قوة استقرار أم قوة احتلال؟

من الممكن تحويل التهديد الذي يمثّله اعتماد القرار الأميركي الظالم إلى فرصة لتجنيب الشعب الفلسطيني مزيداً من الإجرام، وإلى الاستفادة قدر الإمكان من وجود هذه القوّة الدولية في رفع الحصار عن قطاع غزة.

0:00
  • هل من الممكن تحويل التهديد الذي يمثّله اعتماد القرار الأميركي الظالم إلى فرصة؟
    هل من الممكن تحويل التهديد الذي يمثّله اعتماد القرار الأميركي الظالم إلى فرصة؟

مبرَّرة للغاية هي تلك المواقف الرافضة لقرار مجلس الأمن الأخير بخصوص قطاع غزة، والتي صدرت عن جميع فصائل المقاومة الفلسطينية من دون استثناء، وإلى جانبهم معظم إن لم يكن كلّ أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، والتي أجمعت على أنّ ما جرى من تمرير للمشروع الأميركي المُنحاز لصالح "دولة" العدو، كان يهدف إلى مكافأة الاحتلال على ما ارتكبت يداه الآثمتان من مذابح ومجازر ضدّ المدنيين الفلسطينيين العزّل في قطاع غزة المُدمَّر والمنكوب.

وبعيداً عمّا أشارت إليه بيانات الفصائل سالفة الذكر، والتي حذّرت من خطورة هذا القرار المجحف والظالم،فإنّ هذا القرار يؤسّس لمرحلة من الاحتلال المقنّع متعدّد الجنسيات، الذي سيسعى كما هو واضح في بعض بنوده إلى منع الشعب الفلسطيني من حقّه في مقاومة الاحتلال، وإلى منعه من امتلاك أيّ نوع من السلاح الذي يمكّنه من مواجهة اعتداءات الاحتلال التي لم تتوقّف أو تنحصر حتى بعد التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، إضافة إلى تبرئة ساحة المحتلّ المجرم، وعدم تحميله أيّ مسؤولية عمّا جرى في القطاع الصغير والمُحاصر خلال عامين من حرب الإبادة الجماعية التي ارتكبها تحت سمع وبصر العالم العاجز.  

يمكن لنا ونحن الذين عايشنا فصول الحرب عن قرب، وناظرنا كلّ ما ارتُكب فيها من فظائع وجرائم غير مسبوقة أن نشعر أكثر من غيرنا بخطورة هذا القرار، إذ إنه يحتوي على تعقيدات أقرب إلى الألغام المتفجّرة منها إلى الحلول السياسية، والتي تهدّد في حال تمّ القبول بها، أو تحويلها بحكم القوة إلى وقائع على الأرض بمزيد من المعاناة لسكّان قطاع غزة، وإلى إخضاعهم لسنوات جديدة قد تكون طويلة من الانتداب والاحتلال، وهم الذين بذلوا طوال أكثر من ثلاثة أرباع القرن كلّ جهد ممكن، وقدّموا كلّ غالٍ ونفيس من أجل الحرية والاستقلال، ومن أجل العيش بكرامة على أرضهم كباقي شعوب العالم.

يمكن لنا كما لغيرنا من المُنصفين أنّ نصف القوّة المزمع تشكيلها خلال الفترة المقبلة بأنها قوة احتلال وليست قوة استقرار، وأنّ وجودها على أراضي القطاع لن يساهم في تحقيق السلام المنشود، أو الهدوء الذي يتمنّاه أهالي غزة أكثر من غيرهم، أو تحويل هذا الشريط الساحلي الصغير إلى منطقة آمنة ومزدهرة كما يسوّق الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بل على العكس تماماً، فإنّ وجود هكذا قوات، وبما يمكن أن يُمنح لها من صلاحيات سيساهم في زيادة حدّة التوتّر، وإضفاء مزيد من التعقيدات على عموم المشهد الأمني في قطاع غزة وربما على عموم المنطقة،هذا إضافة إلى صعوبات أخرى قد يشهدها الواقع الإنساني والمعيشي للمواطنين الفلسطينيين، والذين لم تُوضع مصالحهم واهتماماتهم كما العادة في صلب هذا القرار الظالم والمُنحاز. 

في ظلّ هذا الواقع الذي لا يُبشّر بخير لأهالي قطاع غزة، والذين لم يلتقطوا أنفاسهم بعد بفعل خروقات الاحتلال المستمرة، وبفعل عجز الوسطاء والضامنين على إجباره على تنفيذ ما عليه من التزامات لطالما أدار لها ظهره، وضرب بها وبغيرها عرض الحائط، فإنّ السؤال الأبرز الذين يبحث الجميع عن إجابة عنه هو كيفيّة تعاطي فصائل المقاومة في غزة، والتي خرجت لتوّها من حرب شعواء قدّمت فيها تضحيات كبيرة وهائلة لم يُكشف عن الكثير منها حتى الآن مع هذا الواقع الجديد، والذي يمكن أن يتحوّل من قرار في ردهات السياسة، إلى تحرّك في الميدان خلال أسابيع قليلة، وهو الأمر الذي سيفرض على المقاومة تحدّياً من نوع آخر لم تواجهه من قبل، ويمكن أن يضعها في مواجهة لا تبحث عنها مع دول عديدة حول العالم وليس مع الاحتلال فقط.

في حقيقة الأمر تبدو خيارات المقاومة كما كانت خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من العدوان محدودة للغاية، وهي مصحوبة بكثير من التعقيدات التي هي أحوج ما تكون بالابتعاد عنها، خصوصاً وهي تسعى إلى التعافي مما أصابها خلال العامين الماضيين، وإلى ترتيب صفوفها، واستعادة قوّتها التي أنهِكت وتراجعت نتيجة ما خاضته من قتال صعب وغير متكافئ مع "جيش" الاحتلال،غير أنّ هذا الحال لا يعني أنها يمكن أن تقبل ما رفضته من إملاءات أبّان الحرب، أو أنها يمكن أن تتنازل عمّا تمسّكت به خلال شهور العدوان الطويلة، وهي وإن كانت حريصة على تجنيب شعبها وأهلها ويلات الحرب، وتمكينه من العيش على أرضه بحرية وأمان، إلا أنها ليست مستعدّة لمنح العدو نصراً مجانياً بحث عنه طويلاً من دون جدوي طوال عامين كاملين، مستخدماً من أجل ذلك كلّ ما بين يديه من إمكانيات وقدرات، ومستفيداً من كلّ ما قُدّم له من دعم عسكري وسياسي واقتصادي وإعلامي من معظم دول العالم، وأنها مستعدّة لبذل المزيد من التضحيات، ودفع المزيد من الأثمان من أجل حرمان العدو من الحصول على مبتغاه،حتى لو وقف معه كلّ محور الشرّ في العالم.   

أحد خيارات المقاومة كما تشير الكثير من المصادر هو اعتبار أيّ قوّة أجنبية بغضّ النظر عن مسمّاها، وبغضّ النظر عن جنسيات أفرادها بمثابة "قوة احتلال" ما دامت تسعى لتنفيذ أجندات العدو، وما دامت لم تأتِ لرفع الظلم الذي لحق بشعبها وناسها، ولا بوقف العدوان الذي يُمارس بحقّهم طوال الأشهر والسنوات الماضية.

في حال تمّ اعتماد هذا الخيار، والذي سيؤدي حتماً إلى مواجهة مباشرة بين قوى المقاومة من جهة، والقوّة المُراد تشكيلها من جهة أخرى، فإنّ التداعيات يمكن أن تكون قاسية وغير مرغوب بها خصوصاً للمدنيين في القطاع، بدءاً من تدخّل عسكري أجنبي محتمل، أو تشديداً للحصار، ومنعاً للمساعدات والإعمار على أقلّ تقدير.

حتى الآن، ورغم التنديد الشديد والرفض المُطلق لمشروع القرار الأميركي الذي تمّ اعتماده في مجلس الأمن، فإنه لا يبدو أنّ فصائل المقاومة في غزة قد اتخذت قراراً بالذهاب نحو هذا الخيار، أو التحضير ميدانياً للتصدّي لتداعياته المُحتملة، وهي في ذلك تسعى إلى ممارسة المزيد من الجهود السياسية التي قد تساعد في فكفكة جزء من حقل الألغام التي وجدت نفسها بداخله، وإلى كسب مزيد من الوقت علّها تهتدي إلى حلول أفضل وأكثر قابلية للتنفيذ.

الحلول الأفضل المُشار إليها أعلاه هي خيار آخر مُتاح لدى المقاومة الفلسطينية، وهي تعتمد في الوصول إليها على قاعدة المراقبة والانتظار، والتي تمكّنها من استكشاف حقيقة الأمور على أرض الواقع بعيداً عن دهاليز السياسة، وبعيداً عن التلاعب بالكلمات والمصطلحات الذي تعاملت معه كثيراً خلال شهور الحرب والعدوان.

في هذه الحالة والتي يبدو أنها ستكون المفضّلة لدى فصائل المقاومة في المرحلة الحالية يجب عليها الانتظار حتى تتّضح تشكيلة القوات المُزمع إنشاؤها خصوصاً على صعيد الجنسيات والمرجعيات، وحتى تبدو بصورة لا تقبل التأويل أو التشكيك ماهية الصلاحيات الممنوحة لها، ومقدار تحرّكها على الأرض، إضافة إلى أدوارها المُتوقّعة والمأمولة في فرض حالة من الهدوء المُستدام في جميع مناطق القطاع، ومن ضمنها تلك الأراضي التي يجب على قوات الاحتلال الانسحاب منها في المرحلة الثانية من الاتفاق، والتي تشمل نحو 33% من مساحته.

خيارات أخرى قد تلجأ إليها المقاومة وخصوصاً في حال ممارسة "القوّة الدولية" مهام خارجة عن صميم عملها وتكليفها، ومنها التصدّي لها من خلال العمل الشعبي الممنهج والمنظّم البعيد عن المواجهة المسلّحة، وهذا الأمر رأيناه أكثر من مرّة في جنوب لبنان قبل شهور الحرب، إذ تصدّى المواطنون اللبنانيون المؤيّدون لخيار المقاومة لقوات "اليونيفيل" الدولية، والتي كانت في بعض الأحيان تتجاوز الأدوار المنوطة بها، وتتحوّل إلى ذراع أمني واستخباري يعمل لصالح "جيش" العدو.

على كلّ حال يمكن لنا أن نعتقد أنه بالإمكان تحويل التهديد الذي يمثّله اعتماد القرار الأميركي الظالم إلى فرصة لتجنيب الشعب الفلسطيني مزيداً من القتل والإجرام، وإلى الاستفادة قدر الإمكان من وجود هذه القوّة الدولية في رفع الحصار الجائر عن قطاع غزة والمستمر منذ أكثر من ثمانية عشر عاماً.

صحيح أنّ هذا الأمر لن يكون سهلاً، وصحيح أنّ أعداء هذا الشعب وما أكثرهم قد أجمعوا أمرهم، وحسموا خياراتهم الهادفة إلى هزيمته وكسر إرادته، ومنعه من ممارسة حقّه في الدفاع عن نفسه كما نصّت المواثيق الأممية والدولية كافة، إلا أنه بمزيد من الوحدة الداخلية بين جميع مكوّنات الشعب الفلسطيني، وبمزيد من توسيع العلاقات الإقليمية والعالمية ولا سيّما مع القوى التحرّرية والداعمة لشعبنا ومقاومتنا،فإنه يمكن التصدّي لكلّ المؤامرات وإسقاطها، ويمكن على أقلّ تقدير الخروج منها بأقلّ الخسائر الممكنة، في انتظار أن تتحسّن الظروف، وتتبدّل الأحوال، وتنكسر موجة الشرّ التي تقودها أميركا و"إسرائيل" وحلفاؤهما في المنطقة والعالم.