ماذا بعد رفع العقوبات الأميركية عن سوريا؟
تحمّل السوري الفقر شرط تحقيق الأمن والأمان؛ وهذا ما لم يتحقق رغم مرور أكثر من خمسة أشهر على سقوط النظام؛ فالعدالة الانتقالية ورأب الصدع الداخلي بين فئات المجتمع.
-
تحمّل السوري الفقر والعوز شرط تحقيق الأمن والأمان.
ليس من المفترض أن يكون هناك جدل حول أحقية الشعب السوري في إبداء فرحته من جرّاء رفع العقوبات الأميركية عنه؛ فمنذ أواخر السبعينيات، يعاني السوريون على اختلاف مللهم ومشاربهم من مقصلة العقوبات الاقتصادية (كأي دولة لم تقبل الخضوع لإرادة الإدارات الأميركية المتعاقبة)، التي تكرست وتضاعفت مع التحولات السياسية في المنطقة، وصولاً إلى بلوغ الذروة مع إقرار قانون قيصر عام 2019، الذي أدى إلى انهيار قيمة الليرة السورية، وتسبب بنقص حاد في المواد الغذائية والطبية الأساسية، فأقفلت بوجه السوريين كشعب فرص الحياة بكرامة.
لا يمكن قراءة حدث رفع العقوبات الأميركية عن سوريا -وبعضها ينتظر إقراره بشكل رسمي من قبل الكونغرس- بمعزل عن المكان والزمان.
من الرياض، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب الخطوة. ومن هناك قال صراحة إنها من أجل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وبناء على طلبه، فما كان من الأخير إلا أن صفّق لقراره وبحرارة تناقلتها وسائل الإعلام كافة.
في خلفيات الخطوة الأميركية، تتراجع الأسباب الإنسانية إلى الخلف، لتحضر السياسة والمصالح، فالعقوبات أدّت غرضها، وأتمّت مهمتها، فسقط النظام، وأفقرت البلاد ودمرت، وهي الآن أرض خصبة لتقديم التنازلات؛ ترحيل ما سماه ترامب "الإرهابيين الفلسطينيين" (والمقصود هنا التنظيمات الفلسطينية التي كانت حركتها في دمشق واسعة ومرنة)، والتطبيع مع "إسرائيل"، وتقاسم مغانم إعادة الإعمار والاستثمار.
يكاد المرء يحار في رصد من فرح أكثر بالخطوة الأميركية، أهو الشعب السوري أم المستثمرون على مختلف جنسياتهم، أكانت عربية أم غربية؟
نعتقد أن المقبل من الأيام سيظهر أن المستثمرين هم المحظوظون، فقد فتح حكام دمشق الجدد أبواب سوريا المدمرة على مصراعيها أمامهم، فإعادة الإعمار والاستثمار في قطاعي النفط والطاقة سيكونان عنوانين عريضين في المرحلة المقبلة.
أما تأكيد الكلام، فأتى على لسان رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع بعد لقائه الرئيس ترامب، فقد دعا الشركات الأميركية للاستثمار في قطاع النفط والغاز في سوريا. وليس غريباً أن تأتي هذه الدعوة متزامنة مع الإعلان عن رفع العقوبات، فلا يمكن لواشنطن أن تقتنص الفرص الاقتصادية في سوريا قبل رفع العقوبات.
تظهر ملامح المرحلة المقبلة من الاستثمار وإعادة الإعمار كشكل من أشكال اقتصاد ما بعد الحرب، أو اقتصاد الكوارث، وهو ذلك الاقتصاد الذي يلتقط الفرص في البيئات المدمرة.
نتذكر جميعاً ما جلبه احتلال العراق وتدمير بنيته التحتية من عقود طويلة الأجل في قطاعات الإنشاء والاتصالات والمياه واستصلاح الزراعة وشبكات الري، والأهم الطاقة. حينها، استحوذت الشركات الأميركية على الحصة الأكبر من كل ذلك، بما فيها الشركات التي يمتلك فيها بوش الابن وديك تشيني رصيداً كبيراً من الأسهم، فكيف يكون الحال مع رجل أعمال شرس دخل عالم السياسة، وليس العكس، مثل دونالد ترامب!
ولكن، كيف يمكن لرفع العقوبات أن لا يتحول شرّاً؟
أولاً: بالانسحاب الأميركي الكامل من شرق الفرات، والعمل على إعادة صيانة حقول النفط والغاز، وتفكيك أي تنظيمات أو مظاهر مسلحة خارجة عن سيطرة الدولة، ورفع يدها عن موارد النفط. وفي حالة الشمال السوري، نتحدث عن قوات سوريا الديمقراطية "قسد" المدعومة مباشرة من الولايات المتحدة الأميركية. وبهذا، تعود سوريا ونفطها إلى ما قبل 2011، إذ تشير الأرقام إلى إنتاج ما يفوق 400 ألف برميل يومياً.
في سوريا، نتحدث عن جغرافيا واسعة لا تعمل معها حلول "فدرلة الاقتصاد"، ناهيك بـ"الفدرلة السياسية" التي تهدد مستقبل البلاد. لذلك، فإن إعادة إنتاج السيناريو العراقي بشأن النفط، كما هو الحال في الشمال أيضاً، سوف يتسبب بإشكاليات اقتصادية للدولة، ولكن للأسف، نصطدم مرة أخرى بجدار ما أنتجته جماعات الحكم الجديدة من شروخ في جسد الدولة القديم والحالي.
ثانياً: المطالبة بالانسحاب الإسرائيلي من الجنوب السوري، أقله من الأراضي التي احتلت بعد سقوط النظام السوري، والأهم استعادة السيطرة على منابع المياه والسدود في كل من القنيطرة ودرعا، فالأمن المائي على المحك.
ثالثاً: استعادة الصناعة في سوريا. ولا يسعنا هنا إلا ذكر المصانع التي سرقت وفكّكت وحملت إلى تركيا. وبعودة الصناعة إلى المدن السورية، وعلى رأسها حلب، تعود الحياة إلى البلاد.
لقد خسر الاقتصاد السوري الكثير من قوته خلال الحرب؛ ففي بداية الأزمة، كان الناتج المحلي الإجمالي يصل إلى 60 ملياراً عام 2010، بنمو 300% عن عام 2000، ولكن الحرب نهشت ما يقارب 85% من هذا الناتج، ناهيك بضياع نسب عالية من اليد العاملة الماهرة.
اتّبع الاقتصاد السوري خلال حقبة النظام السابق نظاماً هجيناً من الملكية العامة والملكية الخاصة. لذلك، فإن عملية تحويل الاقتصاد بعقيدة الصدمة إلى الاستثمار المنفلت من عقاله و"الاقتصاد الحر" سوف تضع البلاد أمام صدمة اقتصادية ليس هناك آمال قريبة أو متوسطة المدى للخروج منها.
لو افترضنا تحقيق ما سبق، وهو افتراض بعيد عن الواقع مع الحالة السياسية الراهنة، هل تحل الأزمة السورية مع حكام سوريا الجدد؟ للأسف، تؤكد الوقائع والأحداث المتتالية منذ سقوط النظام أن المأزق السوري يتعدى ما هو اقتصادي إلى ما هو اجتماعي وسياسي.
لقد تحمّل السوري الفقر والعوز شرط تحقيق الأمن والأمان؛ وهذا ما لم يتحقق رغم مرور أكثر من خمسة أشهر على سقوط النظام؛ فالعدالة الانتقالية ورأب الصدع الداخلي بين فئات المجتمع هو الاستثمار الداخلي الذي تحتاج إليه سوريا في المقام الأول والأخير.