ما قالته الحرب (1-2)

عندما جرّبت إسرائيل والولايات المتحدة الاستثمار في اللحظة الخاطفة، بدأت تصريحات ترامب تدعو إيران إلى استسلام غير مشروط، لكنّ إيران امتصّت اللحظة، فتغيّرت اللهجة الأميركية وصولًا إلى مرحلة وقف إطلاق النار.

  • الألم وقلق الاستنزاف أوقفا الحرب.
    الألم وقلق الاستنزاف أوقفا الحرب.

فشل الرهان الإسرائيلي والأميركي على اللحظة الخاطفة في الثالث عشر من حزيران؛ ومع فشل تلك اللحظة لم يعد من الممكن أن نعود إلى اللحظة التي سبقت ذلك الرهان، والتي سبقت الحرب كلها.

كان الرهان الأكبر على إحداث خلل في النظام السياسي، وخلل في القيادة العسكرية، بالتزامن مع تحريك خلايا نائمة أعدّ لها الموساد طويلاً، للهجوم بالمسيرات من داخل إيران، والانقضاض على مؤسسات الدولة وإلحاق الضرر ببنيته العسكرية؛ وتحديداً أنظمة الدفاع الجوي.

ليس من الغرابة في شيء، ولا هوساً بنظرية المؤامرة، القول إن انطلاق المفاوضات غير المباشرة نفسها، التي سبقت الحرب، كانت ستاراً لتلك اللحظة، وجزء من خطة التضليل الاستراتيجي لواشنطن و"تل أبيب". 

ما حدث، أقلّه عسكرياً، كأنه نسبياً حرب أكتوبر 1973 معكوسة، فبعد نجاح اللحظة الخاطفة للجيشين المصري والسوري؛ بادر الاتحاد السوفياتي آنذاك إلى طرح مشروع لوقف إطلاق النّار، رفض هنري كسنجر المقترح، لأنه يرى أن التوقيت المناسب لأي وقف لإطلاق النّار يحدث على أكتاف وضعية ميدانية مناسبة لـ"إسرائيل"، واستمرت المماطلة إلى حين لحظة "ثغرة الدوفرسوار"، لتكون بذلك نهاية الحرب مناسبة لواشنطن و"تل أبيب".

عندما جرّبت "إسرائيل" والولايات المتحدة الاستثمار في اللحظة الخاطفة، بدأت تصريحات ترامب تدعو إيران إلى استسلام غير مشروط، ولكن إيران امتصت اللحظة وتجاوزتها؛ وبتوظيفها الفعّال لقدراتها الصاروخية خلقت واقعاً ميدانياً جديداً لما بعد الصدمة؛ وتغيّرت اللهجة الأميركية وصولاً إلى البحث عن فعل تفاوضي جديد عبر وسيط الترويكا الأوروبية؛ والقفز بعدها إلى مرحلة وقف إطلاق النّار.

وإذا كانت "إسرائيل" عام 1973 وقفت على قدميها بفعل جسر النار الأميركي، بعد أن طلب كسنجر من معاونيه عدم إيقاظ نيكسون من النوم لأنه شخص انفعالي وقد يربك المشهد، فإيران الهادئة بكلّها، استعادت المبادرة بمحض روافعها الداخلية الخاصة، الداخلية الخاصة تماماً. 

الألم وقلق الاستنزاف أوقفا الحرب

إذا كان مبدأ الحروب الطويلة يغيب عن العقيدة الأمنية الإسرائيلية، أو أن تحديثات هذه "العقيدة" لم تتكيف مع هذه الفكرة، فإن الثابت في العقيدة الأمنية هو استكمال الحرب التي تبدأ إلى حين إنهاء الطرف الآخر، وتحقيق جميع الأهداف المرسومة، طالما أن ذلك ممكناً، وبأقل تكلفة. 

عندما تتوقف "إسرائيل" عن الحرب، تأكد أنها تتوجع، وأنها شعرت بنفسها على أعتاب أزمة استراتيجية قابلة للاستمرار. 

عندما يقول موقع "غلوبس" أن كل صاروخ إيراني تسبّب ب 4 آلاف طلب تعويض، وأن الحرب تسبّبت في إخلاء أكثر من 18 ألف إسرائيلي، انتقلوا إلى العيش في الفنادق والمساكن المستأجرة، وعندما تنقل "رويترز" أن شركة "العال" للطيران استقبلت 25 ألف طلب للسفر خلال الحرب؛ فهذا ليس إلا جزءاً من القصة.

فالجزء الأكبر الذي تقلق منه "إسرائيل" هو تسييل النتائج المؤجلة؛ وتقف في مراجعة مرتجفة للتاريخ؛ وتتذكر أن 14 ألف مستوطن غادروا أراضي فلسطين المحتلة بعد الانتفاضة الأولى، التي كانت انتفاضة حجر، و27 ألفاً غادروا بعد الانتفاضة الثانية، و500 ألف بقوا في أماكنهم في الخارج ولم يعودوا بعد أن بدأ "طوفان الأقصى"، و83 ألفاً غادروا عام 2024 بتداعيات "طوفان الأقصى". "إسرائيل" ببساطة تخشى من لحظة التسييل هذه، وهي تدرك أن ما يقارب 800 ألف مستوطن غادروا فلسطين المحتلة منذ تأسيس الكيان إلى ما قبل الطوفان بسنتين. هل تعود أطياف الهاغاناه التي حرقت سفينة باتريا عام 1940 لمنع المستوطنين من مغادرة فلسطين؟

انتقام الجغرافيا

عندما بدأ العدوان الإسرائيلي على إيران، وضع المخيال العام تصورات عدة لطبيعة الحرب التي قد تحدث؛ فإذا كانت "إسرائيل" تعتمد على المقاتلات الحربية في طلعاتها الجوية، بدعم أميركي، لتعتدي على الأراضي الإيرانية، فكيف يمكن لإيران أن ترد من بعد 2000 كم، من دون استخدام مقاتلات حربية مماثلة؟

عندما ركّزت إيران في استثمارها العسكري في البرنامج الصاروخي، استند قرارها إلى مجموعة من العوامل، منها:

1. طبيعة الجغرافيا الوسيطة واصطفافها السياسي واحتضانها لمجموعة من القواعد العسكرية الأميركية، التي تدعم الجانب اللوجستي للمقاتلات الحربية (الوقود، الصيانة، إلخ...). تفهّمت إيران حساسية هذه الجغرافيا؛ وبدلاً من التوتير، ذهبت إلى خيار آخر؛ وهو الدبلوماسية المرنة مع هذه الجغرافيا، تحت عنوان حسن الجوار. 

2. إمكانات السباق في مجال المقاتلات الحربية: تحدّى المفكر الاقتصادي المصري جلال أمين، في كتابة "خرافة التقدم والتخلف" النماذج السائدة في تقييم التأخر عن النموذج الغربي، وينطلق في كل ذلك، من اعتماد مبدأ خصوصية التجربة، فإذا كان الغرب طوّر نموذجه الخاص، فليس بالضرورة أن تحاول تقليده وتسير خلفه، وبذلك أنت بكل بساطة لست متخلفاً عنه!

وإذا كان أمين يركز جهوده في الاجتماع والاقتصاد، فالتجربة العسكرية الإيرانية تقدم محاكاة لفكرة أمين عسكرياً، فاعتماد البرنامج الصاروخي هو تحدّ لمعايير تقييم التقدم العسكري، فإذا كان الغرب يعدّه الطائرة المقاتلة، فعدّه الإيرانيون الصواريخ الدقيقة!

3. التكلفة.

يكمن اللغز العسكري الإيراني في الوصول بدقة إلى بنك أهداف في عمق استراتيجي ضيّق، قد يتوزّع على 10 آلاف كم مربع، محاط بغابة من المضادات الجوية على امتداد الجغرافيا المحيطة، براً وبحراً، وكل ذلك مع تحييد عنصر قوة إيراني من المعركة (القوة البرية). في المقابل، تمتد إيران على مساحة مليون و600 ألف كم مربع، ليس من السهل تغطيتها بالكامل بأنظمة الدفاع الجوي. 

ولكن هذه المعادلة الجغرافية، التي حملت تعقيداتها الخاصة، وتجاوزتها إيران بنموذج الصواريخ الدقيقة، حملت معها أيضاً هداياها التاريخية، فاستهداف محطة بازان في حيفا، كان يعني استهداف 49% من حاجة "إسرائيل" إلى وقود المركبات الصغيرة، و59% من حاجتها إلى وقود الشاحنات والقطارات، وبذلك تكون هذه المحطة عصباً أساسياً لقطاع النقل، وإذا توسّعت دائرة الاستهداف أكثر، لتطال المنشآت التي تغذي قطاع الكهرباء؛ حقول غاز ليفاثيان وتامار؛ عندها تكون المشكلة الإسرائيلية الطاقوية مركبة؛ نقل وكهرباء..

في المقابل، إيران التي تنتج سنوياً 365 ألف جيجا واط من الكهرباء، فإن الجغرافيا الواسعة نفسها، التي تعطي بنك أهداف واسعاً، تحمل معها خيارات بديلة متعددة لمنشآت الطاقة!

وإذا كان معهد وايزمان يشكل عقدة مركزية في العقل البحثي الإسرائيلي (الحلقة الأولى في سلسلة البحث كمركز للعلوم الطبيعية، أو باعتباره تركة غربية ثمينة تشبه خطوط إنتاج السلاح والقواعد العسكرية إبان الحرب العالمية الثانية، أو باعتباره حلقة مركزية في التواصل مع الشركات التكنولوجية الناشئة عبر الوحدة 8200، أو بصلته بالأبحاث النووية)، فإن عقدة مركزية كهذه غير موجودة في إيران.

في الانتقال من الجغرافيا إلى الديمغرافيا، راهنت "إسرائيل" على اغتيال العلماء النوويين، كما فعلت سابقاً مع يحيى المشدّ وسميرة موسى، ومع الخزان البشري الكبير لإيران من العلماء النوويين، تجد "إسرائيل" نفسها محصورة بمروحة من العلماء، الذين يسهل اصطيادهم في المؤتمرات العلمية في أوروبا، المنشورة أوراقها على الإنترنت، ولكن إيران لم تفعل ذلك!

إلى جانب "انتقام الجغرافيا"، كان ثأر الشخصية الإيرانية المستقلة، التي أثبتت مجدداً أنها عصية على الإخضاع!

روسيا والصين.... استجابة أسرع للخطر؟

12 يوماً من الحرب، ربما لم تكن كافية لكشف حدود الدعم التي يمكن أن تذهب بها روسيا والصين. ومع أن كلا الطرفين قدّما موقفاً سياسياً داعماً لإيران، إلا أنّ ضرورات تغيير النظام الدولي وتحديثه تحتاج لما هو أبعد!

في استطلاع لآراء عدد من الباحثين والمفكرين أجرته RT، يقول المفكر الروسي ألسكندر ديوغين، إذا سقطت إيران، فالتالي هو روسيا. ولا يجد من مانع من إثارة ملفات نووية لها أيضاً. وفي المقاربة بين "إسرائيل" وأوكرانيا، اللتين لم تكونا موجودتين أصلاً، يرى أن دورهما الوظيفي هو نفسه، كيان وظيفي للغرب الجماعي (Collective West’s Proxy). والسؤال الذي يطرح نفسه على روسيا بإلحاح؛ ليس أن تحارب أو لا، فهي أساساً تحارب في أوكرانيا، ولكن السؤال هو كيف؟ وبسرعة!

الجرس الذي يقرعه ديوغين مرتبط تحديداً بعامل السرعة، والمبادرة، وإذا كانت مؤشرات كثيرة تظهر هبوط الغرب، إلا أنه ما زال شرساً ومبادراً. لروسيا خاصرتان يبحث الغرب عن إيلامها منهما؛ الأولى من الغرب تشهد حرباً طاحنة مع الأطلسي في أوكرانيا، أما الثانية فمن الجنوب، من آسيا الوسطى، وإيران بوابتها الجغرافية الأوسع. هل كانت روسيا تحتمل الانتظار؟ 

يفخر الروس بإنجاز كبير في آسيا الوسطى في عهد بوتين، وهو تفكيك القواعد العسكرية الأميركية التي كانت هناك، ومن ذلك القاعدة الأميركية في أوزبكستان التي تفككت عام 2005، والقاعدة العسكرية في قرغيزيا التي تفكّكت عام 2005، وعندما انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان، صرّح بوتين بإمكانية استخدام القواعد العسكرية الروسية لمراقبة النشاطات الإرهابية، وكأنها سخرية انتقامية للتاريخ... هل كانت روسيا تحتمل العودة عن كل هذا؟

تستورد الصين الطاقة من مصادر متعددة، وتقول المصادر الغربية أن حجم وارداتها من إيران بالذات أعلى مما تقوله التقارير الإحصائية المختلفة، وأنها تستورد 90% من صادرات إيران النفطية. ولكن الاضطراب الطاقوي الأكبر الذي يرتد على الصين في حال اضطراب إيران؛ أولاً أن 45% من وارداتها النفطية تمر عبر مضيق هرمز، وثانياً أن إيران مصدر تزويد طاقة موثوق في الخليج، لا تغير سياساته الضغوط الأميركية. 

المصالح الاستراتيجية الروسية والصينية مع إيران تفرض استجابة أسرع في التعامل مع أي تهديد ضد إيران:

1. أكدت الحرب على إيران انتهاء فرضية الإراحة المتبادلة في الساحات الاستراتيجية الثلاث؛ بمعنى أن الضغط الأميركي في أوكرانيا يخفف منه في غرب آسيا أو العكس. واشنطن لا تتبنى تجميداً استراتيجياً لفعاليتها في أي من الساحات، مع إمكانية تبديل الأولويات تكتيكياً. 

2. عنوان "عالم متعدد الأقطاب" لا يمكن أن يعمل من دون الاستجابة السريعة للأحداث، وما صدر في "إعلان قازان" في أكتوبر 2023، من ضرورة إعادة هيكلة الهيئات الدولية، وتفعيل عملها، يتطلب ضغطاً أكبر من داخلها وخارجها، وقد برز مثال الوكالة الدولية للطاقة الذرية في هذه الحرب كعنوان بارز. 

 

"إسرائيل" تشن عدواناً على الجمهورية الإسلامية في إيران فجر الجمعة 13 حزيران/يونيو يستهدف منشآت نووية وقادة عسكريين، إيران ترد بإطلاق مئات المسيرات والصواريخ التي تستهدف مطارات الاحتلال ومنشآته العسكرية.