ليست خطة لاحتلال غزة... بل لتدميرها!
المعركة مع هذا العدو في حقيقتها ليست معركة على حدود أو مناطق عمرانية فحسب، بل هي معركة تاريخية مستمرة منذ أكثر من سبعة عقود، قدّم فيها الشعب الفلسطيني تضحيات هائلة.
-
المعركة مع هذا العدو في حقيقتها ليست معركة على حدود أو مناطق عمرانية فحسب.
منذ أكثر من أسبوعين بدأت ماكينة الإعلام الإسرائيلية والأميركية، وبدعم من وسائل إعلام إقليمية وعربية، بالعمل بكل ما أوتيت من قوة من أجل تسويق وتعميم فكرة "احتلال" مدينة غزة، أو حسب المصطلح الإسرائيلي الجديد "السيطرة" عليها، وهو في الحقيقة مصطلح مخفّف يهدف للحد من حجم الانتقادات العالمية والدولية التي تلت الإعلان عن هذا التوجّه.
وقد استخدمت تلك الوسائل ذات الإمكانيات الهائلة كل ما في جعبتها من أدوات وقدرات، ولجأت إلى جيش من الناشطين الإعلاميين، ومن الخبراء السياسيين والعسكريين، والمحللين الاستراتيجيين، إضافة إلى الكثير من "مرتزقة" الإعلام ،الباحثين عن المال والشهرة، من أجل إقناع الفلسطينيين، ومعهم كل العالم، بأن جيش الاحتلال على وشك القيام بهجوم شامل ضد مدينة غزة، وفرض سيطرة مُطلقة عليها، وإخلائها من سكّانها بشكل كامل، مُضافاً إليهم بطبيعة الحال سكّان محافظة الشمال الذين لجأوا إليها بعد هدم وتدمير كل المناطق العمرانية في جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا وما يجاورها.
وفي حقيقة الأمر، قد يكون هذا التوجّه الذي جرى التصديق عليه في المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغّر حقيقياً، وقد يكون لدى الاحتلال وقيادته الحالية قرار بالذهاب نحو هذا الخيار، وهو أمر يمكن ملاحظته من مجمل التحركات التي تجري حالياً على الأرض، ولا سيّما في منطقتي الزيتون جنوب شرق مدينة غزة، أو في منطقة التفاح شمال شرق المدينة، إذ إن شكل وتفاصيل العملية العسكرية الجارية هناك تشير إلى رغبة إسرائيلية واضحة في قضم غزة بشكل تدريجي، وتحويلها إلى منطقة قاحلة وجرداء، أقرب إلى الصحراء منها إلى المدينة الجميلة والمزدهرة .
ولكن حتى لا نقع ضحية للمصطلحات الإسرائيلية الموجّهة، والتي تستهدف تزييف الحقائق، وتمرير معلومات خاطئة وكاذبة لخدمة أهدافها العدوانية، فإن ما يجري على أرض الواقع ويمكننا مشاهدته عن قرب، ومن دون أي مؤثرات أو عوائق، كوننا قريبين جداً من الميدان، ونحن على مسافة لا تزيد عن كيلومتر واحد من مكان التحركات الإسرائيلية الحالية في غزة، هو ليس مخطّطاً لاحتلال أو سيطرة على مدينة غزة، وليس هجوماً عسكرياً بغض النظر عن حجمه بهدف القضاء على المقاومة فيها، ولا أيضاً لمحاولة استعادة أسرى العدو لدى الفصائل الفلسطينية، وإنما بكل بساطة هو هجوم مركّب ومتعدّد الطبقات بهدف تدمير وهدم كامل مدينة غزة، وإلحاقها بأخواتها في رفح وخان يونس وجباليا وبيت حانون، والتي كانت في يوم من الأيام حواضر للازدهار والتقدّم رغم الحصار الذي فُرض عليها منذ أكثر من ثمانية عشر عاماً.
ما يجري في غزة ويمكن مشاهدته بالعين المجرّدة، وهو الأمر الذي يمكن أن يتوسّع طولاً وعرضاً في حال بدأ الاحتلال بتنفيذ خطّته الجديدة، هو عبارة عن عملية هدم وتخريب وتدمير ما تبقّى من مناطقها العمرانية، في محاولة واضحة ومكشوفة لتهجير سكّان المدينة، والذين يبلغون حسب آخر الإحصائيات أكثر من تسعمئة ألف نسمة، مضافاً إليهم حوالى أربعمئة ألف من سكان محافظة الشمال، يتكدّس جميعهم في المناطق الغربية من المدينة في خيام بالية، وفي ظروف إنسانية يمكن وصفها بأنها بالغة السوء، ولا تلبي الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية، والتي دأب الاحتلال على استخدامها كسلاح ضغط على المدنيين من أجل كسر إرادتهم، ودفعهم إلى القبول مكرهين بمخططاته القديمة الجديدة، والتي فشلت آلة حربه طوال الشهور الماضية في فرضها عليهم .
في مدينة غزة أكبر مدن القطاع وأكثرها سكاناً، والتي يُنظر إليها بأنها عاصمة القطاع الساحلي الصغير، والذي لا تتجاوز مساحته 365كلم2، تبدو الخطّة الإسرائيلية التي نؤكد من جديد بأنها تُنفّذ بالفعل على أرض الواقع منذ أكثر من ثلاثة شهور، أي منذ بدأ جيش الاحتلال هجومه التدميري الواسع على شرق المدينة في مناطق التفاح والشجاعية وشرق الزيتون، والذي حوّل تلك المناطق كما تشير الصور الواردة من هناك إلى ساحات خراب ودمار غير مسبوقين، وإلى هدم كل البيوت والمنشآت، وتجريف كل المزارع والبيارات، بما يجعل من الحياة فيها ضرباً من العبث أو الجنون ،إذ لا بنى تحتية، ولا مصادر طاقة أو مياه، إضافة إلى استمرار السيطرة النارية للاحتلال عليها بواسطة الطيران المسيّر وسلاح المدفعية، تبدو واضحة وجليّة ولا تحتاج إلى الكثير من التحليل لمعرفة الغرض من ورائها، ولا للتحقّق من أهدافها، حيث تشير كل التحركات إلى نيات العدو الحقيقية، والتي تحمل في طياتها أهدافاً أقل ما يمكن القول عنها بأنها بالغة الخطورة، وستترك آثاراً كارثية على استمرار الحياة في مجمل نواحي قطاع غزة، لا في منطقته الشمالية فقط.
من خلال ما يجري من عدوان في الشهور الأخيرة، والذي تُستخدم فيه قوات عسكرية صغيرة نسبياً، إذ تشارك عشرات الدبابات وناقلات الجند فقط في هذا الهجوم، وهي في الأساس لا تقوم بعمليات هجومية ضد المقاومين في معظم مناطق وجودها ،وتقتصر مهمتها على تأمين عمل الجرافات والحفارات "البواقر"، والتي تقوم بالعمل الأساسي وهو الهدم والتدمير والتجريف، حيث شهدت الفترة الأخيرة زيادة واضحة في عدد تلك الجرافات والحفارات، والتي تتبع في معظمها لشركات تجارية، لا لجيش الاحتلال، وهي تقوم بعمليات تدمير بشكل خططي وممنهج، من خلال تقسيم المناطق العمرانية إلى مربعات، ومن ثمّ تقوم بتدميرها وهدمها، وفي بعض الأوقات تقوم بنقل ركامها إلى مناطق أخرى حتى لا يستعان به لاحقاً لإقامة بيوت أو مناطق إيواء بدائية مؤقتة.
في غزة ومن خلال ما يمكن ملاحظته من حشود إسرائيلية في شرق وجنوب المدينة، والتي تركّز كما أسلفنا على الحفارات والجرافات، يمكن توقّع شكل العملية الإسرائيلية في حال توسّعها، ويمكن تصوّر شكل المرحلة المقبلة من الهجوم الذي يجري التسويق له بشكل من المبالغة الهادفة، والتي يُرجى من خلالها دب الرعب في نفوس الغزيين، ودفعهم إلى مغادرة المدينة باتجاه المنطقتين الوسطى وما تبقّى من خان يونس، والتي لا تكاد تجد فيهما موطئ قدم لوافد جديد، وتفتقدان كما باقي المناطق أدنى مقوّمات الحياة بفعل العدوان والحصار.
يمكننا أن نتوقّع بأن "جيش" الاحتلال سيهاجم من الجو والبر خلال الأسبوعين المقبلين ما تبقّى من مناطق عمرانية في مدينة غزة، والحديث هنا عن مناطق الوسط والغرب التي يوجد فيها كل سكّان المدينة، وذلك بعد أن ينتهي من عمليته في المناطق الغربية من حي الزيتون الواقع جنوب شرق المدينة، والتي تجري حالياً بوتيرة متسارعة، إذ إن عمليات النسف عبر "الريبوتات" المفخخة، والتدمير بواسطة الطائرات الحربية تكاد لا تتوقّف، وهي تقترب بشدّة من وسط الحي، وهو الأمر الذي لم يحدث طوال فترة الحرب، مع أن هذا الحي الذي يُعتبر أكبر أحياء مدينة غزة وأكثرها سكّاناً، قد تعرّض سابقاً لأكثر من سبع عمليات توغّل، إلا أنه لم يُسجّل خلال تلك العمليات هذا الحجم من التدمير.
في حال نفّذ الاحتلال هذا الإجراء، ستكون كل أرجاء مدينة غزة، أو ما تبقّى منها أمام تحدّ خطير، قد يُفضي لا سمح الله لمسحها عن الوجود، وتحويلها إلى أكوام من الركام، كما كانت الحال في رفح وجباليا ومعظم خان يونس، وهو أمر سيؤدي لاحقاً إلى فتح المجال على مصراعيه للانتقال إلى المنطقة الوسطى من القطاع، والتي باتت خلال شهور الحرب ملجأ لمعظم سكّان القطاع بسبب انخفاض العمليات العسكرية فيها.
صحيح أن هناك الكثير من التهويل في حجم العملية العسكرية المقبلة، وصحيح أن جيش الاحتلال يعاني مشاكل في الجاهزية القتالية، ومن إجهاد واضح، ومن نقص في المعدّات والإمكانات، إلا أن هذا الأمر لا ينفي امتلاكه لمروحة واسعة من القدرات تمكّنه من تنفيذ مخطّطه الجديد، والذي يمكن أن يشكّل بالنسبة إليه نصراً معنوياً كبيراً على أقل تقدير، إذ إن السيطرة على مدينة غزة واحتلالها، وتهجير أهلها ستمكّنه من الانتقال إلى مخططه القديم بعودة الاستيطان في المناطق الشمالية من القطاع، والتي بدأت جمعيات الاحتلال الاستيطانية في توقيع عقوده مع بعض المتطرفين والمدنيين منذ أكثر من خمسة أشهر.
على كل حال، سواء قام "جيش" الاحتلال بتوسيع عمليته العدوانية ضد مدينة غزة أم امتنع عن ذلك، وبغض النظر عن تداعيات تلك العملية، والتي نراها شديدة الخطورة والحساسية، فإن المعركة مع هذا العدو في حقيقتها ليست معركة على حدود أو مناطق عمرانية فحسب، بل هي معركة تاريخية مستمرة منذ أكثر من سبعة عقود، قدّم فيها الشعب الفلسطيني تضحيات هائلة، وبذل فيها رغم ما واجهه من خذلان من الإخوة والأشقّاء، كل ما في جعبته من جهد، وهو مصمم على أن يستمر في جهاده ونضاله حتى يحقّق أهدافه المشروعة، وسُيعيد بناء ما يدمره الاحتلال حتى لو بأيديه العارية وأظفاره المهشّمة، فهو شعب صبور عند المحن، شديد عند النوائب، ولا يقبل الضيم، مهما بلغ سيل الخسائر والتضحيات.