كيف غيّرت "إسرائيل" من مفهومها للمجزرة؟
تفلت "إسرائيل" من كل قيد في عدوانها على القطاع بغطاء أميركي وأوروبي يؤشر إلى وجود مشروع جديد للمنطقة، يتطلب تنفيذه منح "إسرائيل" سقفاً مفتوحاً في التحرك العسكري.
-
قوات الاحتلال ترتكب في المتوسط ما بين 6 إلى 7 مجازر كل يوم في غزة.
على مدى ما يقرب من عشرين شهراً من العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، سُجّل – وفق تقديرات منظمات حقوقية وإغاثية – ارتكاب أكثر من 4 آلاف مجزرة بحق المدنيين العزّل. هذه المجازر أوقعت نحو 62,700 شهيد وما يزيد على 164 ألف جريح ومصاب، وهي حصيلة أولية قابلة للارتفاع مع استمرار الحصار والكشف عن المزيد من الضحايا تحت الأنقاض.
وبحساب المعدلات اليومية، يتضح أن قوات الاحتلال ترتكب في المتوسط ما بين 6 إلى 7 مجازر كل يوم، يسقط فيها نحو 104–105 شهداء، و273–274 جريحاً. هذه الأرقام، رغم أنها تقديرية، تكفي للكشف عن حجم غير مسبوق من الجرائم المنظمة والممنهجة.
هذه الإحصاءات ليست مجرد أرقام؛ فهي مؤشرات خطيرة على تحوّل نوعي في الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه مفهوم "المجزرة" نفسه، وتحوّله من حدث استثنائي إلى أداة أساسية في إدارة الحرب.
التحوّل المفاهيمي
هناك استنتاجات رئيسية عديدة يمكن إجمالها بالنقاط الآتية:
- ما يحدث في قطاع غزة أكبر من مجرد عملية إبادة جماعية أو جرائم ضد الإنسانية بالنظر إلى مساحة القطاع الصغيرة وعدد سكانه، الأسلحة الإسرائيلية المتطورة المستخدمة والتي تسببت بمسح أحياء ومدن سكنية كاملة وتحويلها إلى ركام، وحجم القوات المشاركة في العدوان.
كل هذا وغيره يفرض ضرورة إعادة التوصيف القانوني والإنساني والعسكري لـ "المقتلة" التي تجري بحق الشعب الفلسطيني الأعزل في القطاع، ليكون أكثر تعبيراً عن حجم الجرم المرتكب بحق شعب كامل، قتلاً وتجويعاً وتدميراً.
- وقوع كل هذه المجازر والصمت العربي والعالمي، إلا من بعض الإدانات الإعلامية والتحركات الدبلوماسية الفارغة، لا يؤكد فقط على حالة العجز أحياناً والتواطؤ مع العدو الإسرائيلي أحياناً أخرى، وإنما على حالة الاعتياد والتأقلم الدولي مع الأخبار اليومية الواردة من القطاع لدرجة أن بعض الدول كانت تستشهد أحياناً بحدوث تراجع بسيط في الحصيلة اليومية لعدد الشهداء والمصابين لتقول إن حكومة نتنياهو تحاول تجنب استهداف المدنيين. وهو ما تستفيد منه "إسرائيل" لتخفيف وقع الكارثة على الرأي العام العالمي.
- تغيّر مفهوم "إسرائيل" لـ "المجزرة" من حدث استثنائي ينفذ لتحقيق غايات سياسية أو عسكرية معينة إلى استراتيجية ممنهجة تقوم على إبادة جماعية لشعب كامل، وذلك في استعادة صريحة لمنهج القتل الذي اتبع خلال سنوات ما قبل النكبة عام 1948 وما بعدها.
آنذاك كانت العصابات الصهيونية تقوم بتنفيذ عمليات إبادة جماعية لسكان قرى كاملة بغية الاستيلاء عليها وتهجير سكانها وسكان القرى الأخرى باكراً في سياق مخطط السيطرة على فلسطين. وهذا على ما يبدو ما تريد حكومة نتنياهو تكراره اليوم في غزة بغية إعادة احتلال القطاع وضمّه إلى الكيان الغاصب.
ولهذا، فهي لم تعد كالسابق تنكر ارتكابها لهذه المجزرة أو تلك أو تحمّلها لخطأ عسكري أو رد فعل ميداني، بل باتت تعترف بتنفيذها لضرورات عسكرية مثلاً أو أنها جزء من الثمن المراد دفعه لهزيمة حركة حماس. فمثلاً في اعترافها باستهداف خيمة الصحفيين مؤخراً واستشهاد سبعة منهم بررت ذلك أن المراسل أنس الشريف كان قائداً عسكرياً في حركة حماس!
في حروب سابقة، كانت المجازر تُعدّ ذروة في لحظة معينة، يليها تراجع أو تهدئة، أما اليوم فالمجازر مستمرة بوتيرة يومية تقريباً، وكأنها جزء من "روتين العمليات" وليس حادثة منفردة.
فالمجازر التي تمت في العقود الثلاثة الماضية كانت لها وظيفة مختلفة، وهو ما يمكن ملاحظته في كل الحروب التي شنّتها "إسرائيل" خلال العقدين السابقين على لبنان وقطاع غزة. فمثلاً عندما أرادت "إسرائيل" أن تجد مخرجاً لوقف عدوانها المسمّى "عناقيد الغضب" في عام 1996 ارتكبت مجزرة قانا الشهيرة، وعندما أرادت أن تنتقم من المقاومة التي أذلت "جيشها" في عدوان تموز عام 2006 ارتكبت في ذلك العدوان ما يزيد على 11 مجزرة أشهرها قانا2، صريفا، القاع وغيرها.
- كما أن وقوع هذا العدد المهول من المجازر والشهداء والمصابين خلال أقل من عامين يؤشر إلى أن الخطاب الإسرائيلي-الأميركي أصبح يخلط عامداً متعمّداً بين المدني الفلسطيني وبين المقاتل المقاوم عبر تعريفات فضفاضة، بحيث بات يتيح استهداف البنية التحتية المدنية (مستشفيات، مدارس، أحياء سكنية) بحجة أنها "تُستغل من قبل المقاومة".
وكذلك الأمر في ما يتعلق بمنع دخول شاحنات المساعدات الإنسانية بشكل شبه كامل منذ شهور عدة والمبرر الإسرائيلي أن "حماس" تسرق المساعدات، رغم نفي مؤسسات أميركية عاملة على الأرض ذلك.
- تفلت "إسرائيل" من كل قيد في عدوانها على القطاع بغطاء أميركي وأوروبي يؤشر إلى وجود مشروع جديد للمنطقة، يتطلب تنفيذه منح "إسرائيل" سقفاً مفتوحاً في التحرك العسكري واستخدام القوة بعيداً عن أي مساءلة أو محاسبة دولية مستقبلاً، والدليل ما قامت به "إسرائيل" خلال الأشهر الماضية من اعتداءات مستمرة على لبنان، سوريا، وإيران، وما تبع ذلك من ضغوط أميركية على هذه الدول لتنفيذ مطالب إسرائيلية واضحة.
ولا يعرف إن كانت هناك دول أخرى يمكن أن تنضم لاحقاً إلى قائمة الدول المستهدفة بالاعتداءات الإسرائيلية أو لا.
هذا التحوّل يجعل من مجازر اليوم – بالنسبة إلى صناع القرار في "إسرائيل" – أداة استراتيجية وليس خطأً طارئاً، وهو ما يغيّر جذرياً معنى المصطلح في سياق الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
مواجهة ممكنة
أمام هذا التحوّل المفاهيمي الإسرائيلي في عدوانه المستمر على القطاع، هناك ضرورة عربية وعالمية لمواجهة وفضح السردية الإسرائيلية-الأميركية من خلال العمل على محاور أساسية عديدة أهمها ما يتعلق بمقاربة وسائل الإعلام العربية والعالمية للمجازر والجرائم الصهيونية عبر تجنب استخدام لغة "إسرائيل" المضللة، واعتماد توصيفات قانونية واضحة مثل القتل الجماعي، استهداف المدنيين.
والتركيز على تحويل المجازر المرتكبة إلى قصص إنسانية تعرض الضحايا كأفراد لهم أسماء وحياة، لا مجرد أرقام في نشرات الأخبار، لكسر عملية "إلغاء إنسانية الضحايا".
من المحاور الأخرى الهامة التي يتوجب العمل عليها ما يتعلق بكسر حالة "التطبيع" مع المجازر أو الاعتياد عليها من خلال الإصرار على أن كل مجزرة هي حدث استثنائي وغير مقبول، حتى لو تكررت يومياً، إحياء الذاكرة التاريخية عبر ربط المجازر الحالية بسجل طويل من الجرائم في فلسطين، لتأكيد أنها ليست "حالة حرب" فقط بل سياسة ممتدة، فضح ازدواجية المعايير الدولية بإجراء مقارنة للموقف الدولي من غزة بمواقف أخرى مماثلة حيال ما يحدث في أوكرانيا مثلاً أو ما حدث سابقاً في البوسنة، وذلك بغية إظهار التناقض الأخلاقي للدول.
ولأن الحقوق لا تموت مهما طال الزمن أو قصر، فإنه على المؤسسات الفلسطينية والعربية والإسلامية والدولية التعاون في التوثيق المنهجي للمجازر والجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي من خلال تشكيل فرق تحقيق مستقلة لجمع الأدلة فور وقوع المجازر، وفق المعايير التي تقبلها المحاكم الدولية، الدفع باتجاه إصدار قرارات في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجالس حقوق الإنسان، وحتى لو كانت غير ملزمة، لتكوين تراكم قانوني وأخلاقي، ملاحقة القادة العسكريين والسياسيين الإسرائيليين عبر المحاكم الوطنية في الدول التي تعتمد مبدأ الاختصاص العالمي (مثل بلجيكا، إسبانيا، بريطانيا سابقاً).
ليست أخطاء حرب
إن التغيير في مفهوم المجزرة بالنسبة إلى "إسرائيل" لم يعد تفصيلاً لغوياً أو توصيفياً، بل أصبح جوهر استراتيجيتها العسكرية والسياسية. مجازر غزة اليوم ليست مجرد أخطاء حرب كما كان يجري تصويرها سابقاً، بل هي المنهج نفسه.
وهذا يفرض على العرب، والفلسطينيين خصوصاً، ومعهم المجتمع الدولي، أن يتعاملوا مع الأمر ليس كأزمة إنسانية عابرة، بل كمشروع إبادة ممنهج يتطلب مواجهة شاملة: إعلامية، سياسية، وقانونية، قبل أن يترسخ كسابقة تقنن القتل الجماعي بلا عقاب.