ما بين الأندلس وفلسطين

العمل العربي المشترك أصبح منذ عقود مناسبة بروتوكولية للقاءات لا تثمر ولا تتمّ متابعة أيّ من قراراتها، هذا إذا تمّ التوصّل إلى قرارات يمكن أن تحدث فرقاً في أيّ موضوع حسّاس وعاجل. 

0:00
  •  الحركة الجامعية لصالح فلسطين شكّلت تهديداً للمخطط الاستراتيجي للعدو الصهيوني.
    الحركة الجامعية لصالح فلسطين شكّلت تهديداً للمخطط الاستراتيجي للعدو الصهيوني.

هناك أسباب عديدة قادت إلى الخلل الواضح في توازن القوى بين العرب ومن يناصبهم العداء في المنطقة والعالم. أحد أهم هذه الأسباب هو أنّ مستهدفي هذه الأمة قد وضعوا مخططات استراتيجية على مدى قرن من الزمن وعمدوا إلى تطبيقها مرحلياً من دون تسليط الأضواء على خطاهم أو مخطّطاتهم.

على العكس من ذلك فقد ركّزوا دوماً على مظلوميّتهم وعلى قوة وغنى الآخر واتساع أرض العرب مقارنة بالأرض المحتلة وتفوّق العرب الديموغرافي والسكاني عليهم. ولعقود بدا العرب مرتاحين لهذه السردية ربما لأنها تشعرهم بقوتهم واستحالة التفوّق عليهم مما يعني أنه ليس عليهم أن يقوموا بأيّ فعل لدرء أيّ خطر مستقبلي مقبل من هذا العدو طالما أنّ الخطر غير ممكن وغير متوقّع في الأساس.

ولكنّ هذا التفكير المطمئن كان مصدره الخصوم وليست الدراسات العربية الاستراتيجية المعنية بقوة هذه الأمة وسلامة مستقبلها. ففي الوقت الذي كان الكيان الصهيوني يطلق على الدول العربية المحيطة به اسم "دول الطوق" كي يوهم العالم أنّ الكيان محاصر من قبل أعداء أقوياء، كانت الخطط الإسرائيلية تركّز على الصناعات الاستراتيجية وخاصة العسكرية منها، بما في ذلك تحقيق التفوّق النووي والجوي والإلكتروني والتجسّسي بعد أن نجحت خطط الإسرائيليين التي وضعوها في العقد الأخير من القرن التاسع عشر في مؤتمر بازل بإحكام السيطرة على المال والإعلام وشراء ذمم النخب السياسية في الدول الغربية. 

والفرق شاسع بين ردود أفعال الطرفين: الطرف العربي يهلّل لإنجازاته الصغيرة لأنه لا يرى خسائره وأرباحه ضمن منظور استراتيجي بعيد المدى، بينما الطرف المعادي يراكم إنجازاته مع الاستمرار في شكواه الدولية من صغر مساحته وقلّة سكانه في محيط عربي يريد أن يبتلعه، في الوقت الذي يقوم هو بقضم أراضٍ وبناء مستوطنات وتهجير السكان الأصليين من ديارهم وقتلهم والفتك بهم. كما اعتمد هذا العدو على نشاط استخباراتي واسع لدبّ الفرقة في صفوف العرب وتجنيد العملاء وشراء ذمم صغار النفوس وبثّ الفرقة بين أبناء البلد الواحد وبين أبناء هذه الأمة.

السبب الثاني هو أنّ العرب لا يجرون مناقشة ومراجعة شفّافة لما أصابهم بالفعل ولا يبحثون في عمق الأسباب التي قادت إلى التراجع والنكسات. فالعمل العربي المشترك أصبح منذ عقود مناسبة بروتوكولية للقاءات لا تثمر ولا تتمّ متابعة أيّ من قراراتها، هذا إذا تمّ التوصّل إلى قرارات يمكن أن تحدث فرقاً في أيّ موضوع حسّاس وعاجل. 

فصيغ العمل العربي المشترك من الجامعة العربية إلى كلّ المنظمات والمؤسسات العربية أصبحت صيغاً صورية تعتمد الوجود الإعلامي الآني وإغلاق الدفاتر من بعدها إلى موعد الاجتماع المقبل، وكأنّ الهدف أصبح تخدير الجماهير بخبر يعطي الانطباع بوجود عمل عربي من دون أن يكون هذا العمل موجوداً فعلاً. 

ولذلك حصل تراكم كمّي ونوعي في مكوّنات القوة لكيان غاصب معتدٍ، مقابل تراكم نكسات وخسائر وشقاق في الجانب العربي إلى حدّ اصطفاف بعض العرب ضدّ بلد عربي آخر قرّر الغرب تدميره وصولاً إلى العجز العربي عن إنقاذ عرب غزة من جرائم الإبادة والقتل والتجويع المتعمّد.

من هذه العجالة الاستراتيجية لواقع الحال نحاول أن نقرأ الأهداف البعيدة لما حلّ بقضيتنا المصيرية بالأمس بعد 7 أكتوبر 2023، وأن نتساءل لماذا كلّ ذلك الزخم الغربي لقمع تظاهرات جامعية مؤيّدة لفلسطين في الولايات المتحدة وأوروبا بحيث أنّ الغرب نفسه ضجّ بالمقالات أنّ ردود الفعل كانت غير متناسبة مع الفعل على الإطلاق، خاصة وأنّ الدساتير الغربية تضمن في مجملها حقّ التظاهر وحرية التعبير. 

فلماذا كلّ تلك الهستيريا والعقوبات المجحفة جداً والتي دمّرت حياة ومستقبل مئات الطلاب والأساتذة والذين لم يرتكبوا أيّ جرم وفق قوانين بلادهم. فهم لم يعتدوا على أحد بل عبّروا عن آرائهم بدعم حقّ الفلسطينيين في غزة بالحرية والحياة، ونظرياً كلّ الديمقراطيات الغربية تضمن لهم هذا الحقّ. 

الجواب هو لأنّ هذه الحركة الجامعية لصالح فلسطين شكّلت تهديداً للمخطط الاستراتيجي للعدو الصهيوني الذي يهدف لابتلاع فلسطين كلّها، والانطلاق منها لاحتلال بلدان عربية أخرى وتأسيس الإمبراطورية الصهيونية على حساب الأمّة العربية. 

هذا الحراك وهذه التظاهرات الهامة جداً أنذرت الأعداء بنتائج تشبه نتائج الحملات الجماهيرية ضدّ حرب فيتنام، فكان لا بدّ وفق المخطّط المرسوم من إرهاب وترهيب كلّ من تسوّل له نفسه الوقوف في هذا الصف كي يعلم أنه يغامر بمستقبله ولقمة أولاده. فكانت ردود الفعل لهذه التظاهرات خارجة عن كلّ سياق معهود وذلك بسبب ما تضمّنته من إمكانات لإحداث خلل في ميزان القوى لصالح المقاومة وقوى التحرير المناهضة للاحتلال والاستيطان. 

كما أشارت مصادر غربية إلى أنّ ابتزازاً وترغيباً وتهديداً تمّت ممارسته على نجوم الفن والموسيقى والسينما كي لا يتجرّأ أحدهم على إعلان تأييده لفلسطين كما فعلت جين فوندا إبّان الحرب على فيتنام. أضف إلى ذلك امتناع وسائل الإعلام العالمية عن تغطية مجازر الإبادة بحقّ شعب فلسطين إلى الحدّ الصفري.

وفي السياق ذاته ومع مشاهد الموت اليومي لأطفال غزة والتي لا يتحمّلها ضمير أيّ إنسان سوي يبرز السؤال لماذا كلّ هذا الفتك بأرواح بريئة لم تنل فرصة الحياة قبل أن تموت، ولماذا كلّ هذه الإبادة غير المسبوقة في التاريخ الحديث؟ من دون أن تتحرّك الحكومات أو الشعب العربي، آخذين بعين الاعتبار أنّ كلّ ادّعاءات العدو واتهاماته للمقاومة ومهزلة المفاوضات ما هي إلا مسوّغ غير مقبول لاستمراره بهذه الإبادة المجرمة المتعمّدة والتي تسير وفق مخطط عدواني مرسوم سلفاً لاحتلال غزة والضفة. 

الهدف من كلّ ما يتمّ ارتكابه من مجازر هو ترويع العرب كلّ العرب وإرهابهم بأنّ هذه المرحلة هي المرحلة الصهيونية التي تسحق البشر والحجر ممن تسوّل له نفسه الوقوف في وجهها أو اعتراض مسارها، وأنّ الأمن الوحيد لأيّ طرف هو فقط من خلال استرضاء هذه القوة والعمل في كنفها على خطى دويلات الطوائف في الأندلس.

هذه الرؤية الاستراتيجية الصهيونية تلقى، للأسف، آذاناً صاغية لدى بعض الواهمين أنهم بسبب عرقهم أو دينهم أو اصطفافهم أو ما قدّموه من خدمات يمكن أن يكونوا في مأمن من طغيان الإبادة القائم والمقبل. فكما أنه لم يكن هناك مأمن لأي مسلم وعربي حين سقطت الأندلس فلن يكون هناك مأمن لأيّ عربي إذا سقطت فلسطين، لأنّ فلسطين هي البوصلة وهي المجهر الذي يرى العدو من خلاله مستقبل الأمة جمعاء. 

ولذلك فإنّ من ينتصر لفلسطين فإنما ينتصر لنفسه ولبقائه ولعزّته وكرامته. أما من يلبس لبوس الجبناء والمهزومين فلن يكون في منأى من الخطر وستلاحقه خطط العدو إلى عقر داره ولن يجد لنفسه مأمناً ولن ينفعه ما يقوله أو يعمله في حينه. ولهذا فإنّ خذلان أطفال غزة والضفة وفلسطين اليوم إنما هو خذلان لأنفسكم غداً لو كنتم تعلمون. ذلك لأنّ فلسطين هي العتبة التي يقفز منها العدو ومؤيّدوه في الغرب لتدمير هذه الأمة والسطو على أرضها ومقدّساتها وتاريخها وثرواتها. وإنّ غداً لناظره قريب. من لم يتعلّم بحصافة ودهاء من دروس الماضي لن يتمكّن من بناء مستقبل.