ما هي مؤشرات النصر الانتخابي لزهران ممداني في نيويورك؟

ما الذي يعنيه نصر زهران ممداني ؟ وهل هو خدعة سينمائية فحسب، كما يذهب البعض؟  أم أنه نصرٌ كبيرٌ، من خارج النص، للمهاجرين في الولايات المتحدة، وللمسلمين، ولغزة؟

  •  مؤشرات النصر الانتخابي لزهران ممداني في نيويورك.
    مؤشرات النصر الانتخابي لزهران ممداني في نيويورك.

لعل أحد أهم إبداعات النخب الحاكمة في الأنظمة المسماة "ديمقراطية ليبرالية" هو قدرتها على تجديد مشروعيتها، واستعادة توازنها، في مواجهة أي تحولات كبرى قد تهز بيئتها سياسياً.  وكثيراً ما يجري ذلك من خلال استيعاب خصوم المنظومة الحاكمة في إطارها وتحت جناحها، لا بصفة متساقطين فرادى، بل بصفة "شركاء" يحرزون "بداية جيدة"، ويملكون "مشروعاً واقعياً" لتصحيح المظالم المتراكمة تاريخياً.

تحت عنوان "العمل من داخل النظام"، بدلاً من الانقلاب عليه، وضرورة بذل ما يلزم من تنازلات للوصول إلى "موطئ قدم"، يحقق أولئك الخصوم، بعد نضالٍ صعب، نصراً رمزياً، وقليلاً من المكاسب الحقيقية، بعيداً عن "التطرف" ونوازع التغيير الجذري.  وفي المقابل، تحتفظ النخبة الحاكمة، بعد تجديد حيوية منظومتها، بالسيطرة على القمم العليا للقرار السياسي.

لذلك، جرى مثلاً تلميع مارتن لوثر كينغ، الذي دعا للاندماج في النظام الأميركي، في مقابل حصة أكبر فيه للأميركيين من أصل أفريقي، بدلاً من مالكوم أكس (الحاج مالك الشباز)، والذي دعا إلى الانقلاب عليه والانفصال عنه.  

كذلك جرى دوماً إبراز دعاة "إصلاح النظام" وتكريسهم متحدثين رسميين باسم المظلومين والمهمشين، بدلاً من دعاة الثورة عليه، كلما نشأت حركات اجتماعية تهدد استقرار المنظومة وديمومتها.  

في الحرب الباردة مثلاً، أفسحت النخب الحاكمة في الغرب حيزاً كبيراً للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، وللنقابات العمالية الخاضعة للمنظومة الإمبريالية، تحت لافتة "دولة الرفاه" و"العقد الاجتماعي"، ضمن منطق الحفاظ على استقرار المنظومة وتماسكها، في حين ظنت تلك الأحزاب والنقابات أنها "تحقق تقدماً ملموساً من داخل المنظومة"، ما دامت ملتزمة بخطوطها الحمر.  

ولمّا شعرت تلك النخب الحاكمة أن الاتحاد السوفياتي في نهاية عهد ليونيد بريجنيف دخل مرحلة أفول، كشرت عن أنيابها وراحت تتبنى سياسات نيوليبرالية شرسة، وأعادت ترتيب البيت الداخلي سياسياً بما يناسب انطلاقها نحو فضاءات العولمة. وبدأ ذلك منذ بداية الثمانينات بالمناسبة، قبل انهيار المنظومة الاشتراكية رسمياً، مع مارغريت ثاتشر في بريطانيا ورونالد ريغان في الولايات المتحدة الأميركية، واشتد بقوة في النصف الثاني من الثمانينات في عهد ميخائيل غورباتشوف.     

في حبكات أفلام هوليود أيضاً، ثمة خيطٌ سرديٌ شائع عن فساد واسع النطاق يشوب بيروقراطية الدولة والأجهزة الأمنية والشركات الكبرى فيتصدى له فردٌ همامٌ لا يعبأ بالمخاطر، بعد تمكنه من الوصول، أخيراً، إلى "العناصر الجيدة" في المنظومة ومن "كشف الحقيقة لهم"، ليتحقق العدل بعد طول كفاح.    

وهي حبكةٌ مكررة، في قالبٍ درامي جذّاب، هدفها تمرير مقولة "العمل من داخل النظام"، ومقولة "قدرة المنظومة على إصلاح نفسها"، ومقولة "البطولة الفردية"، كأن الواقع يحاكي الفيلم السينمائي، أو كأن الفيلم يحاكي الواقع السياسي.  وليست هوليود سوى مصنعٍ كبيرٍ لإنتاج الصور والأرباح والإذعان الجماهيري.  

لذلك، في الأيديولوجيا السائدة وفي انعكاساتها سينمائياً وإعلامياً، في فضاء تلك المرايا المتقابلة التي لا يعود ممكناً معها تمييز الحقيقة عما يشبهها، وفي مواجهة الفرحة العارمة شعبياً بنصر زهران ممداني في انتخابات عمدة نيويورك، يجب أن نضع على الطاولة أولاً السؤال المفصلي الآتي، لأنه المطروح فعلياً: هل يمكننا حقاً إصلاح المنظومة الإمبريالية وتغيير طبيعتها من داخلها؟  

وبالمعية، هل يمكن إصلاح المنظومة "الإسرائيلية" من داخلها، عبر الكنيست مثلاً؟  وهل الانتخابات هي الطريق لتحرير الشعوب من الهيمنة الإمبريالية والاحتلال الصهيوني؟

وإذا كانت المنظومة الأميركية أكثر مرونةً وانفتاحاً واستقراراً وقوةً، وبالتالي أكثر استعداداً لتقبل التغيير من داخلها، مقارنةً بالمنظومة السياسية في الكيان الصهيوني الأحدث عهداً والأقل مشروعيةً في محيطها، الأمر الذي يفرض عليها التقوقع على ذاتها، هل يصبح تقبل المشروع الصهيوني في المنطقة "استراتيجية عبقريةً" لدفعه إلى الانفتاح كي نتمكن من اختراقه وتغييره مِن الداخل؟!     

إذا كان الجواب هو أن ذلك ممكن، ووارد، وأن ذلك هو درس نجاح زهران ممداني في انتخابات رئاسة بلدية نيويورك، كما يوحي ضمناً أو يصرّح البعض، فإن ذلك يعني أن علينا تغيير خطابنا وطرق عملنا تماماً، وأن نتخلى عن المقاومة المسلحة، ومشروع التحرير، وشعاراتنا الكبيرة، ومصطلحاتنا "الخشبية"، وفوراتنا العاطفية، و"انغلاقنا"... 

فلنتوجه إذاً، عوضاً من ذلك، إلى مخاطبة الناخبين في الغرب والكيان الصهيوني بالحسنى، وأن "نناضل" في الآن عينه لتحسين شروط الانخراط في بناهم ومشاريعهم السياسية، كمشروع ترامب لغزة مثلاً، وأن نبحث عن قواسم مشتركة معهم، لعلهم "يتفهمون" مظالمنا ويعطفون علينا ويغيّرون توجه حكوماتهم عبر صندوق الاقتراع، و"كفى الله المؤمنين شر القتال".

وإذا كان الجواب هو أن ذلك غير ممكن، كما تثبت دروس التاريخ ملياً وطبيعة عدونا الجوهرية، وأن نجاح زهران ممداني انتخابياً، وما يوازيه من أمثلة، لا يمس جوهر خيارات المنظومة ولن يغير من طبيعتها، فإن السؤال يبقى: ما الذي يعنيه نصر زهران ممداني إذاً؟  وهل هو خدعة سينمائية فحسب، كما يذهب البعض؟  أم أنه نصرٌ كبيرٌ، من خارج النص، للمهاجرين في الولايات المتحدة، وللمسلمين، ولغزة، ولليسار كما يذهب البعض الآخر؟

ليس ما يلي محاولة للنيل من زهران ممداني أو أهمية نصره الانتخابي أو من الفرحة بذلك النصر، لأن ما حدث يمثل فعلاً هزّة سياسية في عاصمة الولايات المتحدة اقتصادياً ومالياً، نيويورك، "التفاحة الكبيرة" The Big Apple، كما يلقبها الأميركيون. 

نيويورك، أكبر مدينة في الولايات المتحدة التي يقطنها 8 ملايين ساكن في الليل، و10 ملايين خلال النهار، يُضاف إليهم نحو مليون من المهاجرين غير المسجلين.  

نيويورك التي تضم أكبر تجمعٍ لليهود في العالم بعد الكيان الصهيوني، وأكبر مطار أميركي هو JFK، وأكبر قوة شرطية في الولايات المتحدة يبلغ قوامها 33 ألفاً زائداً 15 ألف موظف مدني، والتي تضم أكبر عدد من أصحاب المليارات في العالم (123 ملياردير سنة 2025، بحسب مجلة "فوربز")، والتي تعد العاصمة المالية للعالم، لا للولايات المتحدة فحسب، انطلاقاً من شارع "وول ستريت"، الحصن الحصين لرأس المال المالي الدولي. 

ليس أمراً هيناً في مكان كهذا أن يصل مسلم هندي مهاجر، ينتمي إلى منظمة يسارية، هي "الاشتراكيون الديمقراطيون في أميركا" DSA، إلى رئاسة بلديتها.  لذلك، هي هزة بكل تأكيد، وضربة على الحافر، بالمقاييس الأميركية.

لكنّ نيوريورك هي إحدى أكثر المدن ليبراليةً في الولايات المتحدة، وأحد أهم مراكز الحياة الثقافية، كما في عشرات المسارح في "برودواي"، كما أنها عاصمة عالم الأزياء أميركياً.  

وهي من أكثر المدن الأميركية تنوعاً عرقياً وثقافياً، وفيها جيوبٌ وحاراتٌ منطوية على ذاتها.  وقد ولد نحو 37% من سكان المدينة خارج الولايات المتحدة، ويتحدث نحو 50% منهم لغة غير الإنكليزية في المنزل. 

نيويورك التي تحار عندما تسير في شوارعها إن كنت في الصين أو إيطاليا أو اليونان أو بلاد الشام، فضلاً عن ضواحي الأميركيين من أصل أفريقي في بروكلين أو البرونكس، أو الضواحي اللاتينية في البرونكس أو كوينز.   

وهي مدينة ما زالت، حتى يومنا هذا، عاصمة المافيا الإيطالية في الولايات المتحدة بعائلاتها الخمس (غامبينو، لوكيزِه، جنوفيزي، بونانو، وكولمبو)، رغم امتداد شبكات تلك المافيات إلى مدنٍ أميركية أخرى.

كانت قدرة ممداني على استقطاب الصوت المهاجر عاملاً حاسماً في تحقيق نصره الانتخابي، إذ تشير استطلاعات الرأي، بحسب قناة ABC في 7/11/2025، إلى أن 81% من الذين عاشوا في نيويورك أقل من 10 سنوات صوتوا له، في حين لم يصوت له إلا 38% من الذين ولدوا في المدينة، في مقابل 49% منهم صوتوا لخصمه أندرو كومو. 

كذلك اكتسح ممداني صناديق الاقتراع بأصوات الناخبين الشباب تحت سن الـ 30 الذين صوّت 78% منهم لممداني، في حين صوّتت غالبية الناخبين فوق سن الـ 45 (نحو 54%) لخصمه كومو.

شهدت هذه الانتخابات مشاركة مئات الآلاف ممن يصوتون لأول مرة، وخصوصاً بين المهاجرين المجنسين والشباب، وصوّت 66% من هؤلاء لزهران ممداني في الجولة الأخيرة، وأدى ذلك إلى رفع معدلات المشاركة في التصويت إلى أكثر من مليوني صوت، في حين صوّت نحو 1.15 مليون ناخب فقط في انتخابات بلدية نيويورك سنة 2021، بفارق 888 ألف صوت. 

في النهاية حسم زهران ممداني المعركة بأكثر من مليون صوت، يعود معظمها إلى المهاجرين (خصوصاً من جنوبي آسيا، الهند وبنغلادش وما شابه) والشباب والأقليات العرقية والفقراء ومتوسطي الدخل، في حين هيمن أندرو كومو في الدوائر الأكثر ابيضاضاً وثراءً، مثل "ستاتن أيلند"، إحدى مناطق نيويورك الإدارية الخمس، ومثل منطقة "منهاتن" العليا، شرقاً وغرباً.  

لا يمثل الناخبون المسلمون إلا 4% من ناخبي نيويورك، لذلك لم يكونوا من حسم المعركة، على الرغم من أن نحو 90% منهم طبعاً صوتوا مع ممداني.  أما اليهود، الذين يعيش 1.3 مليون منهم في نيويورك، فصوّت 63% من ناخبيهم مع كومو، و3% مع المرشح الجمهوري كورتس سلوا، ونحو 33% مع ممداني، وسنأتي إلى تفسير ذلك الثلث الثالث بعد قليل.  

يذكر أيضاً أن مناطق اليهود المتشددين (الأرثوذُكس) صوّتت بنسبة 80% مع كومو.  كما أن الأوليغارشية اليهودية في نيويورك أنفقت علناً مئات ملايين الدولارات في الحملة ضد ممداني، ومن هؤلاء رموز معروفة في عالم رأس المال المالي الدولي مثل رونالد لودر، ومايكل بلومبرغ، وبِل آكمَن، ودانيال لووب، وغيرهم كثير.  وكان سلاح ممداني في مواجهة ذلك كله أكثر من 100 ألف متطوع جالوا المنازل في المدينة باباً فباب.  

وكما قال جورج غالاوي، في برنامجه في قناة "يوتيوب" مع القاضي الأميركي أندرو نابوليتانو، في 6/11/2025، تحت عنوان "هل اندلعت الثورة في نيويورك؟"، فإن الفرحة بانتصار ممداني لا تنبع من مدى التقاطع معه (وغالاوي لا يعد ممداني حتى اشتراكياً)، بل من الصفعة الكبيرة التي تلقتها الأوليغارشية اليهودية في نيويورك من جراء انتصاره. 

ولولا مئاتُ آلاف الناخبين الجدد، المهمشين سياسياً واجتماعياً، ممن نجح ممداني بزجهم في المعركة الانتخابية، لما حدثت الهزة الكبرى المتمثلة بنجاحه طبعاً.  أنظر مثلاً تقرير "ذا غارديان" البريطانية في 8/11/2025 تحت عنوان "فوز زهران ممداني يظهر قوة حشد غير الناخبين". 

لكنّ دخول أولئك على الخط يمثل أيضاً نجاحاً لمقولة "العمل من داخل النظام"، وتجديداً لمشروعيته، وتأكيداً لمزاعم انفتاحه على التغيير المضبوط بقواعد اللعبة.  فمن الذي يكون قد انتصر فعلياً هنا: ممداني، أم المنظومة الحاكمة الأميركية؟  

وإذا افترضنا أن ممداني هو الذي انتصر، هل يتمثل ذلك بهويته كمسلم أو كمهاجرٍ آسيويٍ مجنّس أو كاشتراكي، في معقل رأس المال المالي الدولي في نيويورك، أم بقدرة نجاحه الانتخابي على إحداث تغيير حقيقي في سياسات المنظومة الحاكمة وطبيعتها؟  

بتعبير آخر، هل يتمثل النجاح باستعراض المزيد من نماذج العرب والمسلمين (والعربيات والمسلمات) الذين ينخرطون في سلك الأجهزة الأمنية الأميركية لمحاربة "الإرهاب"، على طريقة أفلام هوليود مثلاً، أم بإعادة توزيع الثروة والسلطة داخلياً، وبإيقاف إرهاب الدولة الذي تمارسه الإدارة الأميركية في الخارج حروباً وحصاراً وعملياتٍ وعقوباتٍ؟  هل تغير الإمبريالية جلدها، كالأفعى عندما يحلّ الربيع، أم أن القرد يمكن حقاً أن يتحول إلى غزال؟  وهل ننتظر ونرى إذاً، أم نستقرئ النتيجة منذ الآن؟  

لنأخذ برنامج ممداني الانتخابي القائم على تلبية المطالب المعيشية أساساً: باصات مجانية، تجميد إيجارات المنازل، رعاية أطفال شاملة، رفع الحد الأدنى للأجور تدريجياً، من بين أشياء أخرى، على أن يُموّل بعض تلك المشاريع من خلال زيادة الضرائب على أرباح الشركات من 7.25% إلى 11.5%، ورفع الضرائب على الدخل بمقدار 2% على من يربو دخلهم على أكثر من مليون دولار سنوياً.

ليست الأمور بتلك البساطة، في الواقع، إذ إن زيادة الضرائب تحتاج إلى موافقة المجلس التشريعي في الولاية، لا المدينة فحسب، وموافقة حاكمة الولاية، كاثي هوتشُل، التي أعلنت أنها ستنقضها.  

كما أن الشركات التي تتعرض لأعلى ضريبة أرباح مقارنة بأي ولاية أميركية أخرى سوف تأخذ رأس مالها وتغادر نيويورك، تاركةً خلفها قحطاً استثمارياً سوف يرفع معدلات البطالة ويضعف الدورة الاقتصادية ومستويات الدخل، والرأسماليون يهددون بذلك منذ الآن (انظر مجلة "فوربز" في 5/11/2025).  ومدينة نيويورك، في النهاية، ليست كوكباً قائماً بذاته.

أما تجميد الإيجارات، فمدينة نيويورك لها تاريخ طويل معه عبر القرن الـ 20، ونتيجته الطبيعية وخيمة، حتى أننا نُدرّس آثاره في مادة علم الاقتصاد الجزئي تحت عنوان "السقف السعري" Price Ceiling، والذي يعني أن تجميد الإيجارات ما دون مستوى التوازن السعري سوف يخلق عجزاً في عرض الشقق، التي سوف تنشأ سوق سوداء لها، وأزمة سكن أشد من ذي قبل، وسوف يرفض أصحاب المنازل تأجيرها، أو سوف يهملون صيانتها بشدة عندما يؤجرونها.  

نيويورك شهيرة أصلاً في أن الناس كانوا يتابعون صفحة الوفيات في الصحف حتى يستأجروا شقق المتوفين.  والطريقة الوحيدة لتخفيض الإيجارات هي إغراق السوق بمنازلَ جديدةٍ يعد ممداني ببناء 200 ألف وحدة منها.  لكنْ كيف؟  بأي قروض؟ وأي موارد؟

على صعيد الاقتصاد السياسي، يبدو أن ممداني ومديري حملته لا يدركون أنهم يعبثون مع رأس المال المالي الدولي في معقله، فإذا كانت "وول ستريت" قادرة على سربلة دولٍ عظمى بالعقوبات، وعلى خنق اقتصاداتها، فإن ممداني لن يستمر إلا بإرادتها.  ولا مشروع مناهضاً له في نيويورك وحدها، والصراع مع رأس المال المالي الدولي ليس برنامجاً مطلبياً.

بشأن غزة وفلسطين، على الرغم من كونهما عنوانين رئيسين في الحملة الانتخابية على الجهتين، فليكن واضحاً أن ممداني ظهر في أكثر من فيديو أكّد فيه اعترافه بحق الكيان الصهيوني بالوجود، وأن مصدر خلاف الصهاينة الليبراليين معه نشأ من رفضه الاعتراف بـ "إسرائيل" كدولة يهودية، ومن دعمه لمقاطعة الكيان الصهيوني.  

خلاصة الأمر أن تحالفاً نشأ مع الصهاينة الليبراليين ضد حكومة نتنياهو، وأن هؤلاء دعموا ممداني في نيويورك، على الرغم من خلافهم معه بشأن جوانب شتى في الشأن الفلسطيني، في سياق الصراع الجاري في الكيان الصهيوني وخارجه بين العلمانيين والليبراليين من جهة، واليمين الصهيوني من جهةٍ أخرى.

في ذلك السياق تحديداً، نال ممداني مصادقة براد لاندر، أعلى مراقب مالي في مدينة نيويورك، وهو صهيوني ليبرالي.  كذلك نال ممداني مصادقة جيرولد نادلر، أقدم عضو يهودي في الكونغرس الأميركي، ومصادقة عضو المجلس التشريعي في نيويورك، ميكا لاشر، المرشح لخلافة نادلر في الكونغرس.  

كما نال ممداني مصادقة فيكتور كوفنر، أحد مؤسسي منظمة "جاي ستريت" الصهيونية الليبرالية، ومصادقة عضوة مجلس شيوخ نيويورك ليز كروغر، ومصادقة الحاخامة الفخرية في جماعة بيت سمخات توراة لليهود المثليين في نيويورك، شارون كلاين بوم.  

والمصدر هو موقع "تيارات يهودية" Jewish Currents في 5/11/2025، تحت عنوان "أنشأ ممداني تحالفاً يسارياً ليبرالياً بشأن إسرائيل وفلسطين".  وهذا هو ما يفسر تصويت ثلث يهود نيويورك له، ولا يجوز الخلط هنا بين معارضة سياسات حكومة نتنياهو ومناهضة الصهيونية، كما أشرت في مادة "المنظومة الليبرالية في الغرب في مواجهة أزمة غزة داخلياً".

عشية 7 أوكتوبر، أدان ممداني العملية المجيدة بصفتها "جرائم حرب"، داعياً إلى نزع سلاح الطرفين، ومديناً قتل المدنيين "على الجانبين" ("نيويورك تايمز"، في 25/6/2025).

يُذكر أن ممداني أدان "الديكتاتوريات" في كوبا وفنزويلا، منتقداً العقوبات الأميركية عليهما في الآن عينه.

باختصار، وصول ممداني إلى رئاسة بلدية نيويورك تعبير عن أزمة منظومة، نعم، أزمة ضمن الحركة الصهيونية العالمية، بين التيارين اليميني والليبرالي، وضمن النخبة الحاكمة الأميركية التي شقّها ترامب، على الرغم من أنه هرع مع إيلون ماسك في اللحظة الأخيرة لنصرة أندرو كومو، على حساب المرشح الجمهوري لبلدية نيويورك سلوا، في مواجهة ممداني، وأزمة قوة عظمى في طور الأفول راحت تشتد فيها معاناة القوى العاملة معيشياً مع سياسات ترامب.  

لكنّ ممداني ليس مؤشراً على إمكانية التغيير من داخل النظام، ولا على انتصار المسلمين والمهاجرين والاشتراكيين في نيويورك، وإنما عملية تصحيح واستعادة توازن تجري تحت عين المنظومة الحاكمة الأميركية بعناية.