستشهد بروداً، أو يكون التصعيد هو المحدد الوحيد الضابط للعلاقة؟ وهل ما يحدث بين فرنسا والجزائر مجرد أزمة طارئة عابرة نتيجة متغيرات مؤقتة أم يعكس خلافات عميقة لا يمكن تجاوزها؟، وفي استشراف مستقبل العلاقة هل تحتكم فرنسا والجزائر إلى لغة المصالح المتبادلة أم ستكون الغلبة للتقديرات الذاتية والشخصية؟

عاد التصعيد بين الجزائر وفرنسا عقب توقيف السلطات الفرنسية نائب القنصل الجزائري في باريس، في 11 نيسان /أبريل 2025، إلى جانب اثنين من رعاياها، بدعوى الاشتباه في تورّطهم في عملية اختطاف الناشط الجزائري، نهاية نيسان/أبريل 2024، من الأراضي الفرنسية. والملاحظ هنا أن السلطات الفرنسية عادت لتفتح ملفاً مرّ عليه عام كامل، وفي توقيت حساس وبيئة تشهد تقارباً وتصالحاً وانفراجاً حذراً بين الجزائر وفرنسا، ويبدو أن هذا التقدير هو ما أغضب الجزائر فكان رد فعلها على عملية التوقيف التصعيد غير المسبوق، إذ قررت طرد 12 موظّفاً في السفارة الفرنسية في الجزائر.

دافعت رواية السلطات الجزائرية المُفسرة للتصعيد وقرار الطرد بتحميل وزير الداخلية الفرنسي برونو روتايو المسؤولية عن التصعيد الجديد. هناك تقدير راسخ لدى الجزائر بأن وزير الداخلية الفرنسي أحد أهم أسباب التصعيد، بل ربما السبب الوحيد؛ ولكن فرنسا لم تتقبّل الأمر لحسابات تتعلق بمكوّنات الحكومة الفرنسية؛ ما يعني أن الغلبة للتصعيد، لا سيما أن لغة التصعيد والتهديد والوعيد جاءت على لسان وزير الخارجية الفرنسية جان نويل بارو، وهو عراب التصالح الأخير بين فرنسا والجزائر، والذي قال إن بلاده مستعدة للدخول في "مواجهة مع الجزائر ما لم تتراجع عن قرار طرد الدبلوماسيين".

ووصفت الخارجية الجزائرية توقيف موظفيها على يد أجهزة الأمن الفرنسية التابعة لوزارة الداخلية الفرنسية بأنه اعتقال استعراضي وتشهيري، ولم يراعِ الأعراف والمواثيق الدبلوماسية"، وأنه ليس "إلا نتيجة للموقف السلبي والمخزي المستمر لوزير الداخلية الفرنسي تجاه الجزائر".

والملاحظ أن الإجراءات المتبادلة والتطورات التصعيدية تتعارض مع ما أعلنته فرنسا والجزائر قبل أسبوعين عن نيتهما تعزيز العلاقات الثنائية وتجاوز الخلافات وإنهاء الأزمة وطيّ صفحة القطيعة التي امتدت ثمانية أشهر.

عودة التصعيد بين فرنسا والجزائر ظاهره أزمة سياسية دبلوماسية بين بلدين، ولكن باطنه المسكوت عنه أن هذه الأزمة انعكاس لتوتر وصراع داخلي في كلا البلدين؛ ففي فرنسا من يقود التصعيد ضد الجزائر هو وزير الداخلية الفرنسي "برونو روتايو" كجزء من برنامج وأجندة سياسية تُداعب رغبة تيار اليمين الفرنسي، والرجل يراهن على ذلك كجزء من لعبة سياسية فرنسية.

 في المقابل، تبدو الرئاسة الفرنسية راغبة في التصالح مع الجزائر وإنهاء الأزمة؛ ومن جهة أخرى، هي غير قادرة على الدخول في صراع مع مكوّنات حكومتها؛ ولا تختلف الحال كثيراً بالنسبة إلى الجزائر، وإن اختلفت المحددات، فالتصعيد مع فرنسا يؤجل مشكلات داخلية متراكمة بعضها سياسي وبعضها الآخر اقتصادي، وهو جزء من لعبة ابتزاز إقليمي بين فرنسا والجزائر، لا سيما في ما يتعلق بالعلاقات الفرنسية مع المغرب، والموقف الفرنسي من قضية الصحراء الغربية.

دخول المغرب كمحدد ضابط للعلاقة بين فرنسا والجزائر، سواء للتهدئة أو التصعيد، يتجلى ويتضح في خطوط العلاقات ومسارها، ومن خلال معادلة أن اقتراب فرنسا من المغرب يؤدي إلى تصعيد مع الجزائر والعكس لا يتناقض مع ذلك، فبينما كان التراشق بين الجزائر وفرنسا على أشده عقب أزمة تبادل طرد الدبلوماسيين، كان وزير الخارجية المغربي في باريس يؤكد عمق العلاقة والصداقة بين المغرب وفرنسا؛ مثبتاً موقف فرنسا والتزامها تجاه قضية الصحراء.

وعلى وقع الأزمة وعودة التصعيد بين الجزائر وفرنسا، قام وزير الداخلية الفرنسي، المتهم الرئيس في التقدير الجزائري بعودة التصعيد، بزيارة المغرب في مشهد لا يخلو من الابتزاز وتوظيف التناقض بين الجزائر والمغرب، وبينما كانت وزارته تعتقل موظفاً دبلوماسياً جزائرياً كان يمد يده بالتعاون الأمني الثنائي بين وزارته ووزارة الداخلية المغربية، وهذا استدعاء وتوظيف لوزارة الداخلية الفرنسية ليس من بين أجنداتها الشؤون السياسية والعلاقات الخارجية.

مستقبل التصعيد بين الجزائر وفرنسا لا يقتصر على حادثة توقيف موظف دبلوماسي جزائري، ولا يختصر فقط في تبادل طرد الدبلوماسيين، وهو محكوم بقراءتين الأولى: أن هذا التصعيد عميق، وله خلفية عميقة وكبيرة وممتدة لم تعالج من جذورها، وأن الدولة العميقة في كلا البلدين تبدو أقوى من إرادة الرئاسة. والثانية: أنه تصعيد محدود محكوم بحسابات سياسية داخلية في كل من فرنسا والجزائر؛ وأن هناك ابتزازاً متبادلاً بينما تدعم فرنسا التيار الانفصالي في الجزائر وتلتقي به، وتتخلى عن الحياد والتوازن في الموقف من الصحراء الغربية وتبتز الجزائر بالاقتراب أكثر من المغرب، تقوم الجزائر بتنفيذ مسار تمدد في القارة الأفريقية على حساب التراجع الفرنسي، فالجزائر تحيط بالتمدد الفرنسي وتحاصره. ولوحظ مؤخراً توقيع الجزائر اتفاقاً دفاعياً مع موريتانيا وتوقيع 13 اتفاقية متبادلة مع إثيوبيا. هذا النشاط الدبلوماسي الجزائري يبدو كجزء من خيارات الرد الجزائري على الابتزاز الفرنسي.

مستقبل التصعيد بين الجزائر وفرنسا محكوم بمحددات ومستويات تذهب كلها وتدفع في اتجاه تصعيد محدود قد يشهد حالات شد وجذب غير مسبوقة تصل حد القطيعة، لكنه لن يتدحرج ليصبح تصعيداً مفتوحاً أو صراعاً بلا سقوف، وهذا يعكسه استدراك خطاب وزير الخارجية الفرنسي بأن "الحوار هو السبيل الوحيد لإيجاد حلول للتوترات مع الجزائر بشكل مستدام"، وتنديده بمن وصفهم بأصحاب الرؤوس الحامية الذين يرفضون الحوار، واصفاً موقفهم بأنه غير مسؤول. وبالنسبة إلى الجزائر، فإن سقف التصعيد مع فرنسا محكوم هو الآخر بسياقات إقليمية مجاورة وتحالفات دولية محيطة تقتضي تغليب الهدوء وتجاوز الأزمة مع فرنسا. وقطع الطريق على تيارات عاصفة العودة إلى التصعيد.