لقاء بوتين – حفتر السياق والدلالات
يأتي لقاء بوتين حفتر في سياق تنافس روسي أميركي يتطلع لأداء دور في المشهد الليبي، وبالتالي استقبال حفتر في الكرملين يعد إعلاناً روسياً عن تأمين مدخل لموسكو في ليبيا.
-
يحقق اللقاء لحفتر مع بوتين شرعية رمزية دولية عابرة للجغرافيا الليبية.
يُنظر إلى اللقاءات التي يعقدها طرف من الأطراف المتصارعة في الدول التي تمر بالأزمات السياسية مع دول إقليمية وخارجية من خلال السياقات التالية؛ الأول: استقواء الطرف الداخلي بهذه القوة الإقليمية لدعمه ومساندته وإضفاء الشرعية على تطلعاته السياسية في بلاده. أما السياق الآخر، فهو تطلع هذه القوة الإقليمية لتحقيق أهدافها ومصالحها من خلال العلاقة مع هذا الطرف ودعمه ليصبح قادراً على تحقيق مصالح تلك الدولة، وهذه معادلة دولية مزمنة.
يمكن ملاحظة تلك المعادلة بين الداخل والخارج في عدة دول عربية وأفريقية، من بينها وأهمها ليبيا كنموذج، وهو ما شكله ودلل عليه اللقاء الأخير الذي جمع المشير خليفة حفتر بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو في 11 أيار/مايو 2025؛ ففي أي سياق يأتي هذا اللقاء؟ وما دلالاته؟ وما الذي يُريده حفتر من موسكو؟
في المقابل، ما الذي تُريده موسكو من ليبيا، وتحديداً من المشير حفتر؟ وما أثر اللقاء بين بوتين وحفتر في مسار المشهد السياسي في ليبيا، ولا سيما عقب تسريب فيديو تعذيب للنائب إبراهيم الدرسي ومقتل رئيس جهاز دعم الاستقرار التابع للمجلس الرئاسي عبد الغني الككلي؟
سياق اللقاء بين حفتر وبوتين جاء عشية احتفالات موسكو بالذكرى الثمانين لعيد النصر على النازية. وقد وجُهت دعوة روسية رسمية لقائد قوات شرق ليبيا المشير خليفة لحفتر. وعندما وصل، كان في استقباله نائب وزير الدفاع الروسي، الفريق أول يونس بك يفكيروف.
واللافت أن الرجل يُستقبل بمراسيم رسمية، ويحضر الاحتفالات الروسية مع رئيسين عربيين هما الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيسي الفلسطيني محمود عباس. ولا يخلو الأمر هنا من دلالة رمزية تقدم بموجبها موسكو حفتر كرمز سياسي، وليس مجرد قائد جيش في شرق ليبيا!
يحمل استقبال بوتين للمُشير حفتر في قصر الكرملين لأول مرة دلالات أكبر من مجرد أننا بصدد لقاء سياسي عابر، ذلك أن اللقاء يُعبر عن علاقة استراتيجية تحالفية عميقة تتجاوز البروتوكول المعتاد وتؤكد مكانة حفتر كشريك رئيسي لموسكو في الملف الليبي.
تعكس زيارة خليفة حفتر لموسكو ومراسم الاستقبال الرسمية حفاوة روسية كبيرة بالرجل تتعدى العلاقات الدبلوماسية لتعلن ما يشبه التحالف الاستراتيجي في سياق إقليمي دولي يشهد تحولات متسارعة وتحالفات متعددة، ولا سيما أن الزيارة لم تخلُ من مباحثات التعاون العسكري والتدريب والوجود العسكري الروسي في ليبيا، الذي يُعد بوابة للوجود الروسي في أفريقيا من جهة، ومحطة جديدة بديلة للانتقال الروسي من سوريا إلى ليبيا من جهة ثانية.
من دلالات الزيارة أنها تُعبر عن عمق العلاقة الشخصية والمصلحية والنفعية بين بوتين وحفتر. أما السياق، فهي أنها تأتي في ظل تطلع روسيا لتمدد حضورها ودورها في ليبيا، ومن ثم إلى أفريقيا. ومن مفارقات التحالف بين موسكو وحفتر أن سياق العلاقة يأتي أيضاً في إطار ما يُمكن وصفه بالتوريث؛ فقبل زيارة حفتر -الأب - وقع اللواء خالد حفتر –الابن- اتفاقية استراتيجية مع نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكيروف في 2 أيار/ مايو 2025، تهدف إلى تعزيز القدرات العسكرية لقوات الشرق الليبي عبر الدعم اللوجستي والتدريب والتسليح.
يُذكر أن حفتر خلال زيارته لموسكو اصطحب معه نجليه صدام وخالد؛ هذه ليست علاقات تعاونية ندية وشراكة متبادلة بقدر ما تبدو علاقات عائلية وشخصية تأتي في سياق الاستقواء وخدمة الطموحات الشخصية ودعم النفوذ، الأمر الذي سيُقرأ داخل ليبيا بأن موسكو حسمت علاقاتها وتحالفاتها في المشهد الليبي. وقد حدث أن بعض القراءات والتقديرات الليبية قالت إن أول نتائج زيارة حفتر لموسكو انعكست في الاشتباكات الدائرة في طرابلس عقب اغتيال الككلي.
إن حسابات موسكو في ليبيا لا تتوقف عند لقاء بوتين – حفتر، فالشواهد هناك أعمق وأكبر، ومحدداتها تتزايد وتشهد تنامياً وصعوداً ملحوظاً. مثلاً، قام نائب وزير الدفاع الروسي، الفريق أول يونس بك يفكيروف، بثماني زيارات معلنة لبنغازي في غضون عام ونصف عام بدأت في آب/أغسطس 2023، وتزامنت مع الحديث عن بناء الفيلق الأفريقي، وتوسعة الوجود الروسي العسكري في ليبيا، ولا سيما بعد التغييرات التي شهدتها سوريا.
يحمل اللقاء بين بوتين وحفتر رسائل روسية عابرة للجغرافيا الليبية لا تخلو من دلالات للولايات المتحدة وأوروبا وتركيا، مفادها أن روسيا حاضرة في الملعب الليبي، ولا يُمكن استثناؤها، وأن هذا الحضور مؤثر في توازنات وتحالفات المشهد الليبي ومكوناته، وهو يمتد ويتمدد خارج ليبيا إلى حيث الأفق الأوسع نحو القارة الأفريقية. وبالتالي، فإن لقاء بوتين حفتر يأتي أيضاً في سياق إعادة ترتيب النفوذ الروسي في ليبيا، وبشكل معلن من خلال التحالف مع قائد قوات شرق ليبيا خليفة حفتر.
يحقق اللقاء لحفتر مع بوتين شرعية رمزية دولية عابرة للجغرافيا الليبية ترى فيه أكبر من مجرد قائد لقوات شرق ليبيا. ومن خلال اللقاء، فإن موسكو تُقدم حفتر للأطراف الداخلية في ليبيا وللعالم كزعيم ليبي مركزي في المشهد الليبي. مقابل ذلك، فإن حفتر سيقدم لروسيا كل ما تحتاجه من منافذ وموانئ وقواعد عسكرية جديدة، وهناك حديث بالفعل عن اتفاق بين حفتر وموسكو لإقامة قاعدة روسية في منطقة معطن السارة جنوبي ليبيا.
ويتوقع أن تصبح هذه القاعدة مركزاً رئيسياً لعمليات فيلق أفريقيا الروسي، نظراً إلى موقع المنطقة الاستراتيجي قرب الحدود مع تشاد والسودان، وهو ما يخدم التطلعات الروسية للتمدد في القارة الأفريقية من خلال البوابة الليبية.
يأتي لقاء بوتين حفتر في سياق تنافس روسي أميركي يتطلع لأداء دور في المشهد الليبي، وبالتالي استقبال حفتر في الكرملين يعد إعلاناً روسياً عن تأمين مدخل لموسكو في ليبيا.
ومن دلالات الاستقبال الروسي لحفتر الرد على زيارة البارجة الأميركية لطرابلس وبنغازي مؤخراً، والتي كانت بمنزلة ناقوس خطر بالنسبة إلى الكرملين، فحرصت موسكو على دعوة حفتر واستقباله رسمياً. وبالتالي، فإن اللقاء يعد بمنزلة اعتراف روسي رسمي بحفتر كشريك أساسي ومحدد استراتيجي للدور الروسي ومستقبله في ليبيا وأفريقيا.
في المقابل، وجد حفتر في زيارة موسكو وحفاوة الاستقبال رافعة روسية داعمة لتآكل حضوره وضيق المساحات المتاحة له في المشهد الليبي، ولا سيما عقب تسريب فيديو تعذيب النائب إبراهيم الدرسي ورد فعل المكونات الليبية وإدانتها الفيديو واتهامها حفتر بالوقوف خلف اختطاف النائب الدرسي. وبالتالي، يُريد حفتر توظيف اللقاء لخدمة حظوظه وحضوره وشرعيته كقائد للقوات المسلحة في شرق ليبيا في المشهد الليبي أمام مُنافسيه، وكي لا يستثنى من أي حلول أو ترتيبات قد يشهدها المشهد الليبي مستقبلاً.